فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: حد المريض أن يشهد الجماعة

بَاب
حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ
قوله: ( ( حد المريض) ) ضبطه جماعة بالجيم المكسورة، والمعنى: اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة، ومنهم من ضبطه بالحاء المهملة المفتوحة، وفسره بالعزم والحرص.

ابتدأ البخاري - رحمه الله - فِي ذكر الأعذار الَّتِيْ يباح معها التخلف عَن شهود الجماعة، فمنها: المرض، وَهُوَ عذر مبيح لترك الجماعة، ولهذا أمر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بَكْر أن يصلي بالناس، وإنما خرج إلى الصلاة لما وجد من نفسه خفة.

وخروج المريض إلى المسجد ومحاملته أفضل، كما خرج النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهادى بَيْن رجلين.

وقد قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد كَانَ الرَّجُلُ يهادي بَيْن رجلين حَتَّى يقام فِي الصف.

ومتى كَانَ المريض لا يقدر عَلَى المشي إلى المسجد، وإنما يقدر أن يخرج محمولاً لَمْ يلزمه الخروج إلى الجماعة.

ولو وجد الزمن من يتطوع بحمله لَمْ تلزمه الجماعة، وفي لزوم الجمعة لَهُ بذلك وجهان لأصحابنا.

قَالَ ابن المنذر: ولا أعلم اختلافاً بَيْن أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عَن الجماعات من أجل المرض.
خرج البخاري فِي هَذَا الباب حَدِيْث عَائِشَة فِي مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريقين:
الأول:
قَالَ:
[ قــ :644 ... غــ :664 ]
- حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص بْن غياث: ثنا أَبِي: ثنا الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، قَالَ: كنا عِنْدَ عَائِشَة، فذكرنا المواظبة عَلَى الصلاة، والتعظيم لها.
قَالَتْ: لما مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرضه الَّذِي مات فِيهِ، فحضرت الصلاة، فأوذن، فَقَالَ: ( ( مروا أبا بَكْر فليصل بالناس) ) .
فَقِيلَ لَهُ: إن أبا بَكْر رَجُل أسيف، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد، فأعادوا لَهُ، فأعاد الثالثة، فَقَالَ: ( ( إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بَكْر فليصل بالناس) ) .
فخرج أبو بَكْر فصلى، فوجد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه خفة، فخرج يهادى بَيْن رجلين، حَتَّى كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع، فأراد أبو بَكْر أن يتأخر، فأوما إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مكانك.

ثُمَّ أتي بِهِ حَتَّى جلس إلى جنبه.

فَقِيلَ للأعمش: وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر؟ فَقَالَ برأسه: نَعَمْ.

روى أبو داود، عَن شعبة، عَن الأعمش بعضه.
وزاد أبو معاوية: جلس عَن يسار أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر يصلي قائماً.

قَالَ الخطابي: الأسيف: الرقيق القلب، الَّذِي يسرع إليه الأسف والحزن.

قَالَ: ويهادى: يحمل، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة.

قَالَ: وقوله: ( ( صواحبات يوسف) ) يريد النسوة اللاتي فتنه وتعنتنه.

انتهى.

وكانت عَائِشَة هِيَ الَّتِيْ أشارت بصرف الإمامة عَن أَبِي بَكْر؛ لمخافتها أن يتشاءم النَّاس بأول من خلف رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الإمامة، فكان إظهارها لرقة أَبِي بَكْر خشية أن لا يسمع النَّاس توصلاً إلى مَا تريده من صرف التشاؤم عَن أبيها.
ففيه نوع مشابهة لما أظهره النسوة مَعَ يوسف عَلِيهِ السلام مِمَّا لا حقيقة لَهُ توصلاً إلى مرادهن.

وكان قصد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقديم أَبِي بَكْر عَلَى النَّاس فِي أهم أمور الدين حَتَّى تكون الدنيا تبعاً للدين فِي ذَلِكَ.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن تخلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الخروج اولاً لشدة الوجع عَلِيهِ، فأنه لَمْ يمكنه الخروج بالكلية، فلما وجد من نفسه خفة فِي الألم خرج محمولاً بَيْن
رجلين، يعتمد عَلَيْهِمَا ويتوكأ، ورجلاه تخطان الأرض، فَلَمْ يستطع أن يمشي برجليه عَلَى الأرض لقوة وجعه، بل كَانَ يحمل حملاً.

ولما رأى أبو بَكْر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خرج أراد أن يتأخر تأدباً مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأومأ إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مكانك، أي: اثبت مكانك، ثُمَّ أتي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أجلس إلى جانب أَبِي بَكْر.

وليس فِي هذه الرواية تعيين الجانب الَّذِي أجلس النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ من أَبِي بكرٍ: هَلْ هُوَ جانبه الأيمن أو الأيسر؟ وقد ذكر البخري أن أبا معاوية زاد فِي حديثه عَن الأعمش: ( ( فجلس عَن يسار أَبِي بَكْر) ) .

وقد خرج البخاري فيما بعد عَن قتيبة، عَن أَبِي معاوية كذلك.

وخرجه – أَيْضاً – من رِوَايَة عَبْد الله بْن داود الخريبي، عَن الأعمش، ولفظه: فتأخر أبو بَكْر، وقعد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنبه، وأبو بَكْر يسمع النَّاس التكبير.

[وذكر] أن محاضر بْن المورع رواه الأعمش كذلك.

وخرجه مُسْلِم من رِوَايَة زكيع وأبي معاوية، كلاهما عَن الأعمش، وفي حَدِيْث أَبِي معاوية عنده: فجاء رَسُول الله حَتَّى جلس عَن يسار أَبِي بَكْر.

وخرجه – أَيْضاً – من طريق عَلِيّ بْن مسهر وعيسى بْن يونس، كلاهما عَن الأعمش، وفي حديثهما: فأتي برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أجلس إلى جنبه.

وخرج إِسْحَاق بْن راهويه فِي ( ( مسنده) ) ، عَن وكيع، عَن الأعمش هَذَا الحَدِيْث،.

     وَقَالَ  فِيهِ: فجاء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جلس عَن يمين أَبِي بَكْر، يقتدي بِهِ، والناس يقتدون بأبي بَكْر.

وهذه زيادة غريبةُ.

وقد خرج الحَدِيْث الإمام أحمد فِي ( ( مسنده) ) ، عَن وكيع، ولم يذكر فِيهِ ذَلِكَ، بل قَالَ فِي حديثه: فجاء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جلس إلى جنب أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر يأتم بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يأتمون بأبي بَكْر.

وأما ذكر جلوسه عَن يسار أَبِي بَكْر، فتفرد بذلك أبو معاوية عَن الأعمش، وأبو معاوية وإن كَانَ حافظاً لحديث الأعمش خصوصاً، إلا أن ترك أصْحَاب الأعمش لهذه اللفظة عَنْهُ توقع الريبة فيها، حَتَّى قَالَ الحافظ أبو بَكْر بْن مفوز المعافري: إنها غير محفوظة، وحكاه عَن غيره من العلماء.

وأما رِوَايَة أَبِي داود الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش لبعض هَذَا الحَدِيْث، كما أشار إليه البخاري فإنه رَوَى بهذا الإسناد عَن عَائِشَة، قَالَتْ: من النَّاس من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقدم.

قَالَ البيهقي: هكذا رواه الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش، وراية الجماعة عَن الأعمش كما تقدم [عَلَى الإثبات والصحة] .
قُلتُ: قَدْ رَوَى غير واحد عَن شعبة، عَن الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر قاعداً.

وأما مَا ذكره حفص بْن غياث فِي روايته عَن الأعمش، أَنَّهُ قيل للأعمش: فكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر، فأشار برأسه: نَعَمْ، فإنه يشعر بأن هذه الكلمات ليست من الحَدِيْث الَّذِي أسنده الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، بل هِيَ مدرجة، وقد أدرجها أبو معاوية ووكيع فِي حديثهما عَن الأعمش.

ورواه [عَن همام] ، عَن الأعمش، فَلَمْ يذكر فِيهِ هَذَا الكلمات بالكلية، وهذا – أَيْضاً – يشعر بإدراجها.

وقد رَوَى عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم.
قَالَ عُرْوَةَ: فوجد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه خفة فخرج – فذكر معنى ذَلِكَ – أَيْضاً.

وهذا مدرج مصرح بإدراجه، وقد خرجه البخاري فيما بعد كذلك.

وروى الإمام أحمد: حَدَّثَنَا شبابة: ثنا شعبة، عَن سعد بْن إِبْرَاهِيْم، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه: ( ( مروا أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس) ) – وذكر الحَدِيْث، وفي آخره: فصلى أبو بَكْر، وصلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلفه قاعداً.
ولو كَانَتْ هذه الكلمات الَّتِيْ ذكرها الأعمش فِي حديثه فِي هَذَا الحَدِيْث عَن عَائِشَة، فكيف كَانَتْ تَقُول: من النَّاس من يَقُول: كَانَ أبو بَكْر المقدم بَيْن يدي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقدم.

وكذلك قَالَ ابن أخيها الْقَاسِم بْن مُحَمَّد فقيه المدينة.

قَالَ عُمَر بْن شبة فِي ( ( كِتَاب أخبار المدينة) ) : حَدَّثَنَا زيد بْن يَحْيَى أبو الحسين: ثنا صخر بْن جويرية، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح فِي اليوم الَّذِي مات فِيهِ فِي المسجد، جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بَكْر يصلي فجلس عِنْدَ رجليه، فمن النَّاس من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ المتقدم، وعظم الناس يقولون كَانَ أبو بَكْر هُوَ المتقدم.

قَالَ عُمَر بْن شبة: اختلف النَّاس فِي هَذَا، فَقَالَ بعضهم: صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر.
.

     وَقَالَ  أخرون: بل كَانَ أبو بَكْر يأتم بتكبير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويأتم النَّاس بتكبير أَبِي بَكْر.

وَقَالَ أبو بَكْر بْن المنذر: اختلفت الأخبار فِي صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ خلف أبي بَكْر، ففي بعض الأخبار: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس.

وفي بعضها: أن أَبَا بَكْر كَانَ المقدم.
وقالت عَائِشَة: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أبي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ.
انتهى.

وهذا المروي عَن عَائِشَة، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه مِمَّا يدل عَلَى أن هذه الألفاظ فِي آخر حَدِيْث الأعمش مدرجة، ليست من حَدِيْث عَائِشَة.

وقد رَوَى شبابة، عَن شعبة، عَن نعيم بْن أَبِي هند، عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عائشة، قَالَتْ: صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ.

خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) .

وَقَالَ الترمذي: حسن صحيح.

وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رِوَايَة بَكْر بْن عيسى، عَن شعبة بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصف.

وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة بَكْر بْن عيسى عَلَى رِوَايَة شبابة، وذكر أنها مخالفة لها.

وقد يقال: ليست مخالفة لها؛ فإن المراد بالصف صف المأمومين، فهما إذن بمعنى واحد.

وروى هَذَا الحَدِيْث معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أبيه، عَن نعيم بْن أَبِي هند، عَن أَبِي وائل، أحسبه عَن مسروق، عَن عَائِشَة – فذكرت حَدِيْث مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصلاة أَبِي بَكْر.
قَالَتْ: ثُمَّ أفاق رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءت نوبة وبريرة فاحتملاه، فلما أحس أبو بَكْر بمجيئه أراد أن يتأخر، فأومأَ إليه أن اثبت.
قَالَ: وجيء بنبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع بحذاء أَبِي بَكْر فِي الصف.

خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) .

ومنعه من التأخر يدل عَلَى أَنَّهُ أراد أن يستمر عَلَى إمامته.
وخرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق عاصم، عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عَائِشَة، وزاد فِيهِ: فكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وَهُوَ جالس، وأبو بَكْر قائم يصلي بصلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر.

ولكن عاصم، هُوَ ابن أَبِي النجود، ليس بذاك الحافظ.

وروى شعبة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة، عَن عَائِشَة، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصف خلفه.

خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) من طريق بدل بْن المحبر، عَن شعبة.

وبدل، وثقة غير واحد، وخرج لَهُ البخاري فِي ( ( صحيحه) ) ، وإن تكلم فِيهِ الدراقطني.

خالفه فِيهِ أبو داود الطيالسي:
خرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ، فكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن يدي أَبِي بَكْر يصلي بالناس قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس، والناس خلفه.

وكذا رواه زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة.

وقد خرج حديثه البخاري فيما بعد بسياق مطول، وفيه: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بَيْن رجلين – أحدهما العباس – لصلاة الظهر – وذكر بقية الحَدِيْث بمعنى مَا رواه أبو معاوية ووكيع وغيرهما عَن الأعمش.

وقد ذكر ابن أَبِي حاتم فِي كِتَاب ( ( الجرح والتعديل) ) لَهُ عَن أَبِيه، قَالَ: يريبني حَدِيْث موسى بْن أَبِي عَائِشَة فِي صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه.
قُلتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: صالح الحَدِيْث.
قُلتُ: يحتج بِهِ؟ قَالَ: يكتب حديثه.

قُلتُ: وقد اختلف عَلِيهِ فِي لفظه، فرواه شعبة، عَنْهُ، كما تقدم، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فِي الصف خلف أَبِي بَكْر.

ورواه زائدة، واختلف عَنْهُ: فَقَالَ الأكثرون، عَنْهُ: إن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي وَهُوَ قائم بصلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قاعد، والناس يأتمون بصلاة أَبِي بَكْر.

ورواه عَبْد الرحمان بْن مهدي، عَن زائدة،.

     وَقَالَ  فِي حديثه: فصلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس وَهُوَ قائم يصلي.

وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة الأكثرين عَن زائدة عَلَى رِوَايَة ابن مهدي.

وليس ائتمام أَبِي بَكْر بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صريحاً فِي أنه كَانَ مأموماً، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يراعي فِي تلك الصلاة حال النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعفه، وما هُوَ أهون عَلِيهِ، كما قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بْن أَبِي العاص لما جعل إمام قومه: ( ( اقتد بأضعفهم) ) .

أي: راع حال الأضعف، وصل صلاةً لا تشق عليهم.

وقد اختلف العلماء: هَلْ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماماً لأبي بَكْر فِي هذه الصلاة، أو كَانَ مؤتماً بِهِ؟
وقد تقدم عَن عَائِشَة والقاسم بْن مُحَمَّد، أنهما ذكرا هَذَا الاختلاف، وأن الْقَاسِم قَالَ: عظم النَّاس يَقُول: أبو بَكْر كَانَ هُوَ المقدم – يعني: فِي الإمامة -، وعلماء أهل المدينة عَلَى هَذَا القول، وهم أعلم النَّاس بهذه القصة.

وذكر ابن عَبْد البر فِي ( ( استذكاره) ) أن ابن الْقَاسِم رَوَى عَن مَالِك، عَن رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرحمان، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وَهُوَ مريض، وأبو بَكْر يصلي بالناس، فجلس إلى أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر هُوَ الإمام، وكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بصلاة أَبِي بَكْر،.

     وَقَالَ  - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( مَا مات نبي حتى يؤمه رَجُل من أمته) ) .

قَالَ ابن الْقَاسِم: قَالَ مَالِك: العمل عندنا عَلَى حَدِيْث رَبِيعَة هَذَا، وَهُوَ أحب إلي.

قَالَ سحنون: بهذا الحَدِيْث يأخذ ابن الْقَاسِم.

أما مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، فهو أن هذه الصلاة الَّتِيْ حكتها عَائِشَة كَانَ
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الإمام فيها لأبي بَكْر، ثُمَّ اختلفا:
فَقَالَ أحمد: كَانَ أبو بَكْر إماماً للناس – أَيْضاً -، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ: بل كَانَ مأموماً، وَهُوَ الَّذِي ذهب إليه البخاري والنسائي.
وفرع عَلَى هَذَا الاختلاف مسألة الصلاة بإمامين، ومسألة الصلاة قاعداً أو قائماً خلف الإمام القاعد، وسيأتي ذَلِكَ مبسوطاً فِي مواضعه – إن شاء الله تعالى.

ولم ينف الشَّافِعِيّ ولا أكثر أصْحَاب الإمام أحمد أن يكون النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائتم بأبي بَكْر فِي غير هذه الصلاة، بل قَالَ الشَّافِعِيّ: لَوْ صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر مرة لَمْ يمنع ذَلِكَ أن يكون صلى خلفه مرة أخرى.

وكذلك ذكر أبو بَكْر عَبْد العزيز بْن جَعْفَر من أصحابنا فِي كتابه ( ( الشَّافي) ) ، وكذلك ذكره ابن حبان ومحمد بْن يَحْيَى الهمداني فِي ( ( صحيحيهما) ) ، والبيهقي وغيرهم.

وكذلك صنف أبو عبي البرداني وعبد العزيز بْن زهير الحربي من أصحابنا فِي إثبات صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر.

ورد ذَلِكَ أبو الفرج ابن الجوزي، وصنف فِيهِ مصنفاً، وَهُوَ يشتمل عَلَى أوهام كثيرة.

وقد ذكر كثير من أهل المغازي والسير أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه، منهم: موسى بْن عقبة، وَهُوَ أجل أهل المغازي، وذكر أن صلاته خلفه كَانَتْ صلاة الصبح يوم الإثنين، وَهُوَ آخر صلاة صلاها، وذكره عَن ابن شِهَاب الزُّهْرِيّ.

وروى ابن لهيعة، عَن أَبِي الأسود، عَن عُرْوَةَ - مثله.

وقد تقدم عَن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد نحوه.

وروي عَن الْحَسَن – أَيْضاً.

ولذلك رجحه ابن حبان والبيهقي وغيرهما.

وجمع البيهقي فِي ( ( كِتَاب المعرفة) ) بَيْن هَذَا وبين حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أنس:
أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كشف الستر فِي أول الصلاة، ثُمَّ وجد خفة فِي الركعة الثانية فخرج فصلاها خلف أَبِي بَكْر، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته.

وخرج ابن سعد فِي ( ( طبقاته) ) هَذَا المعنى من تمام حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد بأسانيد فيها مقال.
والله أعلم.

وبإسناد صحيح، عَن عُبَيْدِ بْن عمير – مرسلاً.

وروى ابن إِسْحَاق: حَدَّثَنِي يعقوب بْن عُتْبَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: رجع رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ اليوم حِينَ دَخَلَ المسجد، غاضطجع فِي حجري – ثُمَّ ذكرت قصة السواك الأخضر -، وقبض رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ.

خرجه الإمام أحمد.

وَهُوَ دليل عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ خرج إلى المسجد ذَلِكَ اليوم.
وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) أن المغيرة بْن شعبة سئل: هَلْ أم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُل من هذه الأمة غير أَبِي بَكْر الصديق؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كنا فِي سفر – ثُمَّ ذكر قصة صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراء عَبْد الرحمان بْن عوف.

وذكر ابن سعد فِي ( ( طبقاته) ) عَن الواقدي، أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي ثبت عندنا: أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر.

وفي صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا.

وقد خرج الترمذي من حَدِيْث حميد، عَن ثابت، عَن أنس، قَالَ: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه خلف أَبِي بَكْر قاعداً، فِي ثوب متوشحاً بِهِ.

وَقَالَ: حسن صحيح.

وخرجه –أَيْضاً– ابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) ، وصححه العقيلي وغير واحد.

وقد رواه جماعة عَن حميد، عَن أنس – من غير واسطة.

واختلف الحفاظ فِي الترجيح؛ فرجحت طائفة قَوْلِ من أدخل بَيْنَهُمَا ( ( ثابتاً) ) ، منهم: الترمذي وأبو حاتم الرَّازِي.
ومنهم من رجح إسقاطه، ومنهم: أبو زُرْعَة الرَّازِي.
والله تعالى أعلم.
الطريق الثاني:
قَالَ:


[ قــ :645 ... غــ :665 ]
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بم موسى: ثنا هِشَام بْن يوسف، عَن معمر، عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَة: لما ثقل رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتي، فأذن لَهُ، فخرج بَيْن رجلين، تخط رجلاه الأرض، وكان بَيْن عَبَّاس ورجل آخر.

قَالَ عُبَيْدِ الله: فذكرت ذَلِكَ لابن عَبَّاس مَا قَالَتْ عَائِشَة، فَقَالَ لِي: وهل تدري من الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تسم عَائِشَة؟ قُلتُ: لا.
قَالَ: هُوَ عَلِيّ بْن أَبِي طالب.

وقد رواه عَبْد الرزاق، عَن معمر، وذكر فِي حديثه: الفضل بْن عَبَّاس.

خرجه مُسْلِم من طريقه كذلك.

وخرجه من طريق عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، وذكر فِي حديثه: العباس، كما قَالَ هِشَام، عَن معمر.

وخرجه البخاري فِي ( ( وفاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ) من حَدِيْث عقيل مطولاً.

وقد فهم البخاري من خروجه بَيْن عَبَّاس وغيره خروجه إلي المسجد للصلاة.

وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ( ( كِتَاب الصلاة) ) – أَيْضاً.
وفي هَذَا نظر؛ وظاهر السياق يقتضي أنها أرادت خروجه إلى بيت عَائِشَة ليمرض فِيهِ.

يدل عَلِيهِ: أن فِي رِوَايَة عَبْد الرزاق، عن معمر الَّتِيْ خرجها مُسْلِم: أول مَا اشتكى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتها، فأذن لَهُ.
قَالَتْ: فخرج ويد لَهُ عَلَى الفضل - الحَدِيْث.

رواه ابن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بلفظ صريح بذلك: أن عَائِشَة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدور عَلَى نسائه، فلما ثقل استأذنهن أن يقيم فِي بيتي، ويدرن عَلِيهِ.

قَالَتْ: فذهب ينوء فَلَمْ يستطع، فدخل عَلِيّ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن رجلين، ورجلاه تخطان فِي الأرض؛ أحدهما العباس.

ورواه عَبْد الرحمان بْن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ والقاسم وأبي بَكْر ابن عَبْد الرحمان وعبيد الله بْن عَبْد االله، كلهم يحدثونه عَن عَائِشَة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جاءه مرضه الَّذِي مات فِيهِ في بيت ميمونة، فخرج عاصباً رأسه، فدخل عَلِيّ بَيْن رجلين، تخط رجلاه الأرض، وعن يمينه العباس - وذكر الحَدِيْث.

وكذا رواه صالح بْن كيسان، عَن ابن شِهَاب - مرسلاً: أَنَّهُ خرج بَيْن الرجلين تخط رجلاه الأرض، حَتَّى دَخَلَ بيت عَائِشَة.

وحينئذ؛ فلا ينبغي تخريج هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب، ولا هُوَ داخل فِي معناه بالكلية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.