فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب لا يرد السلام في الصلاة

باب
لا يرد السلام في الصلاة

فيه حديثان:
الأول:
[ قــ :1172 ... غــ :1216 ]
- حدثنا عبد الله بن أبي شيبة: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أسلم علي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه، فلم يرد علي، وقال: ( ( إن في الصلاة لشغلا) ) .

قد سبق هذا الحديث، مع الكلام على إسناده.

والمقصود منه في هذا الباب: أن المصلي لا يرد السلام على من سلم عليه؛ لاشتغاله بما هوَ فيهِ من الإقبال على مناجاة الله عز وجل، فلا ينبغي لهُ أن يتشاغل بغيره، ما دام بين يديه.


الثاني:
[ قــ :1173 ... غــ :117 ]
– ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: بعثني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة له، فانطقت، ثم رجعت وقد
قضيتها، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي ما الله أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد علي أني أبطات عليه، ثم سلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه، فرد علي، فقال: ( ( إنما منعني أن أرد عليك، أني كنت أصلي) ) ، وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة.

وقد دل هذان الحديثان على مسائل:
منها:
أن المصلي إذا سلم عليه في الصلاة، لم يرد السلام بقوله، وهذا قول جمهور أهل العلم.

وذهب طائفة إلى أنه يجوز أن يرد السلام بقوله، روي ذلك عن أبي هريرة.

وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة.

وقال عطاء: يرد عليه إذا كان جالسا في التشهد الأخير.

وهذا مبني على قوله: إن المصلي يخرج من صلاته بدون السلام، كما سبق.
وقد نقل يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: أن المصلي يشمت العاطس، يقول له: يرحمك الله.

وقال: هو دعاء له؛ وقد دعا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته لقوم، ودعا على آخرين.

وقياس هذا: أنه يرد عليهِ السلام؛ لأنه دعاء لهُ –أيضا.

ولا يقال: الدعاء لمعين لايكون إلا على وجهة الخطاب لهُ؛ فإنه قد ورد ذلك على وجه الخطاب للمعين، كما يقول المصلي في تشهده: ( ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ) .

وفي ( ( صحيح مسلم) ) ، عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في صلاته للشيطان الذي تفلت عليه: ( ( أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله) ) – ثلاثا.

ومتى كان رد السلام بدون لفظ الخطاب، مثل أن يقول: ( ( عليه السلام) ) أو
( ( يرحمه الله) ) لم تبطل الصلاة به عند الشافعية وغيرهم، كالدعاء لمعين في الصلاة.

وقد سبق ذكره والاختلاف فيه.

والصحيح: الأول؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتنع من رد السلام في الصَّلاة، وعلل بأنه يصلي، فدل على أن الصَّلاة تمنع من ذَلِكَ.

وقد نهى معاوية بن الحكم عن تشميت العاطس، وقال له: ( ( إن صلاتنا هذه لايصلح فيها شيء من كلام الآدميين) ) .

وأما السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمخصوص من بين الناس؛ لأن خطابه في الصَّلاة لم يكن مبطلا، كما سبق ذكره.

ومنها:
أن المصلي لايرد على المسلم في صلاته بالإشارة، ولا بعد سلامه.

فإنه ليس في حديث ابن مسعود، أنه رد عليه بالكلية، ولا في حديث جابر، أنه رد عليهِ بعد سلامه، إلا لما سلم عليه حينئذ.

وقد اختلف العلماء في رد المصلي للسلام عليه.

فقالت طائفة: يرد في الصلاة بالإشارة، روي عن ابن عمر.

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.

[و] هو قول مالك والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروي عن ابن عباس، أنه رد على من سلم عليهِ في صلاته، وقبض على يده.

وعن أحمد، أنه يرد بالإشارة في النفل، دون الفرض.

وحكي عنه رواية أخرى: لا يرد في نفل ولا فرض، بإشارة ولا غيرها.

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

وعلى هذا: فالسلام لايجب رده بحال؛ لأنه مكروه، كما سيأتي ذكره، فلا يستحق رداً.

وقال طائفة: يرد إذا سلم من الصلاة، وهو قول عطاء والنخعي والثوري.

قال النخعي: إن كان قريباً يرد، وإن كان قد ذهب فأتبعه السلام.

وقال إسحاق: هو مخير بين أن يفعل به – كما قال النخعي -، وبين أن يرد في الصلاة بالإشارة.

وقال أصحابنا: هو مخير بين الرد بالإشارة في الصلاة، والتأخير حتى يسلم، والأول أفضل.

قالوا: لأن للتأخير آفات، منها: النسيان، ومنها: ذهاب المسلم.

وظاهر هذا: أنه إن أخر الرد حتى سلم، وكان المسلم قد مضى لم يرد عليه.

واستدل من قال: لايرد بإشارة ولا غيرها، لافي الصلاة ولا بعدها، بحديث ابن مسعود؛ فإن ظاهره: أنه لم يرد عليهِ في الصَّلاة، ولا بعدها.

واستدل من قالَ: يؤخر الرد، بما روى عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ السلام بعد السلام.

خرجه أحمد وأبو داود.

وعاصم، هو: ابن أبي النجود، وليسي بذاك الحافظ.

وخرجه أبو يعلى الموصلي، من وجه آخر منقطع.

وخرجه عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) من وجه آخر منقطع – أيضا.

واستدل من قال: يرد في صلاته بالإشارة، بما روى محمد بن الصلت التوزي: ثنا عبد الله بن رجاء، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، قال: لما قدمت من الحبشة، أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي.

خرجه الطبراني وغيره.

وقد أنكر ابن المديني وصله بذكر أبي هريرة، وقال: إنما هو عن ابن سيرين، أن ابن مسعود.

يعني: أنه مرسل.

وكذا رواه وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلم عليه، فأومأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشار برأسه – بنحوه، وقال فيه: فأومأ برأسه، أو قال: فأشار برأسه.

وخرجه أبو داود في ( ( مراسيله) ) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.

وخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين مرسلا – أيضا -، ولكن قال في حديثه: فلم يرد عليه حتى انفتل.
وقال: ( ( إن في الصلاة لشغلاً) ) .

وخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يسير – وفي رواية له: [يصلي] -، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، فقال: ( ( إنك سلمت علي آنفاً، وأنا أصلي) ) ، وهو موجه حينئذ قبل المشرق.

ويحتمل أنه إنما أشار إليه ليكف عن كلامه حينئذ، لم يكن رداً للسلام؛ ولهذا قالَ جابر: فلم يرد علي، وذكر أنه وجد في نفسه ما الله به عليم، ولو علم أنه رد عليهِ بالإشارة لم يجد في نفسه.

وفي رواية للنسائي: سلمت عليه، فأشار بيده، ثم سلمت فأشار بيده، فانصرفت، فناداني: ( ( ياجابر) ) ، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أني سلمت عليك، فلم ترد علي؟ فقالَ: ( ( إني كنت أصلي) ) .

ولو كانت إشارته رداً، لقال: قد رددت عليك.

وفي رواية لمسلم: أرسلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته، فقال لي هكذا –وأنا أسمعه
يقرأ، يومئ برأسه -، فلما فرغ قال: ( ( إنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي) ) .

فهذه الرواية: تدل علي أن إيماءه إليه إنما كان ليكف عن كلامه في تلك الحال.

واستدل من قال: يرد إشارة، بما روى نابل – صاحب العباء -، عن ابن عمر، عن صهيب قال: مررت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد علي إشارة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.

وقال: يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد.

ونابل، قال ابن المديني ويعقوب بن شيبة: هو مديني ليس بالمشهور.

وسئل الدارقطني: أثقة هو؟ فأشار برأسه، أن لا.

وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن صهيب، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – معناه.

وقد قيل: إن زيدا لم يسمعه من ابن عمر، وقد سئل عن ذلك فقال: أما أنا فقد كلمته وكلمني، ولم أقل: سمعته.

وممن قال: لم يسمعه من ابن عمر: ابن المديني ويعقوب بن شيبة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي – نحوه من حديث هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد تكلم فيه ابن المديني ويعقوب بن شيبة؛ لتفرد هشام بن سعد به، وليس بالحافظ جداً.

وروى الليث: حدثني ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا سلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فرد عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إشارة، فلما سلم قال: ( ( قد كنا نرد السلام في الصلاة، فنهينا عن ذلك) ) .

خرجه الجوزجاني والطبراني والبزار في ( ( مسنده) ) .

وعندي؛ أن هذا يعلل برواية ابن عيينة وغيره، عن زيد بن أسلم، عن ابن
عمر، عن صهيب، كما تقدم.

وابن عجلان ليس بذاك الحافظ.

وروى قيس بن سعد، عن عطاء، عن محمد بن علي، عن عمار، أنه سلم على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فرد عليهِ.

خرجه النسائي في ( ( باب: رد السلام بالإشارة) ) .

وخرجه الإمام أحمد، من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن محمد بن علي - هو: ابن الحنفية -، عن عمار – فذكره.

وخرجه البزار في ( ( مسنده) ) ، وعنده: ( ( فرد عليه إشارة) ) .

وحمله ابن عيينة، على أنه رد عليه بالقول قبل تحريم الكلام، وأن رده انتسخ.

ونقل ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، أنه قال: هذا الحديث خطأ.

ورواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، أن عماراً سلم على النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وهذه الرواية مرسلة، وهي أصح.

وكذا رواه عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن محمد بن علي بن حسين – مرسلاً.

قال ابن جريج: ثم لقيت محمد بن علي بن حسين، فحدثني به.

فتبين بهذا: أن محمد بن علي الذي روى هذا الحديث عن عمار هو أبو جعفر الباقر، وليس هو ابن الحنفية، كما ظنه بعضهم.

وقول ابن معين: إنه خطأ، يشير إلى من قال: ( ( عن ابن الحنفية) ) هو خطأ.

وأما رواية أبي الزبير، عن محمد بن علي: ( ( هو: ابن الحنفية) ) ، فهو ظن من بعض الرواة، فلا نحكم به.

وروايات حماد بن سلمة، عن أبي الزبير غير قوية.

ولعل أبا الزبير رواه عن أبي جعفر – أيضا -، أو عن عطاء، عنه ودلسه.

أو لعل حماد بن سلمة أراد حديث أبي الزبير، عن جابر، أنه سلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صلي، فأشار إليه.

ومنها:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه من سلم عليهِ في الصلاة عن السلام عليه.

واستدل بذلك من قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، وهو قول ابن عمر ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم – ومروان بن محمد الدمشقي.

وقالت طائفة: يكره، وهو قول جابر بن عبد الله وعطاء والشعبي، الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم.
واستدلوا بقوله لابن مسعود: ( ( إن في الصلاة شغلا) ) ؛ فإن في ذَلِكَ إشارة إلى كراهة السلام عيله؛ ولأنه ينشغل المصلي، وربما سهى بسببه فبادر الرد عليهِ.

ومن أصحابنا المتأخرين من قالَ: إن كانَ المصلي عالماً، يفهم كيف يرد عليهِ، لم يكره السلام عليهِ، وإلا كره.

فمن قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، فمقتضى قوله: إنه لايستحق
جواباً، ولا يجب الرد عليه.

ومن قال: لايكره، فمنهم من قال: لايستحق جواباً، وإنما يستحب الرد في الحال بالإشارة، وهو قول الشافعية.

وحكى أصحابنا في وجوب الرد روايتين مطلقاً.