فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الكلام في الأذان

باب
الكلام في الاذان
وتكلم سليمان بن صرد في اذانه.

وقال الحسن: لا بأس ان يضحك وهو يؤذن ويقيم.

روى وكيع في ((كتابه)) عن محمد بن طلحة، عن جامع بن شداد، عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن سليمان بن صرد - وكانت له صحبة -، انه كان يؤذن في العسكر، وكان يأمر غلامه في أذانه بالحاجة.

وعن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: لا بأس أن يتكلم في أذانه بالحاجة.

وروى ابن أبي شيبة من طرق [عن] الحسن، أنه لا بأس أن يتكلم في أذانه بالحاجة، وإقامته.

وأختلف العلماء في الكلام في الأذان والاقامة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا بأس به فيهما، وهو قول الحسن والاوزاعي.

والثاني: يكره فيهما، وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، ورواية عن أحمد.

وكلهم جعل كراهة الكلام في الاقامة اشد.

وعلى هذا، فلو تكلم لمصلحة، كرد السلام وتشميت العاطس، فقال الثوري وبعض أصحابنا: لا يكره.

والمنصوص عن أحمد في رواية على بن سعد أنه يكره، وهو قول مالك وأبي حنيفة.

وقال أصحاب الشافعي: لا يكره، وتركه أولى.

وكذلك الكلام لمصلحة، فإن كان لغير مصلحة كره.

وقال إسحاق: إن كان لمصلحة غير دنيوية كرد السلام والامر بالمعروف فلا يكره، والا كره، وعليه حمل ما فعله سليمان بن صرد.

ووافق ابن بطة من أصحابنا قول إسحاق، إن كان لمصلحة.

ورخص في الكلام في الأذان عطاء وعروة.
والقول الثالث: يكره في الاقامة دون الاذان، وهو المشهور عن أحمد، والذي نقله عنه عامة أصحابه، واستدل بفعل سليمان بن صرد.

وقال الاوزاعي: يرد السلام في الاذان، ولم يرده في الاقامة.

وقال الزهري: إذا تكلم في اقامته يعيد.

الفرق بينهما: ان مبنى الاقامة على الحدر والاسراع، فالكلام ينافي ذلك.
ومتى كان الكلام يسيرا بنى عليه ما مضى من الاذان والاقامة عند جمهور العلماء، الا ماسبق عن الزهري في الاقامة.
وروي عنه مثله في الاذان - أيضا.

ووافقه بعض أصحابنا في الكلام المحرم خاصة، الاذان والاقامة.

وان طال الكلام بطل ما مضى، ووجب عليه الاستئناف عند الاكثرين؛ لانه يخل بالمولاة في الاذان، ولا يحصل به الاعلام؛ لانه يظن متلاعباً.

وللشافعي قولان في ذلك.

وحاصل الامر: ان الكلام في الاذان شبيه بكلام الخاطب في خطبته.

والمشهور عن الامام أحمد، انه لا يكره الكلام للخاطب، وانما الكراهة للسامع.

وذهب كثير من العلماء إلى التسوية بينهما.

وأماما حكاه البخاري عن الحسن من الضحك في الاذان والاقامة، فمراره: ان الضحك في الاذان والاقامة لا يبطلهما، كما يبطل الصلاة، ولا باس بالاذان والاقامة وان وقع في اثنائها ضحك، غلب عليه صاحبه، ولم يرد انه لاباس ان يتعمد المؤذن الضحك في اذانه واقامته؛ فان ذلك غفلة عظيمة منه عن تدبر ما هو فيه من ذكر الله، وقد كان حال الحسن على غير ذلك من شدة تعظيم ذكر الله في الاذان وغيره والخشوع عند سماعه.

وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الرقة والبكاء" بإسناده، عن يحيى البكاء، عن الحسن، قال: إذا اذن المؤذن لم تبق دابة بر ولا بحر الا اصغت واستعمت.
قال: ثم بكى الحسن بكاء شديداً.

وبإسناده، عن أبي عمران الجوني، انه كان إذا سمع الاذان تغير لونه، وفاضت عيناه.

وعن أبي بكر النهشلي نحو – أيضا -، وانه سئل عن ذلك، فقال: اشبهه بالصريخ يوم العرض، ثم غشى عليه.

وحكى مثل ذلك من غيره من الصالحين - أيضا.

وعن الفضيل بن عياض، أنه كان في المسجد، فأذن المؤذن، فبكى حتى بل الحصى، ثم قال: شبهته بالنداء، ثم بكى.

ولكن إذا غلب الضحك على المؤذن في اذانه بسبب عرض له لم يلم على ذلك، ولم يبطل اذانه.

وقد روى عن علي، انه كان يوماً على المنبر، فضحك ضحكاً ما رئي ضحك اكثر منه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب لما ظهر علينا، وانا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نصلي معه ببطن نخلة، فقال: مإذا تصنعان يا بن اخي؟ فدعاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، ولكن والله لا تعلوني استي ابداً، فضحك تعجباً لقول أبيه.

خرجه الامام أحمد بإسناد فيه ضعيف.

قال البخاري – رحمه الله -:
[ قــ :599 ... غــ :616 ]
- حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن ايوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطبنا ابن عباس في يوم رزغ، فلما بلغ المؤذن: ((حي على الصلاة)) فأمره ان ينادي ((الصلاة في الرحال)) ، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وانها عزمة.

((الرزغ)) : بالزاي والغين المعجمة، هو: الرحل.
يقال: ارزغت السما إذا بلت الارض.
ويقال له – أيضا -: ((الردغ)) بالدال المهملة.

وقيل: ان الرزغ - بالزاي - اشد من الردغ.
وقيل: هما سواء.

قال الخطأبي: الرزغة: وحل شديد، وكذلك الردغة.
ورزغ الرجل [إذا ارتكم] في الوحل، فهو رزغ.

وقد خرجه البخاري – أيضا - في ((باب: هي يصلي الامام بمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟)) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، عن حماد، عن عبد الحميد وعاصم خاصة، وفصل حديث احدهما من حديث الاخر.

وفي حديث عبد الحميد عنده: قال: كأنكم انكرتم هذا، ان هذا فعله من هو خير مني - يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وخرجه - أيضا - في ((كتاب الجمعة)) من طريق ابن علية، عن عبد الحميد، قال: انا عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين: قال ابن عباس كمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: ((اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله)) ، فلا تقل: ((حي على الصلاة)) .
قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكأن الناس استنكروا، فقال: قد فعله من هو خير مني.

وفي هذه الرواية: زيادة على ما قبلها من وجهين:
احدهما: انه نسب فيها عبد الله بن الحارث هذا: هو الانصاري البصري نسيب ابن سيرين وختنه على اخته.

وكذا وقع في ((سنن أبي داود)) – أيضا.

وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية عباد المهلبي، عن عاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.

وابن نوفل هذا، هو: الهاشمي، ويلقب ((ببه)) ، وكلاهما ثقة، مخرج له في ((الصحيحين)) .
فالله اعلم.
ان في هذه الرواية: ان ابن عباس نهى المؤذن ان يقول: ((حي على الصلاة)) ، وامره ان يبدلها في قوله: ((صلوا في بيوتكم)) .

وقد خرجهما مسلم – أيضا - كذلك.

وعلى هذه الرواية، فلا يدخل هذا الحديث في هذا الباب، بل هو دليل على ان المؤذن يوم المطر مخير بين ان يقول: ((حي على الصلاة حي على الفلاح)) ، وبين ان يبدل ذلك بقوله: ((صلوا في رحالكم او بيوتكم)) ، ويكون ذلك من جملة كلمات الاذان الاصلية في وقت المطر.

وهذا غريب جداً، اللهم الا ان يحمل على انه امره بتقديم هذه الكلمات على الحيعلتين، وهو بعيد مخالف لقوله: لا تقل: ((حي على الصلاة)) ، بل ((صلوا في بيوتكم)) .

والذي فهمه البخاري: ان هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين او قبلهما، فتكون زيادة كلام في الاذان لمصلحة، وذلك غير مكروه كما سبق ذكره؛ فإن من كره الكلام في اثناء الاذان انما كره ما هو اجنبي منه، ولا مصلحة للاذان فيه.

وكذا فهمه الشافعي؛ فإنه قال في كتابه: إذا كانت ليلة مطيرة، او ذات ريح وظلمة يستحب ان يقول المؤذن إذا فرغ من اذانه: ((الا صلوا في رحالكم)) فإن قاله في اثناء الاذان بعد الحيعلة فلا بأس.

وكذ قال عامة أصحابه، سوى أبي المعالي؛ فإنه استبعد ذلك اثناء الاذان.

وأماابدال الحيعلتين بقوله: ((الا صلوا في الرحال)) ، فانه اغرب واغرب.
وفي الباب – أيضا - عن نعيم بن النهام.

خرجه الامام أحمد: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن شيخ قد سماه، عن نعيم بن النحام، قال: سمعت مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة باردة، وانا في لحافي، فتمنيت ان يقول: ((صلوا في رحالكم) ، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: ((صلوا في رحالكم)) ، ثم سألت عنها، فإذا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امره بذلك.

في إسناده مجهول.

وله طريق اخر: خرجه الامام أحمد – أيضا -: ثنا علي بن عياش: ثنا اسماعيل بن عياش: ثنا يحيى بن سعيد: اخبرني محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم بن النحام، قال: نودي بالصبح في يوم بارد، وانا في مرط امراتي، فقلت: ليت المنادي قال: ((ومن قعد فلا حرج عليه)) ، فإذا منادي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اخر اذانه قال: ((ومن قعد فلا حرج عليه)) .

وخرجه ابو القاسم البغوي في ((معجم الصحابة)) من رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم، به - بنحوه، ولم يقل: ((في اخر اذانه)) .

وقال: هو مرسل.
يشير إلى ان محمد بن ابراهيم التيمي لم يسمع من نعيم.

ورواية سليمان بن بلال عن يحيى اصح من رواية اسماعيل بن عياش؛ فان اسماعيل لا يضبط حديث الحجازيين، فحديثه عنهم فيه ضعف.

وخرجه البيهقي من رواية عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الاوزاعي عن يحيى بن سعيد، ان محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي حدثه، عن نعيم ابن النحام - فذكر الحديث بنحوه، وقال فيه: فلما بلغ: ((الصلاة خير من النوم)) ، قال: ((ومن قعد فلا حرج)) .

وروى سفيان بن عيينة، [عن عمرو بن دينار] ، عن عمرو بن أوس: انبأنا رجل من ثقيف، انه سمع منادي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول – في ليلة مطيرة في السفر -، يقول: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم)) .

خرجه النسائي.

وقد روى عبيد الله والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، انه كان ربما زاد في اذانه: ((حي على خير العمل)) .