فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب المساجد في البيوت

باب
المساجد في البيوت
وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة.

مساجد البيوت، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها.

وقد قدمنا في آخر ( ( كتاب: الحيض) ) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجد بيت ميمونة، وهي مضطجعة إلى جانبه، وهي حائض.

وروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته.

خرجه الإمام أحمد.

وروى محمد بن سعد: ابنا قبيصة: ابنا سفيان: عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر.

وبإسناد: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر.
وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض.
هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء.

ومنع إسحاق من جلوس الجنب فيها والحائض -: نقله عنه حرب.

وأجاز الاعتكاف فيها للمرآة خاصة طائفة من فقهاء الكوفيين، منهم: النخعي والثوري وأبو حنيفة.

وعنه وعن الثوري: أن المرأة لا يصح اعتكافها في غير مسجد بيتها.

وقول الأكثرين أصح.

وقد روي عن ابن عباس، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.

خرجه حرب الكرماني.

وروى عمرو بن دينار، عن جابر، أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قَالَ: لا يصلح، لتعتكف فِي مسجد؛ كما قال الله: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] .

خرجه الأثرم.

وجابر هذا يحتمل أنه جابر بن عبد الله الصحابي، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي.

واعتكف أبو الأحوص صاحب ابن مسعود في مسجد بيته.

ورخص فيه الشعبي.
وهؤلاء جعلوا مساجد البيوت حكمها حكم المساجد في الاعتكاف، ولو كان هذا صحيحا لاعتكف أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مساجد بيوتهن، وإنما كن يعتكفن في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وأما إقامة الجماعة للصلوات في مساجد البيوت فلا يحصل بها فضيلة الصلاة في المساجد، وإنما حكم ذلك حكم من صلى في بيته جماعة وترك المسجد.

قال حرب: قلت لأحمد: فالقوم نحو العشرة يكونون في الدار، فيجتمعون وعلى باب الدار مسجد؟ قال: يخرجون إلى المسجد، ولا يصلون في الدار، وكأنه قال: إلا أن يكون في الدار مسجد يؤذن فيه ويقام.
انتهى.

ومتى كان المسجد يؤذن فيه ويقام ويجتمع فيه الناس عموما، فقد صار مسجدا مسبلا، وخرج عن ملك صاحبه بذلك عند الإمام أحمد، وعامة العلماء، ولو لم ينو جعله مسجدا مؤبدا.

ونقل أبو طالب عن أحمد فيمن بنى مسجدا من داره، أذن فيه وصلى مع الناس، ونيته حين بناه وأخرجه أن يصلي فيه، فإذا مات رد إلى الميراث؟ فقال أحمد: إذا أذن فيه ودعا الناس إلى الصلاة فلا يرجع بشيء، ونيته ليس بشيء.

ووجه هذا: أن الإذن للناس في الصلاة إذا ترتب عليه صلاة الناس، فإنه يقوم مقام الوقف بالقول مع حيازة الموقوف عليه، ورفع يد الواقف، فيثبت الوقف بذلك، ونية رجوعه إلى ورثته كنية توقيت الوقف، والوقف لا يتوقت بل يتأبد، وتلغو نيته توقيته.

وقال حرب - أيضا - سمعت إسحاق يقول: الاعتكاف في كل مسجد خارج من البيت جائز، وان كانت الدار عظيمة مما يجتمع أهل المحلة في مسجد تلك الدار، ويدخلها غير أهل الدار لما جعل المسجد لله جاز الاعتكاف فيه - أيضا -، فأما رجل جعل مسجدا لنفسه، ولم يجعله للجماعة ترفقا بنفسه، فإنه لا يكون فيه اعتكاف، ولا فضل الجماعة - أيضا -، إلا أن يكون به عذر، ولا يمكنه أن يستقل إلى المسجد، فحينئذ يكون له فضل الجماعة في ذلك المسجد، فإن اعتكف فيه كان له اجر، ولا يسمى معتكفا؛ لان الاعتكاف إنما يكون في موضع بارز.

وبكل حال؛ فينبغي أن تحترم هذه البقاع المعدة للصلاة من البيوت، وتنظف وتطهر.

قال الثوري في المساجد التي تبنى في البيوت: ترفع ولا تشرف، وتفرغ للصلاة، ولا تجعل فيها شيئا.

وقد روي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان فِي
( ( صحيحهما) ) .

خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلا، من غير ذكر: ( ( عائشة) ) .

وقال: هو أصح.

وكذلك أنكر الإمام أحمد وصله.

وقال الدارقطني: الصحيح المرسل.

وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية ابن إسحاق: حدثني عمر بن عبد الله بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عمن حدثه من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا، وان نصلح صنعتها ونطهرها.
وخرجه أبو داود بنحو هذا اللفظ من حديث سمرة بن جندب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد اختلف في تفسير ( ( الدور) ) في هذه الأحاديث:
فقيل: المراد بها البيوت، وبذلك فسره الخطابي وغيره.

وخرج ابن عدي حديث عائشة، ولفظه: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتنظيف المساجد التي في البيوت.

وقال أكثر المتقدمين: المراد بالدور هنا: القبائل، كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعده، وفي كل دور الأنصار خير) ) .

وبهذا فسر الحديث سفيان الثوري ووكيع بن الجراح وغيرهما.

وعلى هذا: فالمساجد المذكورة في الحديث هي المساجد المسبلة في القبائل والقرى؛ دون مساجد الأمصار الجامعة.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :417 ... غــ :425 ]
- ثنا سعيد بن عفير: ثنا الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد بدرا من الأنصار -، أنه أتى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في
بيتي، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( سأفعل، إن شاء الله) ) .
قال عتبان: فغدا علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: ( ( أين تحب أن أصلي من بيتك) ) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر، فقمنا خلفه، فصففنا فصلى ركعتين، ثم سلم.
قال: وحبسناه على خزيرة صنعناها له.
قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد، فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن - أو ابن
الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله.
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟) ) قال: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين.
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله) ) .
قال ابن شهاب: ثم سألت بعد ذلك الحصين بن محمد الأنصاري - وهو أحد بني سالم، وهو من سراتهم - عن حديث محمود بن الربيع، فصدقه بذلك.

عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف، شهد بدرا وأحدا - كما في هذا الحديث - ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا، وكان ذهب بصره في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يؤم قومه وهو ضرير البصر وهو شيخ كبير إلى أن توفي في زمن معاوية.

والظاهر: أنه لما اشتكى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن قد ذهب بصره بالكلية، بل كان قد ساء بصره، كذا وقع في ( ( صحيح مسلم) ) من رواية الأوزاعي، عن الزهري وهو معنى قوله في هذه الرواية: ( ( أنكرت بصري) ) .

ولكن رواه مالك، عن الزهري، وقال فيه: إن عتبان قال: ( ( وأنا رجل ضرير البصر) ) .

وقد خرجه البخاري في موضع آخر.

وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: ثنا محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، ففعل.

وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر - أعني: رواية أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع.

ورواه حماد بن سلمة: ثنا ثابت، عن أنس: حدثني عتبان بن مالك، أنه
عمي، فأرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، تعال فخط لي مسجدا.
فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث.

ولعل هذه الرواية أشبه، وحماد بن سلمة مقدم في ثابت خاصة على غيره.

وقد خرجه مسلم في أول ( ( صحيحه) ) من هذين الوجهين.

وروى هذا الحديث قتادة، واختلف عليه فيه:
فرواه شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر في إسناده: ( ( عتبان) ) .

وخالفه حجاج بن حجاج، فرواه عن قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن محمود بن عمير بن سعد، أن عتبان أصيب ببصره - فذكر الحديث.

خرجه النسائي في ( ( كتاب اليوم والليلة) ) من الطريقين.

وقوله: ( ( محمود بن عمير بن سعد) ) ، الظاهر أنه وهم؛ فقد رواه علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثني أبو بكر بن أنس، قال: قدم أبي الشام وافدا وأنا معه، فلقينا محمود بن الربيع، فحدث أبي حديثا عن عتبان بن مالك، فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة، فسألنا عنه، فإذا هو حي، فإذا بشيخ كبير أعمى، فسألناه عن الحديث، فقال: ذهب بصري على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث بطوله.

خرجه الإمام أحمد.

فتبين بهذه الرواية أن أبا بكر بن أنس سمعه من محمود بن الربيع عن عتبان، ثم سمعه من عتبان.

وقد اعتذر عتبان - أيضا - بأن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه الذي يصلي بهم فيه، فطلب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيه في بيته فيصلي فيه، حتى يتخذه مصلى.

وفي هذا: استحباب اتخاذ آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومواضع صلواته مصلى يصلى فيه.

وقد ذكر ابن سعد، عن الواقدي، أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك.

ويشهد لهذا المعنى - أيضا -: قول عمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فَنَزَلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .

وقد نقل أحمد بن القاسم وسندي الخواتيمي، عن الإمام أحمد، أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه.

وفي رواية ابن القاسم: أن أحمد ذكر قبر الحسين، وما يفعل الناس عنده - يعني: من الأمور المكروهة المحدثة.

وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة الله ورسوله.

وقد رأى الحسن قوما يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فتنافسوا.

يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه.

وكذلك من يبالغ في تزيين المصحف وتحسينه، وهو مصر على مخالفة أوامره وارتكاب مناهيه.

وقد روى عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على كراهة ذلك - أيضا -:
فروي عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فلما انصرف رأى الناس مسجدا فبادروه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض.

وقال نافع: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.

وقال ابن عبد البر: كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان؛ وذلك – والله أعلم – مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى فِي مثل ذَلِكَ.

ذكره فِي ( ( الاستذكار) ) فِي الكلام عَلَى حَدِيْث: ( ( اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .

وقال: ذكر مالك [.. ..] بإثر هذا الحديث حديث عتبان بن مالك؛ ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله.

قال: والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمان به وتصديق، وحب في الله وفي رسوله.

وفي الحديث: دليل على أن المطر والسيول عذر يبيح له التخلف عن الصلاة في المسجد.

وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرخص له:
قال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن هو؟ قال: هو محمود - إن شاء الله -، أن عتبان بن مالك كان رجلا محجوب البصر، وانه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخلف عن الصلاة، فقال: ( ( هل تسمع النداء؟) ) قال: نعم.
فلم يرخص له.

وكذا رواه محمد بن سعد، عن سفيان.

وهو يدل على أن سفيان شك في إسناده، ولم يحفظه.

وقال الشافعي: أبنا سفيان بن عيينة: سمعت الزهري يحدث، عن محمود ابن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله، إني محجوب البصر، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد، فهل لي من عذر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( هل تسمع النداء؟) ) قال: نعم.
فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا أجد لك من عذر إذا سمعت النداء) ) .
قال سفيان: وفيه قضية لم أحفظها.

قال الشافعي: هكذا حدثنا سفيان، وكان يتوقاه، ويعرف أنه لم يضبطه.

قال: وقد أوهم فيه - فيما نرى -، والدلالة على ذلك: ما أبنا مالك، عن ابن شهاب - ثم ذكر حديث عتبان المتقدم، على ما رواه الجماعة عن الزهري.

قال البيهقي: اللفظ الذي رواه ابن عيينة في هذا الإسناد إنما هو في قصة ابن أم مكتوم الأعمى.

قلت: وقد اشتبهت القصتان على غير واحد، وقد سبق عن الإمام أحمد أنه ذكر أن ابن أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، وإنما هو عتبان بن مالك.

وقد اشتبه على بعض الرواة محمود بن الربيع الراوي له عن عتبان، فسماه محمود بن لبيد، وهو - أيضا - وهم، وقد وقع فيه بعض الرواة للحديث عن مالك.

وقال يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمود بن الربيع - أو الربيع بين محمود - شك يزيد.

وقد روي عن ابن عيينة بإسناد آخر: خرجه ابن عبد البر في ( ( التمهيد) ) ، من طريق عبيد الله بن محمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة - إن شاء الله -، عن عتبان بن مالك، أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخلف عن الصلاة، فقال: ( ( أتسمع النداء؟) ) قَالَ: نَعَمْ.
فَلَمْ يرخص لَهُ.

وهذا الإسناد غير محفوظ، ولهذا شك فيه الراوي - إما عن سفيان أو غيره -، وقال: ( ( إن شاء الله) ) ، وإنما أراد حديث محمود بن الربيع.

وأما ابن أم مكتوم، فقد خرجه مسلم من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي
هريرة، قال: أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، أنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد.
فسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: ( ( هل تسمع النداء بالصلاة) ) قال: نعم.
قال: ( ( فأجب) ) .
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى ابن أم مكتوم إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع؟ قال: ( ( فإن سمعت الأذان فأجب، ولو حبوا، ولو زحفا) ) .

وعيسى بن جارية، تكلم فيه.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في ( ( صحيحه) ) والحاكم من حديث عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن اصلي في بيتي؟ قال: ( ( هل تسمع النداء؟) ) قال: نعم.
قال: ( ( لا أجد لك رخصة) ) .

وفي إسناده اختلاف على عاصم:
وروي عنه، عن أبي رزين مرسلا.

ورواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي رزين، عن أبي هريرة.

وأبو سنان، قال أحمد: ليس بالقوي.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، من حديث عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع.
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟) ) قال: نعم.
قال: ( ( فحيهلا) ) .

وخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شداد، عن ابن أم مكتوم؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى المسجد فرأى في القوم رقة، فقال: ( ( إني لأهم أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه) ) .
فقال ابن أم مكتوم، يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: ( ( أتسمع الإقامة؟) ) قال: نعم.
قال: ( ( فأتها) ) .

وخرجه ابن خزيمة والحاكم من رواية أبي جعفر الرازي، عن حصين، به - بنحوه.

وقد روي هذا الحديث من رواية البراء بن عازب وأبي أمامة وكعب بن عجرة.
وفي أسانيدها ضعف.
والله أعلم.
وقد أشكل وجه الجمع بين حديث ابن أم مكتوم وحديث عتبان بن مالك، حيث جعل لعتبان رخصة، ولم يجعل لابن أم مكتوم رخصة:
فمن الناس: من جمع بينهما بأن عتبان ذكر أن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه، وهذا عذر واضح؛ لأنه يتعذر معه الوصول إلى المسجد، وابن أم مكتوم لم يذكر مثل ذلك.
وإنما ذكر مشقة المشي عليه.
وفي هذا ضعف؛ فإن السيول لا تدوم، وقد رخص له في الصلاة في بيته بكل حال، ولم يخصه بحالة وجود السيل، وابن أم مكتوم قد ذكر أن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وذلك يقوم مقام السيل المخوف.

وقيل: إن ابن أم مكتوم كان قريبا من المسجد، بخلاف عتبان، ولهذا ورد في بعض طرق حديث ابن أم مكتوم: أنه كان يسمع الإقامة.
ولكن في بعض الروايات أنه أخبر أن منزله شاسع كما تقدم.

ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان، فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.

وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.

يعني: أن هذا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.
وقيل: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد أنه لا يجد لابن أم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته.

واستدل بعض من نصر ذلك - وهو: البيهقي - بما خرجه في ( ( سننه) ) من طريق أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن ابن أم مكتوم، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي قائدا لا يلائمني في هاتين الصلاتين؟ قَالَ: ( ( أي
الصلاتين؟)
)
قلت: العشاء والصبح.
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوا) ) .

وحديث ابن أم مكتوم يدل على أن العمى ليس بعذر في ترك الجماعة، إذا كان قادرا على إتيانها، وهو مذهب أصحابنا.

ولو لم يمكنه المجيء إلا بقائد ووجد قائدا متبرعا له، فهل يجب عليه حضور المسجد؟ على وجهين، ذكرهما ابن حامد من أصحابنا.

وهذا بناء على قول أحمد: إن حضور المسجد للجماعة فرض عين.

وسيأتي ذكر ذلك مستوفى في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وقد يستدل بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصا للأعذار.

ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته مسجدا يؤذن فيه، ويقيم، ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردا، فلم يأذن له، وهذا اقرب ما جمع به بين الحديثين.
والله أعلم.

لكن في ( ( سنن البيهقي) ) من حديث كعب بن عجرة، أن رجلا أعمى أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني اسمع النداء، ولعلي لا أجد قائدا، أفأتخذ مسجدا في داري؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( تسمع النداء؟) ) قال: نعم.
قال: ( ( فإذا سمعت النداء فاخرج) ) .

وفي إسناده اختلاف، وقد قال أبو حاتم فيه: أنه منكر.

ومع هذا؛ فلا دلالة فيه على أنه أراد أن يصلي في بيته جماعة، إنما فيه أنه أراد أن يجعل في داره مسجدا لصلاته في نفسه.

وفي حديث عتبان: دليل على جواز إمامة الأعمى، وجواز الجماعة في صلاة التطوع - أحيانا -، وجواز إمامة الزائر بإذن المزور في بيته.

وقوله: ( ( وحسبناه على خزيرة صنعناها له) ) يدل على أن الزائر وإن كان صاحب المنزل قد استدعاه إلى بيته لحاجة له، فإنه يستحب له أن يضيفه، وإن حبسه لذلك في بيته بعد انقضاء حاجته لم يضر ذلك، بشرط ألا يكون على الزائر فيه مشقة.
( ( والخزيرة) ) : مرقة تصنع من النخالة.
وقيل: من الدقيق - أيضا -، وقيل: أنه لا بد أن يكون معها شيء من دسم من شحم أو لحم.
وخص بعضهم دسمها باللحم خاصة.

وقوله: ( ( فثاب في البيت رجال) ) - يعني جاءوا متواترين، بعضهم في اثر بعض.

وقوله: ( ( من أهل الدار) ) - يعني: دار بني سالم بن عوف، وهم قوم عتبان.

وفي قوله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا تقل ذلك) ) نهى أن يرمي احد بالنفاق لقرائن تظهر عليه، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجري على المنافقين أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم، فكيف بمسلم يرمي بذلك بمجرد قرينة؟
وفيه: أن من رمى أحدا بنفاق، وذكر سوء عمله، فإنه ينبغي أن ترد غيبته، ويذكر صالح عمله؛ ولهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أن لا اله إلا الله وان محمد عبده ورسوله، لا يلتفت إلى قول من قال: إنما يقولها تقية ونفاقا.

وإنما لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهجر مالك بن الدخشن؛ لأنه لم يعرف عنده بما يخشى عليه من النفاق، ولم يثبت ذلك ببينة، وإنما رمي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يخشى عليهم منه النفاق؛ ولهذا عذر المعتذرين ووكلهم إلى الله، وكان كثير منهم كاذبا.

وقد سبق القول في معنى تحريم من قال: ( ( لا اله إلا الله) ) على النار، في أواخر ( ( كتاب: العلم) ) .

وقد شهد مالك بن الدخشم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدرا واحدا والمشاهد كلها، واختلفوا: هل شهد مع الأنصار بيعة العقبة، أم لا؟
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه مع عاصم بن عدي لتحريق مسجد الضرار وهدمه.

وقد روى أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في داره، فأتاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واجتمع قومه، وتغيب رجل منهم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أين فلان؟) ) فغمزه رجل منهم، فقال: أنه، وانه! فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أليس قد شهد بدرا؟) ) قالوا: بلى.
قال: ( ( فلعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ) .

وخرجه الطبراني من طريق حماد - أيضا -، حديثه: أن رجلا من الأنصار عمي، فبعث إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخطط لي في داري مسجدا لأصلي فيه.
فجاء
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اجتمع إليه قومه وتغيب رجل.
وخرجه ابن ماجة أول الحديث فقط، وخرج أبو داود آخره فقط من طريق حماد.

ولأنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث آخر في معنى حديث عتبان.
خرجه البخاري في مواضع أخر، وقد ذكرناه في ( ( باب: الصلاة على الحصير) ) فيما تقدم.