فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب كفران العشير، وكفر دون كفر

20 - فصل
خرج البخاري ومسلم من حديث:
[ قــ :29 ... غــ :29 ]
- مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء بكفرهن " قيل أيكفرون ؟ قال: " يكفرن العشير ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط "
وقال البخاري: كفر دون كفر .
والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة مثل كفران العشير ونحوه عند إطلاق الكفر .

فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} [النحل: 112] .
وإنما المراد هاهنا: أنه قد يرد إطلاق الكفر ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه؛ إنه ليس بكفر ينقل عن الملة { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} كفر دون كفر.
خرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعنه في هذه الآية قال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وكذا قال عطاء وغيره: كفر دون كفر.
وقال النخعي: الكفران كفران: كفر بالله وكفر بالمنعم .
واستدل البخاري لذلك بحديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا، وهو قطعة من حديث طويل خرجه في " أبواب الكسوف " ، فإنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلق على النساء الكفر فسئل عنه فسره بكفر العشير.

وحديث أبي سعيد في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس.
وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر، وأبي هريرة – أيضا – وفي المعنى – أيضا - حديث ابن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .
وقوله من قال لأخيه: ياكافر، فقد باء بها أحدهما " .
وللعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة: منهم: من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك.

وقد حمل مالك حديث: " من قال لأخيه: يا كافر " على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب.
نقله عنه أشهب وكذلك حمل ( 199 – أ / ف) إسحاق بن راهوية حديث " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر " على المستحل لذلك.
نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج.
ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة – كما تقدم عن ابن عباس وعطاء.
ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد – وذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأله: ما هذا الكفر؟ - قال أحمد: هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.

قال محمد بن نصر المروزي :.
واختلف من قال من أهل الحديث أن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة كما قال عطاء: كفر دون كفر، وقال ابن عباس وطاوس: كفر لا ينقل عن الملة ؟ على قولين لهم.
قال: وهما مذهبان في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أهل الحديث.
قلت: قد أنكر أحمد في رواية المروذي ما روي عن عبد الله بن عمرو أن شارب الخمر يسمى كافرا ولم يثبته عنه؛ مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة وبعضها إسناده حسن، وروي عنه مرفوعا .

وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر، ونصب الخلاف في ذلك مع الزيدية من الشيعة، والإباضية من الخوارج.
ورواية إسماعيل الشالنجي عن أحمد قد توافق ذلك.
فمن هنا حكى محمد بن نصر عن أحمد في ذلك مذهبين .

والذي ذكره القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبو يعلى عن أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة، وقد حكاه عن أحمد .

وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه سئل: هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب: الكفر أو الشرك؟ قال: معاذ الله؛ ولكنا نقول مذنبين.
خرجه محمد بن نصر وغيره.
وكان عمار ينهى أن يقال لأهل الشام الذين قاتلوهم بصفين: كفروا وقال: قولوا فسقوا.
قولوا ظلموا.
وهذا قول ابن مبارك وغيره من الأئمة.
وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان:
أحدهما: إيمان بالله، وهو الإقرار والتصديق به.

والثاني: إيمان لله، وهو الطاعة والانقياد لأوامره.

فنقيض الإيمان الأول: الكفر، ونقيض الإيمان الثاني: الفسق؛ وقد يسمى كفرا؛ ولكن لا ينقل عن الملة.

وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها عل الكفر الناقل عن الملة أو على غيره مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة، وتردد إسحاق بن راهوية فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر هل هو مخرج عن الدين بالكلية أم لا؟
ومن العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا ويمرها كما جاءت من غير تفسير مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة.

وحكاه ابن حامد في رواية عن أحمد، ذكر صالح بن أحمد وأبو الحارث أن أحمد سئل عن حديث أبي بكر الصديق " كفر بالله تبري من نسب وإن دق، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم " قال أحدهما: قال أحمد: قد روي هذا عن أبي بكر، والله أعلم، وقال الآخر: قال ما أعلم، قد كتبناها هكذا.
قال أبو الحارث: قيل لأحمد: حديث أبي هريرة " من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر " فقال: قد روي هذا.
ولم يزد على هذا الكلام.
وكذا قال الزهري لما سئل عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس منا من لطم الخدود " وما أشبهه من الحديث فقال: من الله العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم .

ونقل عبدوس بن ( 199 – ب / ف) مالك العطار أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر فقال: نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها ولا نتكلم فيه ولا نفسرها إلا بما جاءت .

ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن وبين إطلاق اسم الكافر، فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق من الفعل الكامل، ولذلك قال في اسم المؤمن: لا يقال إلا للكامل الإيمان، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه وإن كان يقال: قد آمن، ومعه إيمانه.
وهذا اختيار ابن قتيبة.
وقريب منه: قول من قال: إن أهل الكتاب يقال: إنهم أشركوا وفيهم شرك كما قال تعالى { سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق؛ بل يفرق بينهم وبين المشركين كما في قوله تعالى { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين} [البينة: 1] فلا يدخل الكتابية في قوله تعالى { َ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
وكذلك كره أكثر السلف أن يقول الإنسان: أنا مؤمن، حتى يقول: إن شاء الله، وأباحوا أن يقول: آمنت بالله.

وهذا القول حسن، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] ، والله أعلم.