فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب القسمة، وتعليق القنو في المسجد قال أبو عبد الله: «القنو العذق والاثنان قنوان والجماعة أيضا قنوان مثل صنو وصنوان»

باب
القسمة وتعليق القنو في المسجد
قال أبو عَبْد الله: القنو: العذق.
والإثنان: قنوان.
والجماعة: قنوان، مثل: صنو وصنوان.

المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها.

وقد ذكر القنو في تبويبه وفسره ولم يخرج حديثه.

وحديثه قد خرجه الترمذي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن البراء، في قوله تعالى: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر
فيعلقه، فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] .

وخرجه ابن ماجه، إلا أن عنده: عن السدي عن عدي بن ثابت، عن البراء.

وحسنه الترمذي وغربه، وفي بعض نسخه: صحيح.

وخرجه الحاكم، وقال: غريب، صحيح على شرط مسلم.

يشير إلى أنه خرج للسدي، إلا أن السدي كان ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة في التفسير للحديث الواحد.

وخرج ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر للمسجد من كل حائط بقناء.

ومن حديث جابر، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل جداد عشرة أوسق من التمر بعذق يعلق في المسجد للمساكين.

ومن حديث عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده عصى وأقناء معلقة في المسجد، قنو منها حشف، فطعن بالعصى في ذلك القنو، ثم قال: ( ( لو شاء رب هذه الصدقة لتصدق بأطيب منها، إن صاحب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم القيامة) ) .
وقد فسر البخاري القنو، فقال: هو العذق.

يعني: عذق النخلة الذي يكون فيه الرطب، وهو واحد، وتثنيته: قنوان - بكسر النون، وجمعه - قنوان - بالتنوين؛ قَالَ تعالى: { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99] .

وشبهه بصنو وصنوان، فالصنو: الواحد مِمَّا لَهُ نظير يخرج مَعَهُ من أصله من النخل، وتثنيته: صنوان، وجمعه: صنوان.
قَالَ تعالى: { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] .

ومنه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( عم الرجل صنو أبيه) ) .

وما ينبغي إدخاله في هذا الباب: ما خرجه البخاري في ( ( الزكاة) ) من رواية معن بن يزيد السلمي، قال: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله، ما إياك أردت، فخاصمته إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ( ( لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن) ) .

ويتصل بهذا: التصدق في المسجد على السائل، وهو جائز، وقد كان الإمام أحمد يفعله، ونص على جوازه، وإن كان السؤال في المسجد مكروها.

وقال أبو داود في ( ( سننه) ) : ( ( باب: السؤال في المسجد) ) ، ثم خرج من طريق مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أفيكم من أطعم اليوم مسكينا؟) ) قال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه.

ومنع منه أصحاب أبي حنيفة، وغلظوا فيه حتى قال خلف بن أيوب منهم: لو كنت قاضيا لم أجز شهادة من تصدق على سائل في المسجد.

ومنهم من رخص فيه إذا كان السائل مضطرا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر.

ولأصحابنا وجه: يكره السؤال والتصدق في المساجد مطلقا.

وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن جرير البجلي، أن قوما جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم - أي: الحاجة -، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، ثم خطب فحث على الصدقة، فجاء رجل بصرة من فضة كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب.

وفي ( ( المسند) ) و ( ( سنن) ) أبي داود والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلا دخل المسجد في هيئة رثة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فحث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فألقى الناس ثيابا - وذكر الحديث.

خرج البخاري في هذا الباب حديثا واحدا، علقه ها هنا وفي ( ( أبواب: قسم الفيء) ) من أواخر ( ( كتاب: السير) ) ، وعلق بعضه في ( ( باب: فكاك الأسير) ) .

فقال هاهنا:
[ قــ :413 ... غــ :421 ]
- وقال إبراهيم - يعني: ابن طهمان -: عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين، فقال: ( ( انثروه في المسجد) ) - وكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا.
فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( خذ) ) ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي.
قال: ( ( لا) ) .
قال: فارفعه أنت علي.
قال: ( ( لا) ) .
قال: فنثر منه، ثم ذهب يقله.
فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه علي.
قال: ( ( لا) ) .
قال: فارفعه أنت علي.
قال: ( ( لا) ) .
فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبا من حرصه.
فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهم.

هذا المال كان من جزية أهل البحرين، وهم مجوس هجر، وكان قد قدم به أبو عبيدة بن الجراح، وقد خرج حديثه البخاري في موضع آخر من حديث عمرو بن عوف الأنصاري.

وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له بيت مال يضع فيه أموال الفيء، إنما كان يضعه في المسجد ويقسمه من يومه ولا يحبسه.

وفيه: دليل على أن مال الفيء لا يخمس؛ فإنه لم يذكر فيه أنه أخرج خمسه، وإنما ذكر أنه ما كان يرى أحدا إلا أعطاه.

وفيه: دليل على أن مال الفيء مما يعطى منه الغني والفقير؛ لأن العباس كان من أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولكنه أدعى المغرم وقد عرف سببه، وهو مفاداة نفسه، ومفاداة عقيل ابن عمه، وكانا وقعا في أسارى بدر، ففدى العباس نفسه وعقيلا.

قيل: إنه فدى بثمانين أوقية ذهب.
وقيل: بألف دينار.

وفيه: بيان احتقار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدنيا وإن كثرت؛ فإنه لما خرج إلى الصلاة ومر بالمال لم يلتفت إليه.

وقد روى حميد بن هلال، أن ذلك المال كان بعثه العلاء بن الحضرمي من البحرين، وكان ثمانين ألفا.

وفيه: التعجب من حرص الحريص على المال والمستكثر منه.

ويصدق هذا: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) ) .

وكاهل الإنسان: ما بين كتفيه.
وقد كان العباس - رضي الله عنه - عظيما جسيما شديد القوة، فالظاهر أنه حمل مالا كثيرا، ولم يمنعه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جواز قسمة الفيء بين أهله على غير التسوية.

وفي حديث حميد بن هلال، قال: لم يكن يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضا.

وفيه: جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب.