فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب وقت العصر

باب
وقت العصر
خرج فيه عن عائشة، وأبي برزة، وأنس:
فحديث عائشة: خرجه من طرق مسندات تعليقاً، فقال:
وقال أبو أسامة، عن هشام: في قعر حجرتها.

وفي بعض النسخ ذكر هذا بعد ان اسنده من حديث أبي ضمرة، وهو أحسن وقال:
[ قــ :529 ... غــ :544 ]
- نا إبراهيم بن المنذر، قال: نا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها.



[ قــ :530 ... غــ :545 ]
- ثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها.



[ قــ :531 ... غــ :546 ]
- ثنا ابو نعيم: نا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي، لم يظهر الفيء بعد.

قال ابو عبد الله: وقال مالك، ويحيى بن سعيد، وشعيب، وابن أبي حفصة: والشمس قبل أن تظهر.

حديث مالك هذا الذي اشار اليه، قد خرجه في أول " كتاب: المواقيت" في ضمن حديث أبي مسعود الأنصاري، من طريق مالك، عن الزهري، ولفظه: قال عروة: ولقد حدثتني عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل أن تظهر.

وكان مقصود عروة: الاحتجاج على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - حيث أخر العصر يوماً شيئاً، فأخبره عروة بهذا الحديث، مستدلاً به على ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجل العصر في اول وقتها.

ووجهة الدلالة من الحديث على تعجيل العصر: أن الحجرة الضيقة القصيرة الجدران يسرع ارتفاع الشمس منها، ولا تكون الشمس فيها موجودة، إلا والشمس مرتفعة في الافق جداً.

وفسر الهروي وغيره: ظهور الشمس من الحجرة بعلوها على السطح، فيكون الظهور العلو، ومنه: قوله تعالى: { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] ، وقوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] ، وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".

وقد ذكر ابن عبد البر في معنى ظهور الشمس من الحجرة في هذا الحديث قولين: أحدهما: العلو كما تقدم.
والثاني: أن معناه خروج الشمس من قاعة الحجرة.
قال: وكل شيء خرج فقد ظهر.

قلت: ورواية أبي ضمرة أنس بن عياض، عن هشام التي خرجها البخاري ها هنا تدل على هذه؛ لأنه قال في روايته: " والشمس لم تخرج من حجرتها " وفي رواية الليث وغيره: " لم يظهر الفيء من حجرتها ".

والفيء: هو الظل بعد الزوال بذهاب الشمس منه، والمعنى: أن الفيء لم يعم جميع حجرتها، بل الشمس باقية في بعضها.

وعلى هذه الرواية، فيكون معنى ظهور الفيء من الحجرة: وجوده وبيانه ووضوحه.

وفسر - أيضا - ظهوره: بعلوه لجدر الحجرة.

وفسر محمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه" ظهور الفيء بغلبته على الشمس.
قال: والمعنى: لم يكن الفيء أكثر من الشمس حين صلى العصر، كما يقال: ظهر فلان على فلان إذا غلب عليه.
وفي بعض روايات ابن عيينة لهذا الحديث زيادة: " بيضاء نقية".

وأمارواية أبي أسامة، عن هشام التي ذكرها البخاري - تعليقا -: " والشمس في قعر حجرتها"، فهذه الرواية تدل على أن الشمس كانت موجودة في وسط الحجرة وأرضها، لم تظهر على جدران الحجرة.

وهذه الرواية تدل على شدة تعجيل العصر أكثر من غيرها من الروايات، فإن بقية الروايات إنما تدل على بقاء الشمس في الحجرة لم تخرج منها، فيحتمل ان تكون موجودة على حيطان الحجرة قد قاربت الخروج.

ورواية أبي أسامة تدل على ان الشمس كانت موجودة في أرض الحجرة.

وقد خرجه الإسماعيلي في " صحيحه" والبيهقي من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس في قعر حجرتي.

وخرجه البيهقي - أيضا - من طريق أبي معاوية: نا هشام - فذكره، وقال: " والشمس بيضاء في قعر حجرتي طالعة".

وحكى عن الشافعي، أنه قال: هذا من أبين ما روي في أول الوقت؛ لأن حجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في موضع منخفض من المدينة، وليست بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في اول وقت العصر.
وحديث أبي برزة:
قال:


[ قــ :53 ... غــ :547 ]
- حدثنا محمد بن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية - ونسيت ما قال في المغرب -، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة.

المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: قول أبي برزة: " كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية".

وقد سبق الحديث من رواية شعبة، عن أبي المنهال، وفيه: " ويصلي العصر وأحدنا يذهب إلى اقصى المدينة، ثم يرجع والشمس حية"، وذكر في حديثه: زيادة الرجوع.

وقوله: " والشمس حية" فسر خيثمة حياتها بأن تجد حرها.

خرجه البيهقي.
وقيل: حياتها: بقاء لونها.

وقيل: بقاء حرها ولونها -: قاله الخطأبي وغيره.

وحديث أنس:
خرج له ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:


[ قــ :533 ... غــ :548 ]
- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يخرج الأنسان إلى بني عمرو بن عوف، فنجدهم يصلون العصر.

وكذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به.
وكذا هو في " الموطإ ".

ورواه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب، عن مالك، عن إسحاق، عن أنس، قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا الحديث، وصرحا برفعه.

والرواية المشهورة عن مالك في معنى المرفوع؛ لأن أنسا إنما أخرجه في مخرج الاستدلال به على تعجيل العصر.

وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة، وروي ذلك في حديث عن عروة بن الزبير.
وفي الحديث: دليل على جواز تأخير العصر، ما لم يدخل وقت الكراهة؛ فإن الصحابة فيهم من كان يؤخرها عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عهده، والظاهر: أنه كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم ذلك، ويقر عليه.

وروى ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كنت أصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر والشمس بيضاء محلقة، ثم آتي عشيرتي وهم جلوس، فأقول: ما مجلسكم؟ صلوا؛ فقد صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه الإمام أحمد.

وخرج النسائي إلى قوله: " محلقة".

وخرجه الدارقطني بتمامه، وزاد فيه: وهم في ناحية المدينة.

وأبو الأبيض هذا، قال الإمام أحمد: لا أعرفه، ولا أعلم روى عنه الا ربعي بن حراش.




[ قــ :534 ... غــ :549 ]
- حدثنا ابن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، قال: سمعت أبا أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، فقلت: ياعم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? التي كنا نصلي معه.

أبو أمامة، هو: ابن سهل بن حنيف.

وصلاة عمر بن عبد العزيز هذه كانت بالمدينة، حيث كان أميراً من قبل الوليد، وقد تقدم أنه حينئذ لم يكن عنده علم من مواقيت الصلاة المسنونة، فكان يجري على عادة أهل بيته وعموم الناس معهم في تأخير الصلاة أحياناً، فلما بلغته السنة اجتهد حينئذ على العمل بها، ولكنه لم يعمل القيام بها على وجهها إلا في أيام خلافته، فإنه بالغ حينئذ في إقامة الحق على وجهه، ولم يترخص في شيء مما يقدر عليه، ولا أخذته في الله لومة لائم - رضي الله عنه.

[الحديث الثالث] :


[ قــ :535 ... غــ :550 ]
- حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة.

وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه.



[ قــ :536 ... غــ :551 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة.

إنما خرجه من هذين الوجهين، ليبين مخالفته لأصحاب الزهري في هذا الحديث.

وقد خالفهم فيه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكره أصحاب الزهري، كما خرجه البخاري هنا من رواية شعيب.

وخرجه في أواخر " كتابه" من رواية صالح بن كيسان، ثم قال: زاد الليث، عن يونس: " وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة".

وخرجه مسلم من رواية الليث وعمرو بن الحارث - كلاهما -، عن الزهري، به.

ورواه أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن الزهري.

وما ذكره البخاري في رواية شعيب من قوله: " وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه"، فهو من قول الزهري، أدرج في الحديث.

قال البيهقي: وقد بين ذلك معمر، عنه.

ثم خرجه من طريق معمر عنه، وقال في آخر حديثه: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين وثلاثة - أو حسبه قال: وأربعة.

والوجه الثاني: أن مالكا قال في روايته: " ثم يذهب الذاهب إلى قباء"، كذا رواه أصحابه عنه، وكذا هو في " الموطا ".

وخالفه سائر أصحاب الزهري، فقالوا: " إلى العوالي".

وقد رواه خالد بن مخلد، عن مالك، فقال فيه: " العوالي"، وليس هو بمحفوظ عن مالك.

قال النسائي: لم يتابع مالكاً احد على قوله في هذا الحديث: " إلى قباء " والمعروف: " إلى العوالي".

وقال ابن عبد البر: رواه جماعة أصحاب الزهري عنه، فقالوا: " إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث.
قال: وقول مالك: " إلى قباء " وهم لا شك فيه عندهم، ولم يتابعه أحد عليه.

وكذا ذكر أبو بكر الخطيب وغيره.

قلت: قد رواه الشافعي في القديم: أنا [أبو] صفوان ابن سعيد بن عبد الملك ابن مروان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أنس، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيها والشمس مرتفعة.
ورواه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، وقال: " إلى العوالي".

وكذا رواه الواقدي، عن معمر، عن الزهري.
وهذا لا يلتفت إليه.

قال ابن عبد البر: إلا أن المعنى في ذلك متقارب على سعة الوقت؛ لأن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومثل هذا هي المسافة بين قباء وبين المدينة، وقباء من بني عمرو بن عوف، وقد نص على بني عمرو بن عوف في [حديث أنس] هذا إسحاق بن أبي طلحة.

يشير إلى حديثه المتقدم، وخرجه من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه: " والعوالي من المدينة على عشرة أميال"، وكان الزهري ذكر في هذه الرواية أبعد ما بين العوالي والمدينة، كما ذكر في الرواية المتقدمة أقرب ما بينها وبين المدينة.

وفي الباب حديث آخر: خرجه البخاري في " القسمة"، فقال: نا محمد ابن يوسف: نا الأوزاعي: نا أبو النجاشي، قال: سمعت رافع بن خديج [قال] : كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فننحر جزرواً، فتقسم عشر قسم، فناكل لحماً نضيجاً قبل ان تغرب الشمس.
قال الدارقطني: ابو النجاشي، اسمه: عطاء بن صهيب، ثقة مشهور، صحب رافع بين خديج ست سنين.

والكلام هاهنا في مسألتين:
احداهما:
في حد وقت العصر: اوله واخره:
فأمااوله: فحكى ابن المنذر فيه اقوالا، فقال:
اختلفوا في اول وقت العصر: فكان مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابو ثور يقولون: وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله.

واختلفوا بعد، فقال بعضهم: اخر وقت الظهر اول وقت العصر، فلو ان رجلين صلى احدهما الظهر والاخر العصر حين صار ظل كل شيء مثله لكانا مصليين الصلاتين في وقتها، قال بهذا إسحاق، وذكر ذلك عن ابن المبارك.

وأماالشافعي فكان يقول: اول وقت العصر إذا جاوز ظل كل شيء مثله ما كان، وذلك حين ينفصل من اخر وقت الظهر.

قلت: هذا هو المعروف في مذهب أحمد وأصحابه، وحكى بعض المتأخرين رواية عنه كقول ابن المبارك وإسحاق، وهي غير معروفة.

قال ابن المنذر: وحكي عن ربيعة قول ثالث، وهو: ان وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس.

وفيه قول رابع، وهو: ان وقت العصر ان يصير الظل قائمتين بعد الزوال، ومن صلاها قبل ذلك لم تجزئه، وهذا قول النعمان - يعني: ابا حنيفة.

وحكى ابن عبد البر، عن مالك مثل قول ابن المبارك وإسحاق، وعن الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور مثل قول الشافعي، وعن أبي حنيفة: آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثليه.

قال: فخالف القياس في ذلك، وخالفه أصحابه فيه.

وذكر الطحاوي رواية اخرى عن أبي حنيفة، أنه قال: آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، كقول الجماعة.
ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتا مفرداً لا يصلح لاحدهما.

قال: وهذا لم يتابع عليه - أيضا.

وحكى ابن عبد البر، عن أبي ثور والمزني مثل قول ابن المبارك ومن تابعه، بالاشترك بين الوقتين إذا صار ظل كل شيء مثليه بقدر اربع ركعات، فمن صلى في ذلك الوقت الظهر والعصر كان مؤديا لها.

وحكي عن عطاء وطاوس، ان ما بعد مصير ظل كل شيء مثله وقت الظهر والعصر معاً، قال طاوس: إلى غروب الشمس، وقال عطاء: إلى اصفرارها، وقد سبق ذكر قولها، وانه حكى رواية عن مالك.

وقد نص الشافعي على ان وقت العصر لا يدخل حتى يزيد ظل الشيء على مثله، وكذلك قاله الخرقي من أصحابنا.

واختلف أصحاب الشافعي في معنى قوله: "بالزيادة".

فمنهم من قال: هي لبيان انتهاء الظل إلى المثل، والا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد حصول المثل، فعلى هذا تكون الزيادة من وقت العصر.

ومنهم من قال: انها من وقت الظهر، وانما يدخل العصر عقبها، وقيل: انه ظاهر كلام الشافعي والعراقيين من أصحابه.

ومنهم من قال: ليست الزيادة من وقت الظر ولا من وقت العصر، بل هي فاصل بين الوقتين.
وهو اضعف الاقوال لهم.

وأماالمنقول عن السلف، فاكثرهم حدده بقدر سير الراكب فرسخاً أو فرسخين قبل غروب الشمس.

فروى مالك، عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله: صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعاً، الا ان يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، قبل غروب الشمس.

ورواه غيره: عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر.
وروى ابو نعيم الفضل بن دركين: نا سعد بن أوس، عن بلال العبسي، ان عمر كتب إلى سعد: صل العصر وانت تسير لها ميلين او ثلاثة.

نا يزيد بن مردانبه، قال: سالت أنس بن مالك عن وقت العصر، فقال: إذا صليت العصر ثم سرت ستة اميال حتى إلى غروب الشمس فذلك وقتها.

نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: تصلي العصر قدر ما تسير البعير المحملة فرسخين.

نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: فرسخ.

وأمااخر وقت العصر، ففيه اقوال:
أحدهما: أنه غروب الشمس، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة وأبي جعفر محمد بن علي.

والثاني: إلى مصير ظل كل شيء مثليه، روي عن أبي هريرة، وهو قول الشافعي، وأحمد في رواية.

والثالث: حتى تصفر الشمس، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول الاوزعي، وأحمد في رواية، وأبي يوسف، ومحمد.

وفيه حديث، عن عبد الله بن عمرو، اختلف في رفعه ووقفه، وقد خرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعاً.

واكثر من قال بهذا القول والذي قبله، قالوا: لا يخرج وقت العصر بالكلية باصفرار الشمس ولا بمصير ظل كل شيء مثليه، انما يخرج وقت الاختيار، ويبقى ما بعده وقت ضرورة.

وهل يكون التأخير اليه لغير ذوي الاعذار محرما، او مكروهاً كراهة تنزيه؟ فيه وجهان لأصحابنا.

وقال الاصطخري من الشافعية: يخرج وقت العصر بالكلية حتى يصير ظل الشيء مثليه، ويصير بعد ذلك قضاء، ولم يوافقه على ذلك احد.

والمشهور عند الشافعية: انه بعد مصير ظل كل شيء مثليه إلى اصفرار الشمس يجوز التأخير اليه بلا كراهة، ولكن يفوت وقت الفضيلة والاختيار، وقالوا: يفوت وقت الفضيلة بمصير ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت الاختيار بمصير ظل الشيء مثليه، ووقت الجواز يمتد إلى اصفرار الشمس، ومن وقت الاصفرار إلى ان تغرب الشمس وقت كراهة لغير ذوي الاعذار.

وحكى ابن عبد البر عن مالك وغيره من العلماء: ان من صلى العصر قبل اصفرار الشمس فقد صلاها في وقتها المختار، وحكاه اجماعاً، وحكاه عن الثوري وغيره.

قال: وهذا يدل على ان اعتبار المثلين انما هو للاستحباب فقط.

وحكى عن أبي حنيفة: ان وقت الاختيار بمتد إلى اصفرار الشمس.

وحكى عن إسحاق وداود: اخر وقت العصر ان يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب، وسواء المعذور وغيره.

وسيأتي القول في ذلك فيما بعد - ان شاء الله سبحانه وتعالى.

وحكى الترمذي في "جامعه" عن أبي بكرة انه نام عن صلاة العصر، فاستيقط عند الغروب، فلم يصل حتى غربت الشمس.

وهذا قد ينبني على ان وقت العصر يخرج بالكلية باصفرار الشمس، فتصير قضاء، والفوائت لا تقضي في اوقات النهي عند قوم من اهل العلم.

ونهى عمر بن الخطاب من فاته شيء من العصر ان يطول فيما يقضيه منها، حشية ان تدركه صفرة الشمس قبل ان يفرغ من صلاته.

والمسألة الثانية:
هل الافضل تعجيل العصر في اول وقتها، او تأخيرها؟ فيه قولان:
احدهما - وهو قول الحجازيين وفقهاء الحديث -: ان تعجيلها في اول وقتها افضل، وهو قول الليث، والاوزاعي، وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقول اهل المدينة: مالك وغيره.

ولكن مالك يستحب لمساجد الجماعات ان يوخروا العصر بعد دخول وقتها قليلاً؛ وليتلاحق الناس إلى الجماعة.

وقد تقدم انكار عروة على عمر بن عبد العزيز تأخيره العصر شيئا، وانكار أبي مسعود الانصاري على المغيرة تأخير العصر شياً.

والاحاديث التي خرجها البخاري في هذا الباب كلها تدل على استحباب تعجيل العصر وتقديمها في اول وقتها.

والقول الثاني: ان تأخير إلى اخر وقتها ما لم تصفر الشمس افضل، وهو قول اهل العراق، منهم: النخعي، والثوري، وابو حنيفة.

قال النخعي: كان من قبلكم اشد تأخير للعصر منكم، وكان ابراهيم يعصر العصر - أي: يضيقها إلى اخر وقتها.

وقال ابو قلابة وابن شبرمة: انما سميت العصر لتعصر.

وقد روي هذا القول عن علي، وابن مسعود وغيرهما، وفيه احاديث مرفوعة، كلها غير قوية.

قال العقيلي: الرواية في تأخير العصر فيها لين.

وذكر الدارقطني انه لا يصح منها شيء يقاوم احاديث التعجيل؛ فانها احاديث كثيرة، واسانيدها صحيحة من اصح الاسانيد واثبتها.
وقال: احاديث تأخير العصر لم يثبت، وانما وجهها - ان كانت محفوظة -: ان يكون ذلك على غير تعمد، ولكن للعذر والأمر يكون.


باب
إثم من فاتته العصر
[ قــ :536 ... غــ :5 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك عن، نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) ) .

قال أبو عبد الله: ? { يَتِرَكُمْ} [محمد:35] : وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً، وأخذت ماله.

فوات صلاة العصر: أريد به: فواتها في وقتها كله، كذا فسره ابن عبد البر وغيره.

وقد فسره الاوزاعي: بفوات وقت الاختيار، بعد أن روى هذا الحديث عن نافع، قال الأوزاعي: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس مصفراً.

خرجه أبو داود في " سننه" ومحمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه".

وقد أدرج بعضهم هذا في الحديث: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الوليد، عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من فاتته صلاة العصر - وفواتها: أن تدخل الشمس صفرةٌ - فكأنما وتر أهله وماله) ) ؟ فقال أبي: التفسير من قول نافع.
انتهى.

وقد تبين أنه من قول الأوزاعي كما سبق.

وقد رويت هذه اللفظة من حديث حجاج والأوزاعي، عن الزهري، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?.

وروى هذا الحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه من طريقه مسلم.

ورواه حفص بن غيلان، عن سالم، وزاد فيه: " في جماعة".

وهذه - أيضا - مدرجة، وكأنها في تفسير بعض الرواة، فسر فواتها المراد في الحديث بفوات الجماعة لها، وإن صلاها في وقتها، وفي هذا نظر.

وعلى تفسير الأوزاعي يكون المراد: تأخيرها إلى وقت الكراهة، وإن صلاها في وقتها المكروه.

وعلى مثل ذلك يحمل ما رواه مالك في " الموطأ" عن يحيى بن سعيد، أنه قال: إن الرجل ليصلي الصلاة وما قاتته، ولما فاتته من وقتها أعظم - أو أفضل - من أهله وماله.

وقد رواه الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم، عن طلق بن حبيب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.

ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن يعلى، عن طلق، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ورواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن طلق بن حبيب، قال: كان يقال - فذكره، ولم يذكر: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه محمد بن نصر المروزي من هذه الوجوه كلها.

وقد روي موصولاً من وجوه أخر:
فروى وكيع في " كتابه" عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الرجل ليدرك الصلاة، وما فاته من وقتها خير له من أهله وماله".

ورواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن شعبة، به.

والزهري لم يسمع من ابن عمر عند جماعة، وقيل: سمع منه حديثاً أو حديثين.

ورواه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه.

خرجه محمد بن نصر المروزي.

والوليد هذا، لا أعرفه، إلا أن يكون الجرشي الحمصي، فإنه ثقة معروف.

وروى إبراهيم بن الفضل المدني، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها، وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من اهله وماله) ) .

خرجه الدارقطني.

وإبراهيم هذا، ضعيف جداً.

ورواه - أيضا - يعقوب بن الوليد المدني، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.

ويعقوب هذا، منسوب إلى الكذب.

قال ابن عبد البر في " الاستذكار": وقد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة.
وزعم في " التمهيد" أن حديث أبي هريرة هذا حسن، وليس كما قال.

قال ابن عبد البر: كان مالك - فيما حكى عنه ابن القاسم - لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا - يعني: الذي حكاه عنه في " الموطا".

وذكر ابن عبد البر أن سبب كراهة مالك لذلك - والله اعلم - أن وقت الصلاة كله يجوز الصلاة فيه، كما قال: " ما بين هذين وقت"، ولم يقل: أوله أفضل.
والذي يصح عندي في ذلك: أن مالكا إنما أنكر قول يحيى بن سعيد؛ لأنه إنما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ذلك فيمن فاتته العصر بالكلية حتى غربت الشمس، فكأن مالكا لم ير أن بين اول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يبلغ ذهاب الأهل والمال؛ لأن ذلك إنما هو في ذهاب الوقت كله.

وفي هذا الحديث: أن ذهاب بعض الوقت كذهاب الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء، لا من فضل اول الوقت على آخره، ولا من سوى بينهما؛ لأن فوت بعض الوقت مباح، وفوت الوقت كله لا يجوز، وفاعله عاص لله إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وان كان من صلى في [أول] وقته أفضل منه.
انتهى.

وقد تقدم أن الأوزاعي حمله على من فوت وقت الاختيار، وصلى في وقت الضرورة، وهو يدل على انه يرى ان التأخير إليه محرم، كما هو أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول ابن وهب وغيره.

ومنهم من حمله على من فوتها حتى غربت الشمس بالكلية.
وظاهر تبويب البخاري يدل على ان الحديث محمول على من فوت العصر عمداً لتبويبه عليه: " باب: إثم من فاتته العصر".

فأمامن نام عنها أو نسيها فإن كفارته أن يصليها إذا ذكرها، وإذا كان ذلك كفارة له فكأنه قد أدرك بذلك فضلها في وقتها.

وفي هذا نظر، ولا يلزم من الإتيان بالكفارة إدراك فضل ما فاته من العمل، وفي الحديث: " من ترك الجمعة فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار"، ولا يلزم من ذلك ان يلحق فضل من شهد الجمعة.

ولهذا المعنى يقول مالك والأوزاعي وغيرهما فيمن صلى في الوقت صلاة فيها بعض نقص: إنها تعاد في الوقت، ولا تعاد بعده؛ لأن نقص فوات الوقت أشد من ذلك النقص المستدرك بالإعادة بعده، فلا يقوم الإتيان به خارج الوقت مقام الإتيان به في الوقت، بل الإتيان في الوقت بالصلاة على وجه فيه نقص أكمل من الإتيان بالصلاة كاملة في غير الوقت.

ويدل على ما قاله البخاري: ما خرجه الإمام أحمد من رواية حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " الذي تفوته صلاة العصر متعمداً حتى تغرب الشمس فكأنما وتر أهله وماله".

ويدل عليه - أيضا - حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته".

خرجه الإمام أحمد من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ورواه ابو غسان وهشام بن سعد، عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.

وقد روي ما يدل على أن الناسي لا تكون الصلاة فائتة له كالنائم:
فروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري - فذكر قصة نومهم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس -، وفيه: قال: فقلت: يا رسول الله، هلكنا، فاتتنا الصلاة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لم تهلكوا ولم تفتكم الصلاة، وإنما تفوت اليقطان ولا تفوت النائم) ) - وذكر الحديث.

وقد حمل بعض السلف هذا الحديث على من فاتته العصر بكل حال، وإن كان ناسياً.

فروى زهير بن معاوية: نا أسيد بن شبرمة الحارثي، قال: سمعت سالما يحدث عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) ) قال: فقلت: وإن نسي؟ قال: وإن نسي، فصلاة ينساها أشد عليه من ذهاب أهله وماله.
خرجه الدارقطني في أول كتابه " المختلف والمؤتلف".

وذكر أن أسيد بن شبرمة، يقال: فيه " أسيد " - أيضا - بالضم، قال: ولا اعرف له غير هذا الحديث، وحديث آخر رواه عن الزهري.

وقوله: " وتر أهله وماله ".

قيل: معناه: حرب أهله وماله وسلبهما، من وترت فلاناً إذا قتلت حميمه، والوتر: الحقد، بكسر الواو، ولا يجوز فتحها، وذلك أبلغ من ذهاب الأهل والمال على غير هذا الوجه، لأن الموتور يهم بذهاب ما ذهب منه ويطلب ثأره حتى يأخذ به.

وقيل: معناه: أفرد عن أهله وماله، من الوتر - بكسر الواو وفتحها -، وهو الفرد - أي: صار هو فرداً عن أهله وماله.

وعلى هذا والذي قبله، فالمعنى: ذهاب جميع أهله وماله.

وقيل: معناه: قلل ونقص، ومنه: قوله تعالى: { وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .

و ( ( أهله وماله) ) : روايتهما بنصب اللام، على أنه مفعول ثان لـ" وتر "؛ لأن ( ( وتر) ) و ( ( نقص) ) يتعديان إلى مفعولين، ولو روي بضم اللام على المفعول الأول لم يكن لحنا، غير أن المحفوظ في الرواية الأول -: قاله الحافظ أبو موسى المديني.

وقال أبو الفرج ابن الجوزي في " كشف المشكل": في إعراب الأهل والمال، قولان:
أحدهما: نصبهما، وهو الذي سمعناه وضبطناه على أشياخنا في كتاب أبي عبيد وغيره، ويكون المعنى: فكأنما وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب.

والثاني: رفعهما على من لم يسم فاعله، والمعنى: نقصنا.

وكأنه يشير إلى أن النصب والرفع يبنى على الاختلاف في معنى " وتر": هل هو بمعنى: سلب، أو بمعنى: نقص؟ والله اعلم.

وفي الحديث: دليل على تعظيم قدر صلاة العصر عند الله عز وجل وموقعها من الدين، وأن الذي تفوته قد فجع بدينه وبما ذهب منه، كما يفجع من ذهب أهله وماله.

وهذا مما يستدل به على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها خصوصاً بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عموماً.

وقد زعم بعض العلماء: أن هذا لا يختص بفوات العصر، وأن سائر الصلوات فواتها كفوات العصر في ذلك، وأن تخصيص العصر بالذكر إنما كان بسؤال سائل سأل عنه فأجيب، ورجحه ابن عبد البر، وفيه نظر.

وقد يستدل له بما خرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من ترك الصلاة سكراً مرةً واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها، فسلبها".

واستدل من قال: إن جميع الصلوات كصلاة العصر في ذلك بما روى ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر اهله وماله".

قال: وهذا يعم جميع الصلوات، فإن الاسم المعرف بالألف واللام كما في قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .

وهذا ليس بمتعين؛ لجواز أن يكون الألف واللام هنا للعهد، كما في قوله تعالى { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] على تأويل من فسرها بصلاة العصر.

وحديث نوفل بن معاوية قد اختلف في إسناده ومتنه، وقد خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين" في ضمن حديث آخر تبعا لغيره مخرجاً من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم" - الحديث.

وعن الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية، مثل حديث أبي هريرة، إلا أن أبا بكر يزيد: " من الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله".
كذا خرجه البخاري في " علامات النبوة" من " صحيحه"، وخرجه مسلم في " كتاب الفتن".

وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بهذا الإسناد لحديث نوفل.

ورواه ابن أبي ذئب، عن الزهري، فأسقط من إسناده: عبد الرحمن بن مطيع.

وكذلك روي عن معن، عن مالك، عن الزهري.

قال النسائي: أخاف أن لا يكون محفوظاً، عن مالك، ولعله: معن، عن ابن أبي ذئب.

وقد روي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن نوفل، وهو وهم على ابن أبي ذئب.
وأماالاختلاف في متن الحديث، فقد روي عن [ابن] أبي ذئب أنه قال في الحديث: " من فاتته الصلاة" كما تقدم، وروي عنه أنه قال في حديثه: " من فاتته صلاة" وروي عنه في حديثه: " من فاتته صلاة العصر".

وفي رواية له: " من فاتته الصلاة " وفي آخر الحديث - قلت لأبي بكر: ما هذه الصلاة؟ قال: هي العصر؛ سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر" - الحديث.

وفي رواية: قال ابو بكر: لا أدري.

وقد خرجه الإمام أحمد بالوجهين، وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنها تدل على أن الزهري سمعه من أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما سمعه من سالم، عن أبيه.

وقد أشار الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله إلى أن الصحيح حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه كما سبق.

ويدل على صحة ما ذكره: أن البيهقي خرج حديث ابن أبي ذئب، ولفظه: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله"، وزاد: قال ابن شهاب: فقلت: يا أبا بكر، أتدري أنت [أية] صلاة هي؟ قال ابن شهاب: بلغني أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".

قال: ورواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب، وقال في آخره: قال الزهري: فذكرت ذلك لسالم، فقال: حدثني أبي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ترك صلاة العصر".
وأمارواية صالح بن كيسان، عن الزهري المخرجة في " الصحيحين"، فقد سبق لفظها، وهو: " إن في الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله".

ولحديث نوفل طريق آخر: من رواية جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن نوفل بن معاوية، أنه حدثه، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من فاتته صلاةٌ فكأنما وتر أهله وماله".
قال عراك: فأخبرني عبد الله بن عمر انه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله".

خرجه النسائي.

وخرجه - أيضا - من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، أنه بلغه ان نوفل بن معاوية قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من الصلاة، صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله"؛ قال ابن عمر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " هي صلاة العصر".

وخرجه - أيضا - من طريق ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: صلاةٌ، من فاتته فكأنما وتر أهله وماله؛ قال ابن عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هي صلاة العصر".

ففي رواية ابن إسحاق وجعفر بن ربيعة، ان عراكا سمعه من نوفل، وفي حديث الليث ان عركا بلغه عن نوفل.
قال ابو بكر الخطيب: الحكم يوجب القضاء في هذا الحديث لجعفر بن
ربيعة بثبوت اتصاله للحديث؛ لثقته وحفظه.
قال: ورواية الليث ليست تكذيباً؛ لأنه يجوز أن يكون عراك بلغه الحديث عن نوفل ثم سمعه منه، فرواه على الوجهين
جميعاً.
انتهى.

وخرج الطحاوي حديث ابن إسحاق بزيادة حسنة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، قال: سمعت نوفل بن معاوية وهو جالس مع عبد الله بن عمر بسوق المدينة يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله" فقال ابن عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هي العصر".

وهذه الرواية إن كانت محفوظة دلت على سماع عراك للحديث من نوفل وابن عمر.

وقال البيهقي: الحديث محفوظ عنهما جميعاً؛ رواه عراك عنهما، أمابلاغاً او سماعاً.

وهذا يدل على توقفه في سماع عراك له منهما.