فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب سترة الإمام سترة من خلفه

باب
سترة الإمام سترة لمن خلفه
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
[ قــ :480 ... غــ :493 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.

وقد خرجه - أيضا - في ( ( كتاب العلم) ) عن إسماعيل، عن مالك.

وخرجه في آخر ( ( المغازي) ) في ( ( باب: حجة الوداع) ) عن يحيى بن قزعة، عن مالك.

وذكره تعليقا، قال: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أنه أقبل يسير على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس.

ولكن هذا لفظ رواية يونس.
وقد خرجه به مسلم في ( ( صحيحه) ) من طريق ابن وهب، عنه.

وخرجه مسلم - أيضا - من طريق ابن عينية، عن الزهري، وقال: والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بعرفة.

ومن طريق معمر، عن الزهري، ولم يذكر فيه: منى ولا عرفة، وقال في حجة الوداع - أو يوم الفتح.

واقتصر من حديث ابن عيينة ومعمر على هذا.

وذكر يوم الفتح لا وجه له؛ فإن ابن عباس لم يكن قد ناهز يومئذ الاحتلام، ولا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي يومئذ بمنى ولا عرفة.

وفي رواية ابن عيينة: جئت أنا والفضل على أتان لنا.

وفي رواية - أيضا - فلم يقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا شيئا.

وقد خرجه النسائي بتمامه هكذا.

وخرج الترمذي حديث معمر بتمامه، ولفظه: كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بأصحابه بمنى، فنزلنا عنها، فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم.

ففي هذه الروايات: أن ابن عباس مر على حماره بين يدي بعض الصف والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، فلم ينكر ذلك عليه أحد، لا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد ممن صلى خلفه.

وبهذا استدل البخاري وغيره من العلماء على أن سترة الإمام سترة لمن خلف؛ لأن سترة الإمام إذا كَانَتْ محفوظة كفى ذَلِكَ المأمومين، ولم يضرهم مرور من مر بَيْن
أيديهم؛ ولذلك لا يشرع للمأمومين اتخاذ سترة لهم وهم خلف الإمام.
ولا نعلم أحدا ذكر في حديث ابن عباس: ( ( إلى غير جدار) ) غير مالك.
وقد خرجه في ( ( الموطإ) ) في موضعين، ذكر في أحدهما هذه الكلمة، وأسقطها في الأخرى.

وقد قال الشافعي: قول ابن عباس: ( ( إلى غير جدار) ) ، أراد - والله أعلم -: إلى غير سترة.

واستدل بذلك على أن السترة غير واجبة في الصلاة.

وحمله غيره على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى عنزة، فإن هذه كانت عادته في الأسفار، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى.

فكلام البخاري قد يدل على هذا؛ لإدخاله هذا الحديث في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه.

وحمله الإمام أحمد - في رواية ابن منصور والأثرم - على مثل هذا.

لكن البخاري قد خرج الحديث، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير جدار، كما تقدم، إلا أن يقال: لا يلزم من عدم الجدار نفي استتاره بحربة ونحوها.

وقد ذكر الأثرم أن ابن أخي الزهري روى هذا الحديث عن الزهري، وذكر فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة.

وقد روي عن الإمام أحمد مثل قول الشافعي، وأنه حمل الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة -: نقله عنه الحسن بن ثواب.
واستدل بالحديث - في رواية جماعة من أصحابه عنه - على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وعارض به حديث أبي ذر.

وهذا إنما يكون إذا كان يصلي إلى غير سترة.

وقد ورد في رواية التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى غير سترة.
وفي حديث آخر التصريح بأن ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فأما الأول، فمن طريق الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس، قال: جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فنزل ونزلت وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف، فما بالى ذلك.

خرجه أبو داود - وهذا لفظه -، والنسائي.

وخرجه الأثرم، وعنده: ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في أرض خلاء.

وخرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ( ( كتاب الشافي) ) من طريق شعبة، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء ليس بين يديه سترة.

وقد ذكره الإمام أحمد بهذا اللفظ من حديث شعبة، واحتج به، ولم نجده في ( ( المسند) ) بهذا اللفظ.

وذكر الأثرم أن شعبة ومنصورا رويا في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء من الأرض، ليس بين يديه سترة، ولعل هذا مما تصرفوا في لفظه لما فهموه من معناه، هكذا رواه شعبة ومنصور، عن الحكم، عن يحيى، عن صهيب.

ورواه شعبة - أيضا - عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ( ( صهيب) ) في إسناده.

خرجه الإمام أحمد كذلك.

وقد روي عن منصور، عن الحكم كذلك - أيضا.

خرجه ابن حبان في ( ( صحيحه) ) كذلك.
ورواه حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ( ( أبي الصهباء) ) - أيضا - ولفظ حديثه: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فضاء، ليس بين يديه شيء - ولم يزد على ذلك.

خرجه من طريقه الإمام أحمد.

وأبو الصهباء، اسمه: صهيب المدني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة وغيره.
ويقال أنه البكري، وهو مدني، لكن سئل عن صهيب هذا، فقال: شيخ من أهل البصرة.
وهذا يدل على أنه غير المدني.

وصحح أبو حاتم الرازي - فيما نقله عنه ابنه - كلا القولين: إدخال صهيب في إسناده، وإسقاطه.

وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) : أن يحيى بن الجزار لم يسمعه من ابن عباس.

والظاهر: أن ذلك من قول شعبة.

وكلام أحمد يدل على أن الصحيح دخوله في الإسناد.

وذكر الإمام أحمد هذا الحديث، واستدل به على أن الصلاة إلى غير سترة صحيحة، وقال: ليس هو بذاك.

يعني: من جهة إسناده، ولعله رأى أن صهيبا هذا غير معروف، وليس هو بأبي الصهباء البكري مولى ابن عباس؛ فإن ذاك مدني.

وأما الثاني: فمن طريق ابن جُرَيْج: حَدَّثَنِي عَبْد الكريم الجزري، أن مجاهدا
أخبره، عن ابن عباس، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه.

خرجه البزار.

وخرج الإمام أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: جئت أنا والفضل على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس في فضاء من الأرض، فمررنا بين يديه ونحن عليه، حتى جاوزنا عامة الصف، فما نهانا ولا ردنا.

وشعبة هذا، تكلم فيه.

فعلى تقدير أن يكون ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي إلى غير سترة، فإنه يحمل على أنه مر بين يديه من بعد؛ فإنه لا يظن بالفضل وأخيه أن يمرا على حمار بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقرب منه، وإذا كان مرورهما بين يديه متباعدا فإنه لا يضر، ومرورهما على هذه الحال وجوده كعدمه.

وعلى تقدير أن يكونا لم يمرا إلا بين يدي بعض الصف، ولم يمرا بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والروايات الصحيحة إنما تدل على ذلك فمع ما علم من عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته إلى العنزة في أسفاره.

وقد روي ذلك من حديث ابن عباس - أيضا.

خرجه الإمام أحمد: ثنا يزيد بن أبي حكيم: حدثني الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس قال: ركزت العنزة بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فصلى والحمار من وراء العنزة.

والظاهر: أنه أشار إلى مروره على الحمار بين يديه، فيستدل بالحديث حينئذ على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما استدل به البخاري.

وسواء كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة؛ لأن قبلته كانت محفوظة عن المرور فيها، وكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سترة لمن وراءه؛ فلذلك لم يضرهم مرور الحمار بين أيديهم.

وهذا قول جمهور العلماء: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه.

قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعي ومالك والأوزاعي واحمد.
انتهى.

وروي - أيضا - عن أبي قلابة وعن الشعبي.

وروي عنه، عن مسروق.

ولكن أنكره الإمام أحمد، وذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن فقهاء المدينة السبعة في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل ثقة وفضل، وهو قول الثوري.

وقد روي فيه حديث مرفوع:
خرجه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( سترة الإمام سترة لمن خلفه) ) .

ولكن لا يصح؛ وسويد هذا ضعيف جدا.

وقد أنكر الإمام أحمد عليه أنه روى عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال: إنما هو قول الشعبي.
فكيف لو سمع أنه روى ذلك بإسناد له عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
ومنهم من قال: الإمام سترة لمن خلفه، وهو قول طائفة من أصحاب مالك.

ومعنى كون سترة الإمام سترة لمن خلفه: أن المأمومين لا يشرع لهم أن ينصبوا بين أيديهم سترة إمامهم، وأنه لا يضرهم من مر بين أيديهم إذا لم يمر بين يدي إمامهم.

ويدل على ذلك - أيضا -: ما روى هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة - يعني: إلى جدر - فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدر، ومرت من ورائه.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وهذا يدل على أن المرور بين الإمام وسترته محذور، بخلاف المرور بين يدي من خلفه، إذا كانت سترة الإمام محفوظة.

وأما جواز المرور بين يدي المأمومين إذا كانت سترة إمامهم محفوظة ففيه قولان:
أحدهما: أنه منهي عنه - أيضا - نص عليه في رواية الأثرم، في الرجل يكون خلف الإمام وبين يديه صف، فيكون في الصف الذي بين يديه خلل عن يساره ليس هو بحذائه، أيمشي إليه فيسده؟ قال: إن كان بحذائه فعل فأما أن يمشي معترضا فيؤذي الذي إلى جنبه ويمر بين يديه فلا.

وهذا يدل على أن المشي بين يدي المأمومين داخل في النهي.

ومن أصحابنا من حمل ذلك على كراهة التنزيه، بخلاف المشي بين الإمام والمنفرد.

والكراهة قول أصحاب الشافعي - أيضا - وسيأتي عن الشافعي ما يدل عليه.

وقال سفيان: لا يعجبني ذلك.

وذكر مالك في ( ( الموطإ) ) أنه بلغه، أن ابن عمر كان يكره أن يمر بين يدي النساء وهن يصلين.

وحمله بعضهم على كراهة المرور بين يدي صفوف النساء في مؤخرة المسجد إذا صلين مع الإمام.

والقول الثاني: جوازه من غير كراهة، وأنه غير داخل في النهي، وقد حكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد، إذا كان مشيه لحاجة؛ كمشيه إلى فرجة في الصف، أو إذا لم يجد موضعا يصلي قيه.

وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ فإنهم استدلوا بحديث ابن عباس على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وجعلوا عدم الإنكار على ابن عباس دليلا على ذلك.

وكلام ابن عباس يدل عليه - أيضا - فإنه استدل بعدم الإنكار على الجواز.

وهو مستلزم لعدم بطلان الصلاة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.

ذكر مالك في ( ( الموطإ) ) : ( ( باب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي) ) ، وخرج فيه حديث ابن عباس هذا، ثم قال: بلغني أن سعد بن وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة.

قال مالك: وأنا أرى ذلك واسعا، إذا أقيمت الصلاة بعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف.

وقد ذكر أبو داود في ( ( سننه) ) بعض كلام مالك، عن القعنبي، عنه.

وقال سفيان الثوري: إذ انتهى إلى المسجد والطريق بين أيديهم، فانه يمشي معترضا حتى يدخل المسجد.
وفي ( ( تهذيب المدونة) ) للبرادعي: ولا بأس بالمرور بين الصفوف عرضا، والإمام سترة لهم، وإن لم يكونوا إلى سترة، وكذلك من رعف وأحدث فليخرج عرضا، وليس عليه أن يرجع الى عجز المسجد.

وذكر ابن عبد البر في ( ( التمهيد) ) أن المأموم لا يدفع من مر بين يديه، وقال: لا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا.

وذكر في ( ( الاستذكار) ) قول مالك الذي ذكره في ( ( الموطإ) ) ، وذكر أن مالكا يرخص في ذلك لمن لم يجد منه بدا، وأن غيره لا يرى به بأسا - يعني: بكل حال، سواء اضطر إليه أو لا -؛ لحديث ابن عباس.
قال: وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه، فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون صف.
قال: ويحتمل هذا أن يكون المار لم يجد بدا كما قال مالك.
ولكن الظاهر ما قدمنا من الآثار الدالة على أن الإمام سترة لمن خلفه.

وهذا الكلام يدل على أن للعلماء اختلافا: هل الرخصة تختص بحال الضرورة أم تعم؟
وقد حكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد، بأن من كان بين يديه فرجة فلا يكره له أن يمشي عرضا بين الصفوف حتى يقوم فيها.
وهذا قول ثالث بالرخصة في ذلك لحاجة إليه، وإن لم يكن ضرورة.

وذكر البيهقي في كتابه ( ( المعرفة) ) عن الشافعي في القديم، أنه ذكر قول مالك في هذا، واعتراض من اعترض عليه ثم أخذ في الذب عنه، واحتج بحديث ابن عباس
وغيره، وأشار إلى أن ذلك إنما قاله في المرور بين يدي المتنفلين الذين عليهم قطع النافلة للمكتوبة، ولا يجد الداخل طريقا غير الممر بين أيديهم.

ومعنى هذا أنه إنما يجوز المرور للضرورة بين يدي من يصلي صلاة مكروهة، هو من يتنفل بعد إقامة الصلاة، أو يطيل في نافلته وقد أقيمت الصلاة.

ولكن أصحاب مالك حملوا كلام مالك على عمومه في حال الضرورة كما تقدم، وهذا الكلام من الشافعي يدل على أن المأمومين لا يجوز المرور بين أيديهم إذا كانوا يقتدون بصلاة الإمام لضرورة ولا غيرها، كما قاله أحمد في غير حال الضرورة في رواية الأثرم.

وقال أصحاب الشافعي: إذا وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني ويصف فيها؛ لتقصير أهل الثاني بتركها.

وهذا موافق لكلام الشافعي، حيث لم يجز المرور إلا مع تقصير المصلين، لكنه يخصه بحال الضرورة وأصحابه لم يخصوه بذلك.

ونص الشافعي في كتاب ( ( مختلف الحديث) ) على أن المرور بين يدي المصلي إلى غير سترة مباح غير مكروه، واستدل بحديث ابن عباس هذا، وبحديث المطلب بن أبي وداعة.

وذهبت طائفة من العلماء إلى أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه من المأمومين:
فروى الجوزجاني وغيره من طريق ابن سيرين، أنه بلغه، أن الحكم الغفاري أم جيشا، وأنه كان بين يديه رمح، فمر به ما يقطع الصلاة، فأعاد بالقوم الصلاة، فلما انصرف ذكر ذلك له، فقال: أولم تروا إلى ما مر بين أيدينا؟ فأنا ومن يليني قد سترنا الرمح، فإنما أعدت الصلاة من أجل العامة.

قال ابن المنذر في ( ( كتابه الكبير) ) : وروي عن عطاء نحوه.

وروى عمر بن شبة في كتاب ( ( أخبار قضاة البصرة) ) : ثنا محمد بن حاتم: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا يونس؛ قال: كان موسى بن أنس يصلي بالناس في صحن المسجد، فكان كلب يمر بين أيديهم، فسألوا الحسن، فقال: أما الإمام ومن كان إلى سارية ومن كان خلف الصف فلا يعيد، ومن كان بين السواري فليعد.

وأما على تقدير أن يكون ابن عباس مر على الأتان بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي إلى غير سترة، ولم ينهه عن ذلك، فهذا يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون مر بين يديه من بعد، والمار أمام المصلي إلى غير سترة عن بعد كالمار خلف سترته.

ولكن خرج الإمام أحمد من حديث الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: أقبلت على حمار ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فما أعاد صلاته، ولا نهاني عما صنعت.

والحسن العرني لم يسمع من ابن عباس -: قاله الإمام أحمد، فحديثه عنه منقطع.

والثاني: أن يحمل على أن الاستتار في الصلاة غير واجب، وإنما هو على الاختيار، وهذا حكاه البيهقي عن الشافعي.

ولكن يقال: فالمرور بين يدي المصلي إلى غير سترة، إما أنه حرام، أو مكروه، فكيف أقر عليه ولم ينكر؟
وقد يجاب: بأنه إذا كان مكروها، فإنكاره غير واجب.

ولأصحابنا وجه: أن من صلى إلى غير سترة لم يكن المرور بين يديه منهيا عنه إنما النهي يختص بمن صلى إلى سترة، فينهى عن المرور بينه وبين السترة، وهو قول ابن المنذر.

وقال أصحاب الشافعي: لا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى غير سترة، بل يكره.

وهل للمصلي إلى غير سترة أن يدفع المار بين يديه؟ على وجهين لهم، أصحهما: ليس له الدفع.

والثالث: أن يكون مرور ابن عباس بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى كما في رواية مالك وغيره من أصحاب الزهري، وحكم الحرم أنه يجوز المرور فيه بين يدي المصلي دون سائر البلدان -: قاله طائفة من أصحابنا، وستأتي هذه المسألة فيما بعد حيث بوب البخاري عليها.

وقد روي ما يخالف هذا، وأن المار يرد بالأبطح، فروى ابن لهيعة: حدثني حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد وأبي بشير الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم ذات يوم وامرأة بالبطحاء، فأشار إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تأخري، فرجعت حتى صلى ثم مرت.

خرجه الإمام أحمد.

وابن لهيعة، حاله مشهور.


قال:


[ قــ :481 ... غــ :494 ]
- ثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس من ورائه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء.
في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى في فضاء من الأرض صلى إلى الحربة، فيركزها بين يديه، ثم يصلي إليها، فكان يفعل ذلك في العيدين؛ لأنه كان يصليهما بالمصلى، ولم يكن فيه بناء ولا سترة، وكان يفعل ذلك في أسفاره – أيضا -؛ لأن المسافر لا يجد غالبا جدارا يستتر به، وأكثر ما يصلي في فضاء من الأرض.

وخرج ابن ماجه من طريق الأوزاعي: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو إلى المصلى في يوم عيد، والعنزة تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها، وذلك أن المصلى كان فضاء ليس شيء يستتر به.

وخرج البخاري أوله دون آخره.

وقال أبو نعيم: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول، قال: كانت تحمل الحربة مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يصلي إليها.

وما ذكر في حديث ابن عمر من اتخاذ الأمراء لها، فالأمراء الذين عناهم في زمنه إنما اتخذوها تعاظما وكبرا، لم يتخذوها لأجل الصلاة كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخذها للصلاة.

وفي الحديث: دليل على استحباب السترة للمصلي وإن كان في فضاء، وهو قول الأكثرين.

ورخص طائفة من العلماء لمن في فضاء أن يصلي إلى غير سترة، منهم: الحسن وعروة.

وكان القاسم وسالم يصليان في السفر إلى غير سترة.
وروي عن الإمام أحمد نحوه -: نقله عنه الأثرم وغيره.
وهو - أيضا - مذهب مالك.

قال صاحب ( ( تهذيب المدونة) ) : ولا يصلي في الحضر إلا إلى سترة، ويصلي في السفر أو بموضع يأمن فيه مرور شيء بين يديه إلى غير سترة.

ويستدل لذلك بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار، كما تقدم في رواية مالك لحديث ابن عباس، وان الشافعي وغيره فسروه بصلاته إلى غير سترة بالكلية.

وقد قيل: إن فائدة السترة منع المرور بين يدي المصلي.

وقيل: كف النظر عما وراء السترة.

والأول أظهر وأشبه بظواهر النصوص، والعنزة ونحوها لا تكف النظر.

وحيث تستحب الصلاة إلى السترة، فليس ذلك على الوجوب عند الأكثرين، وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد.

ومنهم من قال: هي واجبة، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حتى يوجد المرور المبطل للصلاة الذي لأجله شرعت السترة.

وقال الأثرم: حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير سترة إن كان محفوظا فإنما وجهه إذا لم يجد سترة أجزأه.

فحمله على حالة تعذر وجود السترة، وفيه نظر؛ فان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتعذر عليه تحصيل ما يستتر به، وهو بمنى أو بعرفة، ومعه الخلق العظيم من المسلمين.

ورخصت طائفة في الصلاة إلى غير سترة مطلقا؛ روى جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يصلي إلى غير سترة.

وقال ابن سيرين قلت لعبيدة: ما يستر المصلي، وما يقطع الصلاة؟ قال: يسترها التقوى ويقطعها الفجور.
قال: فذكرته لشريح، فقال: أطيب لنفسك أن تجعل بين يديك شيئا.

خرجهما وكيع.

وروى بإسناده، عن ابن مسعود، قال: من الجفاء أن يصلي الرجل إلى غير سترة.




[ قــ :48 ... غــ :495 ]
- ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي يحدث، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بالبطحاء - وبين يديه عنزة - الظهر ركعتين والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار.

هذا - أيضا - يدل - كما دل عليه حديث ابن عمر - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في أسفاره إلى عنزة تستره ممن يمر بين يديه، وهذا مما يضعف حمل الأثرم لصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى أو عرفة إلى غير سترة على أنه تعذر عليه السترة؛ فان حديث أبي جحيفة يدل على أن العنزة كانت معه في حجة الوداع، وانه صلى إليها بمكة.

وقوله: ( ( يمر بين يديه المرأة والحمار) ) مما يسدل به على أن مرورها بين يدي المصلي إلى غير سترة يقطع عليه صلاته، ولولا ذلك لم يكن لتخصيص المرأة والحمار بمرورهما بين يديه من وراء السترة - معنى.

وقوله: ( ( يمر بين يديه المرأة والحمار) ) - يعني: من وراء العنزة، كما في الرواية الأخرى: يمرون من ورائها، وستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى.