فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر

باب
من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر
رواه عمر، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة.

معنى هذا الباب أنه لا تكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر، فلا تكره في وقت قيام الشمس في وسط النهار قبل الزوال.

وقوله: رواه عمر وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة - يعني: أنهم رووا النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر، سوى ابن عمر؛ فإنه لم تصح عنه الرواية إلا في النهي عن الصلاة في وقت الطلوع والغروب خاصة.

ومراده: أن أحداً منهم لم يرو النهي عن الصلاة في وقت آخر غير هذه الأوقات.

ثم قال:
[ قــ :573 ... غــ :589 ]
- حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها.

ووجه استدلاله بهذا على مراده: أن ابن عمر أخبر أنه لا ينهى أحداً يصلي في ساعة من ليل أو نهار، غير أنه لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها، وأنه يصلي كما رأى أصحابه يصلون، وهذا يشعر بأنه رأى أصحابه، وهم أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون في كل وقت من ليل أو نهار، سوى وقت الطلوع والغروب.

وهذا عجيب من ابن عمر – رضي الله عنه -؛ فإنه يعلم أن أباه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر ويضرب على ذلك.

وقد روي عن عمر من وجوه، أنه نهى عن سجود التلاوة وصلاة الجنازة بعد الصبح قبل طلوع الشمس.

وقد روي مثل قول ابن عمر مرفوعاً:
رويناه في كتاب ( وصايا العلماء) لابن زبر من طريق مروان بن جعفر، عن محمد بن إبراهيم بن خبيب، عن جعفر بن سعد، عن خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة، قال: هذه وصية سمرة إلى بنيه، فذكر فيها: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نصلي أي ساعة شئنا من الليل أو النهار، غير أنه أمرنا أن نجتنب طلوع الشمس وغروبها، وقال: ( إن الشيطان يغيب معها حين تغيب، ويطلع معها حين تطلع) .


وهذه نسخة، خرج منها أبو داود في ( سننه) أحاديث.

وخرجه البزار في ( مسنده) عن خالد بن يوسف السمتي، عن أبيه، عن جعفر بن سعد.

ويوسف بن خالد السمتي، ضعيف جداً.
وقد اختلف العلماء في وقت قيام الشمس في نصف النهار قبل زوالها: هل هو وقت نهي عن الصلاة، أم لا؟
فقالت طائفة: ليس هو وقت نهي، كما أشار إليه البخاري، وهو قول مالك، وذكر أنه لا يعرف النهي عنه، قال: وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار.

وروي عنه، أنه قال: لا أكرهه ولا أحبه.

هذا مع أنه روى في ( الموطأ) حديث الصنابحي في النهي عنه، ولكنه تركه لما رآه من عمل أهل المدينة.

وممن رخص في الصلاة فيه: الحسن، وطاوس، والأوزاعي في رواية عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا.

وقال آخرون: هو وقت نهي لا يصلي فيه، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، وابن المبارك، وأحمد، وابن المنذر.

وقال: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه.

ونهى عنه عمر بن الخطاب.

وقال ابن مسعود: كنا ننهى عنه.

وقال سعيد المقبري: أدركت الناس وهم يتقون ذلك.

وقد خرج مسلم في ( صحيحة) حديثين في النهي عن الصلاة في هذا الوقت:
أحدهما: حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: ( صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .

والثاني: حديث موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: سمعت عقبة بن عامر يقول: ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.

وفي المعنى أحاديث أخر:
منها: حديث الصنابحي، وقد ذكرناه فيما تقدم.

ومنها: حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث، وفيه: ( ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح، ثم لا صلاة حتى تزول الشمس) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرج – أيضا - من حديث ليث، عن ابن سابط، عن أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( لا تصلوا عند طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ويسجد لها كل كافر، ولا نصف النهار، فإنها عند سجر جهنم) .
وليث، هو: ابن أبي سليم.
وعبد الرحمن بن سابط، لم يسمع من أبي أمامة -: قاله ابن معين وغيره.

والصحيح: أن أبا أمامة إنما سمعه من عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما تقدم.

وقد روي، عن ليث، عن ابن سابط، عن أخي أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وروى ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلاً سال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمن ساعات الليل والنهار ساعة تأمرني أن لا أصلي فيها؟ – فذكر الحديث بطوله، وفيه: ( فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإنه حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم.
فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر)
– وذكر الحديث.

خرجه ابن خزيمة في ( صحيحه) .

وخرجه ابن ماجه وابن حبان في ( صحيحه) من طريق ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، أن صفوان بن المعطل سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره بنحوه.

وخرجه عبد الله بن الإمام أحمد والحاكم من رواية حميد بن الأسود، عن الضحاك، عن المقبري، عن صفوان بن المعطل – لم يذكر في إسناده: أبا هريرة.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

ورواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، أن عمرو بن عبسة سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.

خرجه الهيثم بن كليب في ( مسنده) .

وهو منقطع؛ عون لم يسمع من ابن مسعود.

قال الدارقطني: قول الليث أصح – يعني: من قول الضحاك ويزيد بن عياض.

قال: وروي عن الليث، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن ابن المسيب، عن عمرو بن عبسة، وهو وهم على الليث؛ إنما روى الليث في آخر الحديث ألفاظاً عن ابن عجلان عن سعيد المقبري – مرسلاً.

قلت: ورواه ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن المقبري، عن عون ابن عبد الله، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة نصف النهار.

خرجه الطبراني.

وابن لهيعة، سيء الحفظ.

وروى الطبراني – أيضا -: أخبرنا أبو زرعة الدمشقي: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة في ثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى تطلع، ونصف النهار، وعند غروب الشمس.

وهذا غريب جداً، وكأنه غير محفوظ.

وروى عاصم عن زر، عن ابن مسعود، قال: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار، فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها، فكنا ننهى عن الصلاة عن طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند نصف النهار.

خرجه يعقوب بن شيبة السدوسي في ( مسنده) .

وخرجه البزار، ولفظه: عن ابن مسعود، قال: نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر – أو قال: بعد صلاة الصبح – حتى تطلع الشمس، ونصف النهار.
قال: في شدة الحر.

القصمة – بالفتح -: الدرجة، سميت لأنها كسرة من القصم: الكسر.

وروى الإسماعيلي من حديث أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( لا تصلوا قبل طلوع الشمس حتى تطلع، ولا عند غروبها حتى تغرب، ولا نصف النهار حتى تزول) .

أيوب بن جابر، ضعيف الحديث.

وقالت طائفة: تكره الصلاة وسط النهار، إلا يوم الجمعة، وهو قول مكحول والأوزاعي في رواية، وسعيد بن عبد العزيز وأبي يوسف والشافعي وإسحاق.

وروى الشافعي فيه حديثاً بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة.

وروى مالك، عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج، فإذا خرج عمر جلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا.

وخرج أبو داود من حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: ( إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) .

وقال: هو مرسل؛ أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

وقال الأثرم: له علل، ومنها: أنه من حديث ليث، ومنها: أن أبا الخليل لم يلق أبا قتادة.
انتهى.

وأبو الخليل، هو: صالح بن أبي مريم، ومن زعم أنه عبد الله بن الخليل صاحب علي فقد وهم.

وقال طاوس: يوم الجمعة صلاة كله.

وذكر قوله للإمام أحمد، فأنكره، وقال: فيصلي بعد العصر حتى تغرب الشمس؟!.

وقالت طائفة اخرى: يكره ذلك في الصيف لشدة الحر فيه، دون الشتاء، وحكي عن عطاء.

وفي بعض روايات حديث ابن مسعود المتقدم ما يشهد له.

وقال ابن سيرين: يكره نصف النهار في شدة الحر، ولا يحرم.

والمعنى في كراهة الصلاة وقت استواء الشمس: أن جهنم تسعر فيها، فيكون ساعة غضب الرب سبحانه، فهي كساعة سجود الكفار للشمس، والصلاة صلة بين العبد وربه؛ لأن المصلي يناجي ربه، فتجتنب مناجاته في حال غضبه حتى يزول المقتضي لذلك.
والله أعلم.