فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: متى يسجد من خلف الإمام؟

بَاب
مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ؟
وَقَالَ أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( وإذا سجد فاسجدوا) ) .

حَدِيْث أَنَس هَذَا، قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَنْهُ، ويأتي فِي موضعه - إن شاء الله.

وفيه: دليل عَلَى أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، ولا يكون مَعَهُ ولا قبله.

[ قــ :669 ... غــ :690 ]
- حَدَّثَنَا مسدد، ثنا يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الله بن يزيد، قَالَ: حَدَّثَنِي البراء – وَهُوَ غير كذوب -، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قَالَ: ( ( سَمِعَ الله لمن حمده) ) لَمْ يحن أحد منا ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً، ثُمَّ نقع سجوداً بعده.

قَالَ أبو عَبْد الله: أخبرنا أبو نعيم، عَن سُفْيَان بهذا، وإنما أدخلت حَدِيْث مسدد لحال الإخبار.

هكذا وقع فِي بعض النسخ دون بعض.

ومعناه: أن هَذَا الحَدِيْث سمعه البخاري من أَبِي نعيم، عَن سُفْيَان – هُوَ: الثوري – بهذا الإسناد، ولكن معنعناً، وإنما خرجه عَن مسدد، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان نازلاً؛ لأنه ذكر فِي حديثه سماع سُفْيَان لَهُ من أَبِي إِسْحَاق، وسماع أَبِي إِسْحَاق من عَبْد الله بن يزيد، وسماعه من البراء.

وقوله: ( ( حَدَّثَنِي البراء وَهُوَ غير كذوب) ) ظاهر السياق يقتضي أَنَّهُ من قَوْلِ عَبْد الله بن يزيد في حق البراء، ورجح ذَلِكَ الخطابي وغيره.

وَقَالَ ابن معين وغيره: إنما هُوَ من قَوْلِ أَبِي إِسْحَاق فِي حق عَبْد الله بن يزيد، وقالوا: إن الصَّحَابَة أجل من أن يوصفوا بنفي الكذب.

وهذا ليس بشيء، ونفي الكذب صفة مدح لا ذم، وكذلك نفي سائر النقائص؟ وقد كَانَ عَلِيّ بن أَبِي طالب يَقُول: والله مَا كذبت ولا كذبت، فنفى الكذب عَن نفسه، وأشار إلى نفيه عمن أخبره، وَهُوَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقالت عَائِشَة فِي حق عُمَر وابن عُمَر: إنكم لتحدثون عَن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطيء.

وأبلغ من هَذَا، أن الله تعالى نفى عَن نفسه النقائص والعيوب، كالظلم وإرادته، والغفلة والنسيان، وكذلك نفيه للشريك والصاحبة والولد، وليس فِي شيء من ذَلِكَ نقص بوجه مَا.

وأيضاً؛ فعبد الله بن يزيد هُوَ الخطمي، وَهُوَ معدود من الصَّحَابَة، وله رِوَايَة عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف حسن نفي الكذب عَنْهُ دون البراء، وكلاهما صحابي؟ وإن كَانَ البراء أشهر مِنْهُ، وأكثر رِوَايَة.
والله أعلم.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن المأموم يتابع الإمام، وتكون أفعاله بعد أفعال الإمام؛ فإن البراء أخبر أنهم كانوا إذا رفعوا من الركوع لَمْ يحن أحد منهم ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً، ثُمَّ يسجدون بعده.
وفي رِوَايَة لمسلم فِي هَذَا الحَدِيْث: أنهم كانوا يصلون مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا رفع رأسه من الركوع لَمْ نر أحداً يحني ظهره حَتَّى يضع رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبهته عَلَى الأرض، ثُمَّ نخر من ورائه سجداً.

وهذه صريحة فِي أنهم كانوا لا يشرعون فِي السجود حَتَّى ينهيه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا) ) يدل عَلَى أن تكبير المأمومين من ركوعهم وسجودهم يكون عقيب تكبير الإمام وركوعه وسجوده، ولا مَعَهُ ولا قبله.

وفي حَدِيْث أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فتلك بتلك) ) .

خرجه مُسْلِم، وقد سبق ذكره.

وأكثر العلماء عَلَى أن الأفضل للمأموم أن يتابع الإمام، فيركع ويرفع ويسجد ويجلس بعد الإمام فِي ذَلِكَ، وكذلك كَانَ يفعل أبو قلابة وغيره من السلف.

وروى وكيع بإسناده، عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: لا تبادروا أئمتكم، فإنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فيكون أول من يركع وأول من يسجد وأول من يرفع.

وَهُوَ مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، ورواية عَن مَالِك.

وإن وافقه فِي فعله مَعَهُ كره، وصحت صلاته عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية، ومن أصحابنا من أبطل الصلاة بذلك.

ويستثنى من ذَلِكَ صورتان: إحداهما: تكبيرة الإحرام فِي ابتداء الصلاة، فإذا كبر مَعَهُ لَمْ تنعقد صلاة المأموم عِنْدَ ابن المبارك والشافعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأبي يوسف.

وَقَالَ أبو حنيفة والثوري والعنبري ومحمد بن الْحَسَن وزفر: تنعقد صلاته بذلك.

وزاد الثوري عليهم، فَقَالَ: لَوْ كبر مَعَ إمامه وفرغ من تكبيره قَبْلَ فراغ إمامه جاز.

ومن الحنفية من جعل تكبيرة الإحرام شرطاً للصلاة كالطهارة والستارة، ولم يجعلها مِنْهَا.

والصورة الثانية: إذا سلم مَعَ إمامه، فإنه يجوز مَعَ الكراهة عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية.

ولهم وجه أخر: أَنَّهُ لا يجوز، وحكي عَن مَالِك.

قَالَ بعض أصحابنا: وهذا قَوْلِ قوي عَلَى قَوْلِ من يعتبر النية للخروج.

وعن مَالِك فِي أصل متابعة المأموم لإمامة ثَلاَثَة روايات:
إحداهن: أنه يستحب أن يكون عمله بعد عمل إمامه، معاقباً لَهُ، كقول الشَّافِعِيّ وأحمد.

والثانية: أن عمل المأموم كله مَعَ عمل الإمام: ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه، مَا خلا الإحرام والتسليم، فإنه لا يأتي المأموم بهما إلا بعد تكبير الإمام وسلامه.

وقيل: إنها أصح الروايات عَنْهُ.

والثالثة: أَنَّهُ يكون عمله مَعَ الإمام؛ مَا خلا ثَلاَثَة أشياء: التحريم والتسليم والقيام من اثنتين، فإنه يكون بعده.