فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به

بَابُ
إنَّماَ جُعلَ الإمَامُ ليُوْتَمَّ بِهِ
وصلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه الَّذِي توفى فِيه بالناس وَهُوَ جالس.

وَقَالَ ابن مَسْعُود: إذا رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع، ثُمَّ يتبع الإمام.

وَقَالَ الْحَسَن - فيمن يركع مَعَ الإمام ركعتين ولا يقدر عَلَى السجود -: يسجد للركعة الأخيرة سجدتين، ثُمَّ يقضي الركعة الأولى بسجودها.
وفيمن نسي سجدة حَتَّى قام: يسجد.

المقصود بهذا الباب: أن الإمام يتبع فِي جميع أفعاله، وإن فات من متابعته شيء، فإنه يقضيه المأموم ثُمَّ يتبعه، وإنما يتم هَذَا بأن يصلوا وراءه جلوساً إذا صلى جالساً.

وهذا المعنى هُوَ الَّذِي قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله: ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ) ) ، والبخاري يدعي نسخه، كما ذكره فِي آخر الباب، فعلى قوله يفوت كمال المتابعة والائتمام بِهِ.

وما علقه من صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً فِي مرضه قَدْ خرجه فِي الباب بإسناده.

وأما مَا حكاه عَن ابن مَسْعُود، فمضمونه: أن من رفع رأسه قَبْلَ الإمام فإنه يعود إلى الركوع والسجود الَّذِي رفع مِنْهُ، فيمكث بقدر مَا رفع قبله ليتم متابعته، ويكون ركوعه وسجوده بقدر ركوع الإمام وسجوده.
وهكذا قَالَ عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: إذا رفع أحدكم رأسه من ركعته أو سجدته قَبْلَ الإمام، فليعد حَتَّى يرى قَدْ أدرك مَا فاته.

خرجه حرب الكرماني والإسماعيلي فِي ( ( مسند عُمَر) ) من طريق أَيْنَ إِسْحَاق، عَن يعقوب بْن عَبْد الله بْن الأشج، عَن بسر بْن سَعِيد، عَن الحارث بْن مخلد، عَن أَبِيه مخلد، قَالَ: سَمِعْت عُمَر – فذكره.

وخرجه الحافظ أبو موسى المديني من طريق حماد بْن مسعدة، عَن ابن أَبِي ذئب، عَن يعقوب بْن الأشج، بِهِ، إلا أَنَّهُ رفعه إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ورفعه فِيهِ نكارة.

وقد اعتبر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا القدر من المتابعة للأمام، كما خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قَالَ: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
[الفاتجة: 7] فقولوا: آمين، يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم)
)
.
فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فتلك بتلك، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقالوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، يسمع الله لكم؛ فإن الله تعالى قَالَ عَلَى لسان نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعَ الله لمن حمده، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا؛ فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع) ) ؛ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فتلك بتلك) ) – وذكر بقية الحَدِيْث.

ومعنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فتلك بتلك) ) : أن مَا سبقكم من ركوعه قبلكم وسجوده قبلكم تدركونه بتأخركم بالرفع بعده من الركوع والسجود، فتساوونه فِي قدر ركوعه وسجوده بذلك.

وروى أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم بِهِ إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم بِهِ إذا سجدت تدركوني بِهِ إذا رفعت؛ إني قَدْ بدنت) ) .

وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث ابن مسعدة صاحب الجيوش، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ( ( إني قَدْ بدنت، فمن فاته ركوعي أدركه فِي بطء قيامي) ) .

فلهذا المعنى قَالَ ابن مَسْعُود: فمن رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع ثُمَّ يتبع الإمام.

وفيه معنى آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ إذا فعل ذَلِكَ فَقَدْ تخلص من محذور رفعه قَبْلَ الإمام، وَهُوَ منهي عَنْهُ.

وقد روي مثل قَوْلِ ابن مَسْعُود عَن عُمَر وابنه، وعن كثير من التابعين ومن بعدهم من العلماء، وَهُوَ قَوْلِ الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد.

وأوجب أصحابنا عَلَى السابق أن يرفع ليتبع الإمام، مَا دام الإمام لَمْ يرفع بعد.

فإن رفع الإمام، فقالوا: يسحب لَهُ أن يعوض عَن ذَلِكَ بالتطويل فِي السجدة الثانية، وحملوا عَلِيهِ مَا روي عَن ابن عُمَر، قَالَ: من رفع رأسه فِي السجدة الأولى قَبْلَ الإمام فليطول فِي الثانية.

وعن ابن مَسْعُود، قَالَ: ليصنع فِي الثانية بعد الإمام بقدر مَا كَانَ رفع فِي الأولى.

خرجهما سَعِيد بْن منصور فِي ( ( سننه) ) .

ولم يفرق أكثرهم بَيْن أن يرفع قبله عمداً أو سهواً، وهذا عَلَى أصل الحنفية ظاهر؛ لأنهم يرون أن لا تبطل الصلاة بزيادة ركوع أو سجود عمداً، وأما أصْحَاب الشَّافِعِيّ وأحمد فعندهم تبطل الصلاة بذلك عمداً.

وَقَالَ بعض متأخريهم: إنه إن رفع قَبْلَ الإمام عمداً لَمْ يعد إلى متابعته فيما رفع عَنْهُ من ركوع أو سجود؛ لأنه يكون قَدْ تعمد زيادة ركن عمداً فتبطل صلاته بذلك.

والصحيح: مَا أطلقه الأئمة وأكثر أصحابهم؛ فإن عوده إلى المتابعة قطع لما فعله من القيام والقعود الَّذِي سبق بِهِ الإمام، وعود إلى متابعة الإمام، وليس عوده إتماماً للركوع ولا للسجود الَّذِي سبق بِهِ، بل هُوَ إبطال لَهُ، فلا يصير بذلك متعمداً لزيادة ركن تام.

وبكل حال؛ فإذا تعمد المأموم سبق إمامه ففي بطلان صلاته بذلك وجهان لأصحابنا.

وقيل: إن البطلان ظاهر كلام أحمد، وروي عَن ابن عُمَر، وأكثر العلماء عَلَى أنها لا تبطل، ويعتد لَهُ بِهَا إذا اجتمع مَعَ إمامه فيما بعد.

ولو كَانَ سبق الإمام سهواً حَتَّى أدركه إمامه اعتد لَهُ بذلك عِنْدَ أصحابنا وغيرهم، خلافاً لزفر.

وقد بسطت القول عَلَى ذَلِكَ فِي ( ( كِتَاب القواعد فِي الفقه) ) .
والله أعلم.

وأما مَا حكاه البخاري عَن الْحَسَن، فإنه يتضمن مسألتين:
إحداهما:
إذا صلى مَعَ الإمام ركعتين، وقدر عَلَى الركوع فيهما مَعَهُ دون السجود فإنه عجز عَنْهُ، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد سجد سجدتين، فكملت لَهُ الركعة الثانية، وأعاد الركعة الأولى الَّتِيْ عجز عَن سجدتيها.

وهذا يدل عَلَى أن المأموم إذا تخلف عَن متابعة الإمام فِي سجدتين من ركعة، فَقَدْ فات المأموم تلك الركعة؛ فلهذا لَمْ يعتد بالركعة الأولى، وإنما يعتد بالثانية؛ لأنه قدر عَلَى قضاء السجدتين، وإدراك الإمام قَبْلَ سلامه، فهو كما لَوْ أدركهما مَعَهُ.

وفي هَذَا نظر؛ فإنه كَانَ ينبغي أن يأتي بالسجدتين فِي قيام الإمام إلى الثانية، ثُمَّ يلحقه كما يأتي بهما فِي حال تشهده فِي الثانية، ولا فرق بَيْنَهُمَا.

وقد يحمل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يتمكن من السجدتين إلا فِي التشهد، ولم يتمكن فِي حال قيام الإمام فِي الثانية.

وعن أحمد فيما إذا تخلف عَن الإمام حَتَّى فاته مَعَهُ سجدتان – روايتان:
إحداهما: أَنَّهُ تلغى ركعته، كما قَالَ الْحَسَن، ولكن لا فرق عنده بَيْن الركعة الأولى والثانية.

والرواية الثانية: إن خاف فوات الركعة الثانية بتشاغله بقضاء السجدتين فكذلك، وإن لَمْ يخف قضى السجدتين إذا قام الإمام فِي الثانية ثُمَّ لحقه فيها.

واختلف الأصحاب فِي ذَلِكَ: فمنهم من قَالَ: هاتان الروايتان جاريتان فِي جميع صور التخلف عَن متابعة الإمام بركنين، سواء كَانَ لسهو أو نوم أو زحام.

ومنهم من قَالَ: إنما نَصَّ أحمد فِي الساهي والنائم عَلَى أن ركعته تلغى، ونص فِي المزحوم عَلَى أَنَّهُ يقضي ثُمَّ يلحق الإمام، فيقر النصان عَلَى مَا نَصَّ عَلِيهِ من غير نقل ولا تخريج، ويفرق بَيْن المزحوم وغيره، بأن غير المزحوم مفرط ومقصر فتلغى ركعته، بخلاف المزحوم فإنه معذور فيأتي بما فاته ويلحق إمامه.

وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي فِي رَجُل صلى مَعَ الإمام ركعة، فلما كَانَ فِي الثانية ركع الإمام وسجد سجدتيه، ثُمَّ قام فِي الثالثة والرجل قائم؟ قَالَ: إن أدركه فِي سجدتيه ركع وسجد معهم، وإن كَانَ قَدْ نهض فِي الثالثة اتبعه فيما بقي من صلاته، ثُمَّ يقضي تلك الركعة الَّتِيْ نام عَنْهَا أو غفل.

وعن الزُّهْرِيّ، فِي الرَّجُلُ يصلي مَعَ الإمام، فينام حَتَّى يفرغ الإمام من الركعة والسجدتين؟ قَالَ: يصلي مَا تركه بهد أن يسلم، ويسجد سجدتي السهو.

وبإسناده، عَن هِشَام، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل كَانَ مَعَ القوم، فنام أو سها، فركعوا أو سجدوا؟ قَالَ: يتبعهم بالركوع والسجود، وليس عَلِيهِ غيره.

وهذا يدل عَلَى أن كلام الْحَسَن الَّذِي حكاه البخاري إنما أراد بِهِ أَنَّهُ عجز عَن قضاء السجدتين قَبْلَ تشهد الإمام.
والله أعلم.

ويدل عَلِيهِ - أَيْضاً -: مَا خرجه عَبْد الرزاق فِي ( ( كتابه) ) ، عَن معمر، عَن رَجُل، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل دَخَلَ مَعَ قوم فِي صلاتهم، فنعس حَتَّى ركع الإمام وسجد؟ قَالَ: يتبع الإمام.

وعن ابن جُرَيْج، عَن عَطَاء، قَالَ: قُلتُ لَهُ: لَوْ كبرت مَعَ الإمام لاستفتاح الصلاة، ثُمَّ ركع فسهوت، فَلَمْ أركع حَتَّى رفع؟ قَالَ: قَدْ أدركتها فاعتد بِهَا.

قُلتُ لعطاء: فنعست، فَلَمْ أزل قائماً حَتَّى رفع النَّاس وسجدوا، فجبذني إنسان، فجلست كما أنا؟ قَالَ: فأوف تلك الركعة – يعني: تقضيها.

وَقَالَ عَبْد الرزاق: عَن الثوري، فِي رَجُل كبر مَعَ الإمام فِي أول الصلاة، ثُمَّ نعس حتة صلى الإمام ركعة أو ركعتين؟ قَالَ: إذا استيقظ ركع وسجد مَا سبقه، ثُمَّ يتبع الإمام بما بقي، فهو يركع ويسجد بغير قراءة.

وهذا قَوْلِ غريب.

وقد تقدم عَن الأوزاعي، أَنَّهُ يتبعه، ويأتي بما فاته مَا لَمْ ينهض الإمام إلى الركعة الَّتِيْ بعدها.

وَقَالَ مَالِك: إن أدركهم فِي أول سجودهم سجد معهم واعتد بِهَا، وإن علم أَنَّهُ لا يقدر عَلَى الركوع وأن يدركهم فِي السجود حَتَّى يقوموا فِي الثانية تبعهم فيما بقي، وقضى الركعة بعد السلام، وسجد للسهو.

ومذهب الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يسجد ويتبعه مَا لَمْ يركع الإمام الركعة الثانية؛ فإن ركع لغت ركعته، ثُمَّ قضاها بعد سلام الإمام.

ومذهب الإمام أحمد: إذا فاته مَعَ الإمام أكثر من ركنين لغت ركعته، ويقضيها بعد سلام الإمام كالمسبوق.

وعن الإمام أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ إذا نام حَتَّى فاته ركعتان بطلت صلاته.

وهذا محمول عَلَى أَنَّهُ كَانَ نوماً طويلاً، فانتقضت طهارته، فيعيد الوضوء والصلاة.

وحكي عَنْهُ رِوَايَة أخرى: إذا نام حَتَّى رفع الإمام من الركوع تبطل صلاته.

وهي محمولة – أَيْضاً – عَلَى أَنَّهُ نام مدة قيام الأول وركوعه ورفعه، فهو نوم طويل ناقض للطهارة.
والله أعلم.

المسألة الثانية:
أن من نسي سجدة حَتَّى قام الإمام سجد، ثُمَّ تابعه.

وهذا قَوْلِ جمهور العلماء.

ومن أصحابنا من قَالَ: لا نعلم فِيهِ خلافاً؛ لأنه تخلف يسير لعذر، وتعم بِهِ البلوى كثيراً فِي حق من صلى خلف من لا يطيل المكث فِي ركوعه وسجوده.

وهذا مطرد فِي كل من فاته مَعَ الإمام ركن واحد لعذر من زحام أو نوم أو نسيان.

ولا فرق بَيْن ركن وركن فِي ذَلِكَ عِنْدَ كثير من العلماء من أصحابنا وغيرهم.

ومن أصحابنا من فرق بَيْن الركوع وغيره، فَقَالَ: إن فاته الركوع وحده حَتَّى رفع الإمام فحكمه حكم التخلف عَن الإمام بركنين، كما سبق، فإما أن تفوته الركعة ويقضيها، أو أن يركع ثُمَّ يتابع إمامه، عَلَى مَا سبق.

وحكي رِوَايَة عَن أحمد، أَنَّهُ تبطل صلاته، قَدْ سبق ذكرها وتأويلها.

وفرق هؤلاء بَيْن الركوع وغيره بأن الركوع عماد الركعة، وبه تلحق تفوت بفوته، فألحق بالركنين فِي التخلف بِهِ عَن الإمام، وهذه طريقة ابن أَبِي موسى وغيره.

ومن سوى بَيْن الركوع وغيره فرق بَيْن هَذَا وبين المسبوق، بأن المسبوق قَدْ فاته مَعَ الإمام معظم الركعة، وَهُوَ القيام والقراءة والركوع، وليس هَذَا كذلك.

وقد سبق عَن عَطَاء مَا يدل عَلَى أَنَّهُ يركع بعد إمامه ويعتد لَهُ بتلك الركعة.

والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

خرج البخاري فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
[ قــ :666 ... غــ :687 ]
- حَدَّثَنَا أحمد بْن يونس: ثنا زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن
عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، قَالَ: دخلت عَلَى عَائِشَة، فَقُلْت: ألا تحدثني عَن مرض
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: بلى؛ ثقل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( أصلى النَّاس؟) ) .
فقلنا: لا، يَا رَسُول الله، وهم ينتظرونك، فَقَالَ: ( ( ضعوا لِي ماء فِي المخضب) ) .
قَالَتْ: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عَلِيهِ ثُمَّ أفاق، فَقَالَ: ( ( أصلى النَّاس؟) ) قلنا: لا، وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله عكوف فِي المسجد ينتظرون رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة لعشاء الآخرة، فأرسل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أَبِي بَكْر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فَقَالَ: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرك أن تصلي بالناس فَقَالَ أبو بَكْر – وكان رجلاً رقيقاً – يَا عُمَر، صل بالناس.
فقالَ لهُ عُمَر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بَكْر تلك الأيام، ثُمَّ إن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد من نفسه خفة، فخرج بَيْن رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس فلما رأه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأوما إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن لا يتأخر.
قَالَ: ( ( أجلساني إلى جنبه) ) ، فاجلساه إلى جنب أَبِي بَكْر.
قَالَ: فجعل أبو بَكْر يصلي وَهُوَ يأتم بصلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد.
قَالَ عُبَيْدِ الله: فدخلت عَلَى عَبْد الله بْن عَبَّاس، فَقُلْت: ألا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثَتني عَائِشَة عَن مرض رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هات، فعرضت عَلِيهِ حديثها، فما أنكر مِنْهُ شيئاً، غير أَنَّهُ قَالَ: أسمت لَكَ الرَّجُلُ الآخر الَّذِي كَانَ مَعَ العباس؟ قُلتُ: لا، قَالَ: هُوَ عَلِيّ.

هَذَا السياق من أتم مَا روي عَن عَائِشَة فِي هَذَا الباب، وقد تفرد بِهِ موسى ابن أَبِي عَائِشَة عَن عُبَيْدِ الله، وقد سبق مَا قاله أبو حاتم الرَّازِي فِي حديثه هَذَا، وانه مِمَّا يرتاب بِهِ، ولعل فِيهِ ألفاظاً مدرجة.

والظاهر: أن مَا ذكره فِي آخره: ( ( فجعل أبو بَكْر يصلي) ) مدرج من قَوْلِ بعض الرواة، فلهذا قَالَ فِيهِ:: ( ( قَالَ) ) ، ولم يقل: ( ( قَالَتْ) ) ، فالظاهر أن عَائِشَة لَمْ تقل ذَلِكَ، إنما قاله عُبَيْدِ الله أو غيره كما تقدم ذَلِكَ من قَوْلِ عُرْوَةَ، زاده فِي حديثه عَن عائشة.

وقوله: ( ( ذهب لينوء) ) – أي: ينهض بثقل، من قولهم: نؤت بالحمل أنوء بِهِ إذا نهضت بِهِ.

وفي هَذَا الحَدِيْث من العلم مسائل كثيرة:
مِنْهَا: أن الإمام إذا كَانَ قريباً من المسجد وعرف عذره المانع لَهُ من الخروج إلى الصلاة، فإنه ينتظر خروجه.

ومنها: أن المغمى عَلِيهِ إذا أفاق فإنه يستحب لَهُ أن يغتسل، وقد سبقت المسألة فِي ( ( الطهارة) ) .
ومنها: أن المأمور بالصلاة بالناس لَهُ أن يأذن لغيره فِي الصلاة بهم؛ فإن أبا بَكْر أذن لعمر.

ويؤخذ من هَذَا: أن الوكيل لَهُ أن يوكل فيما وكل فِيهِ من غير إذن لَهُ فِي التوكيل، كما هُوَ أحد قولي العلماء، وإحدى الروايتين عَن أحمد.

ومنها: جواز وقوف المأموم إلى جانب الإمام، وإن كَانَ وراءه صفوف، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ.

ومنها – وَهُوَ مقصود البخاري هاهنا -: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هُوَ الإمام فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر مؤتماً بِهِ، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر إلى جانبه قائماً، والناس وراءه قياماً، ولم يأمره بالجلوس، وهذه الصلاة كَانَتْ فِي آخر حَيَاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل ذَلِكَ عَلَى نسخ أمره بالجلوس وراء الإمام إذا صلى جالساً؛ لأن ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَذَا بغير شك.

وقد ذكره البخاري فِي آخر الباب عَن أَبِي بَكْر الحميدي، والحميدي أخذه عَن الشَّافِعِيّ، وسيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ بعد ذكر باقي أحاديث الباب – إن شاء الله تعالى.

الحَدِيْث الثاني:


[ قــ :667 ... غــ :688 ]
- حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أم المُؤْمِنيِن، أنها قَالَتْ: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بيته وَهُوَ شاك، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن جلسوا، فلما انصرف قَالَ: ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً) ) .
الحَدِيْث الثالث:


[ قــ :668 ... غــ :689 ]
- حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس بْن مَالِك، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب فرساً فصرع عَنْهُ، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وَهُوَ قاعد، فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قَالَ: ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذاي ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمنحمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ) .

قَالَ الحميدي: هَذَا منسوخ، قوله: ( ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً) ) ، هَذَا هُوَ فِي مرضه القديم، ثُمَّ صلى بعد ذَلِكَ جالساً والناس خلفه قياماً.

قَالَ أبو عَبْد الله: ولم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ جالساً والناس خلفه قيام.
وقد خرج البخاري فيما تقدم من حَدِيْث أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا كبر فكبروا) ) – فذكر مثل حَدِيْث أنس إلى قوله: ( ( أجمعون) ) .

وخرجه فيما بعد من حَدِيْث همام بْن منبه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد اختلف العلماء فِي صلاة القادر عَلَى القيام خلف الجالس:
فَقَالَتْ طائفة: لا يجوز ذَلِكَ بالكلية، هَذَا قَوْلِ مُحَمَّد بن الْحَسَن والحسن ابن حي ومالك – فِي ظاهر مذهبه – والثوري – فِي رواية عَنْهُ.

وتعلق بعضهم بحديث مرسل، رواه جابر الجعفي، عَن الشَّعْبِيّ، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( لا يؤمن أحد بعدي جالساً) ) .

وجابر، لا يحتج بما يسنده، فكيف بما يرسله؟! وقد طعن فِي حدثيه هَذَا الشَّافِعِيّ وابن أَبِي شيبة والجوزجاني وابن حبان وغيرهم.

وروى سيف بن عُمَر الضبي: ثنا سَعِيد بن عَبْد الله الجمحي، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن مسَلَمَة، قَالَ: دخلت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شكوى اشتكاه، وحضرت الصلاة، فصلى بنا جالساً ونحن قيام، فلما انصرف قَالَ: ( ( إذا صلى إمامكم جالساً فصلوا جلوساً) ) ، وكنا نفعل ذَلِكَ حَتَّى حج حجته، فنهى فيها أن يؤم أحد قوماً وَهُوَ جالس.

خرجه القاضي مُحَمَّد بن بدر فِي ( ( كِتَاب المناهي) ) .

وَهُوَ حَدِيْث باطل، وسيف هَذَا مشهور بالكذب.

وقالت طائفة: يجوز أن يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس العاجز عَن القيام بكل حال، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وأبي يوسف وزفر وابن المبارك والثوري ومالك
– وفي رِوَايَة عنهما – والأوزاعي والشافعي وغيرهما.

واختلف الرواية عَن الإمام أحمد فِي ذَلِكَ، فالمشهور عَنْهُ: أَنَّهُ لا يجوز أن يأتم القادر عَلَى القيام بالعاجز عَنْهُ، إلا أن يكون العاجز إمام الحي، ويكون جلوسه لمرض يرجى برؤه، ويأتمون بِهِ جلوساً، كما سيأتي – إن شاء الله.

ونقل عَنْهُ الميموني، أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ إلا خلف الإمام الأعظم خاصة، إذا كَانَ مرضه يرجى برؤه.

وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى جواز الائتمام بالجالس مطلقاً، لكن إن كَانَ إمام الحي ورجي زوال علته صلّوا وراءه جلوساً، وإن كَانَ غير ذَلِكَ صلوا وراءه قياماً.

واختلف القائلون بجواز اقتداء القادر عَلَى القيام بالجالس: هَلْ يصلي وراءه جالساً، أو قائماً؟
فَقَالَتْ طائفة: يصلي وراءه قائماً، هَذَا قَوْلِ المغيرة وحماد وأبي حنيفة والثوري وابن المبارك ومالك والشافعي وأبي ثور.

واعتمدوا عَلَى أقيسة أو عمومات، مثل قوله: ( ( صل قائماً، فإن لَمْ تستطع فقاعداً) ) .

وتبعهم عَلَى ذَلِكَ طائفة من المحديثن كالحميدي والبخاري، وادعوا نسخ أحاديث الأمر بالجلوس لصلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرض موته قاعداً والناس خلفه قياماً، ولم يأمرهم بالجلوس كما قرره البخاري، وحكاه عَن الحميدي.

وَقَالَ آخرون: بل يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس جالساً، هَذَا هُوَ المروي عَن الصَّحَابَة، ولا يعرف عنهم اختلاف فِي ذَلِكَ.

وممن روي عَنْهُ ذَلِكَ من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن فهد وجابر بن
عَبْد الله وأبو هُرَيْرَةَ ومحمود بن لبيد.

ولا يعرف عَن صحابي خلاف ذَلِكَ، بل كانوا يفعلون ذَلِكَ فِي مساجدهم ظاهراً، ولم ينكر عليهم عملهم صحابي ولا تابعي.

رَوَى سُلَيْمَان بن بلال، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن بشير بن يسار، أن أسيد ابن الحضير كَانَ يؤم قومه بني عَبْد الأشهل فِي مسجدهم، ثُمَّ اشتكى، فخرج إليهم بعد شكوه، فأمروه أن يتقدم فيصلي بهم، فَقَالَ: إني لا استطيع أن أقوم.
قالوا: لا يصلي لنا أحد غيرك مَا كُنْتُ فينا.
فَقَالَ: إني لا أستطيع أن أصلي قائماً فاقعدوا، فصلى قاعداً وصلوا وراءه قعوداً.

خرجه الأثرم وغيره.

وهذا إسناد صحيح.

وروى هِشَام بن عُرْوَةَ، عَن كثير بن السائب، عَن محمود بن لبيد، قَالَ: كَانَ أسيد بن حضير قَدْ اشتكى عرق النسا، وكان لنا إماماً، فكان يخرج إلينا فيشير إلينا بيده أن اجلسوا، فنجلس فيصلي بنا جالساً ونحن جلوس.

خرجه الدارقطني.
وروى قيس بن أَبِي حَازِم، عَن قيس بن فهد، أن إماماً لهم اشتكى أياماً.

قَالَ: فصلينا بصلاته جلوساً.

خرجه أبو الْقَاسِم البغوي وذكره البخاري فِي ( ( تاريخه) ) .

وروى يَحْيَى بن سَعِيد، عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، أَنَّهُ فعل ذَلِكَ مَعَ أصحابه.

وروى وكيع، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن قيس بن أَبِي حَازِم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: الإمام أمير، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً.

قَالَ الإمام أحمد: فعله أربعة من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن قهد، وجابر، وأبو هُرَيْرَةَ.
قَالَ: ويروى عَن خمسة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً) ) ، ولا أعلم شيئاً يدفعه.

وهذا من علمه وورعه - رضي الله عنه -، فإنه إنما دفع ذَلِكَ بالنسخ وهي دعوى مردودة، كما سيأتي بيانه – إن شاء الله تعالى.

وكان الإمام أحمد يتورع عَن إطلاق النسخ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة بمجرد الاحتمالات مَعَ إمكان الجمع بينها وبين مَا يدعى معرضها غير جائز، وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بِهَا كلها وجب ذَلِكَ، ولم يجز دعوى النسخ مَعَهُ، وهذه قاعدة مطردة.

وهي: أنا إذا وجدنا حديثاً صحيحاً صريحاً فِي حكم من الأحكام، فإنه لا يرد باستنباط من نَصَّ آخر لَمْ يسق لذلك المعنى بالكلية، فلا ترد أحاديث تحريم صيد المدينة بما يستنبط من حَدِيْث النغير، ولا أحاديث توقيت صلاة العصر الصريحة بحديث:
( ( مثلكم فيما خلا قبلكم من الأمم كمثل رَجُل استأجر أجراء) ) – الحَدِيْث، ولا أحاديث: ( ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ) بقوله: ( ( فيما سقت السماء العشر) ) .

وقد ذكر الشَّافِعِيّ أن هَذَا لَمْ يسق لبيان قدر مَا يجب مِنْهُ الزَّكَاةِ، بل لبيان قدر الزَّكَاةِ، وما أشبه هَذَا.

وممن ذهب إلى أن المأموم يصلي جالساً خلف الإمام الجالس بكل حال من العلماء: الأوزاعي وحماد بن زيد وأحمد وأسحاق وأبو خيثمة زهير بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبو بَكْر بن أَبِي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان، ونقله إجماعاً قديماً من السلف، حَتَّى قَالَ فِي ( ( صحيحه) ) : أول من أبطل فِي هذه الأمة صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً: المغيرة بن مقسم، وعنه أخذ أبو حنيفة.

وأما دعوى النسخ فِي هَذَا فَقَدْ بينا أَنَّهُ لا يجوز دعوى بطلان الحكم مَعَ إمكان العمل بِهِ ولو بوجه، وسنبين وجه العمل بِهِ، والجمع بَيْن مَا أدعى عَلِيهِ التعارض – إن شاء الله تعالى.

ويدل عَلَى أن الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد غير منسوخ: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علله بعلل لَمْ تنسخ ولم تبطل منذ شرعت.
ومنها: أَنَّهُ علله بأن الإمام إنما جعل إماماً ليؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ فِي أفعاله،.

     وَقَالَ : ( ( إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ) ,
وما قَبْلَ الصلاة جلوساً لَمْ ينسخ مِنْهُ شيء، فكذلك القعود؛ لأن الجميع مرتب عَلَى أن الإمام يؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ.

وفي ( ( صحيح مُسْلِم) ) عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( إنما الإمام جنة، فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض [قَوْلِ] أهل السماء غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه) ) .

ومعنى كونه جنة: أَنَّهُ يتقى بِهِ ويستتر، ولهذا إذا سلمت سترته لَمْ يضر مَا مر بَيْن يديه، كما سبق تقريره.

ومنها: أَنَّهُ جعل القعود خلفه من طاعة الأمراء، وطاعة الأمراء من طاعة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وطاعته من طاعة الله، ومعلوم: أَنَّهُ لَمْ ينسخ من هذه شيء، بل كلها باقية محكمة إلى يوم القيامة.

فخرج الإمام أحمد وابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) من حَدِيْث ابن عُمَر، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي نفر من أصحابه، فَقَالَ: ( ( ألستم تعلمون أني رَسُول الله إليكم؟) ) .
قالوا: بلى، نشهد أنه رَسُول الله، قَالَ: ( ( ألستم تعلمون أَنَّهُ من أطاعني أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتي؟) ) .
قالوا: بلى، نشهد أَنَّهُ من أطاعك فَقَدْ أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتك، قَالَ: ( ( فإن من طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً) ) .

وفي رِوَايَة لهما – أَيْضاً – ( ( ومن طاعتي أن تطيعوا أئمتكم) ) .

وهذا يصلح أن يكون متمسكاً للأمام أحمد فِي تخصيصه ذَلِكَ بإمام الحي؛ فإن أئمة الحي إنما ينصبهم الأئمة غالباً، وخصة – فِي رِوَايَة عَنْهُ - بالأمام الأعظم الَّذِي تجب طاعته.

ومنها: أَنَّهُ جعل القيام خلف الإمام الجالس من جنس فعل فارس والروم بعظمائها، حيث يقومون وملوكهم جلوس، وشريعتنا جاءت بخلاف ذَلِكَ، كما قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من احب أن يتمثل لَهُ الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ) .

وَقَالَ عُمَر بن عَبْد العزيز للناس: أيها النَّاس، إن تقوموا نقم، وإن تجلسوا نجلس، فإنما يقوم النَّاس لرب العالمين.

وهذا حكم مستقر فِي الشريعة، لَمْ ينسخ ولم يبدل.

وقد دل عَلَى مَا ذكرناه: مَا خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، قَالَ: اشتكى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلينا وراءه وَهُوَ قاعد، وأبو بَكْر يسمع النَّاس تكبيره، فالتفت إلينا، فرآنا قياماً، فأشار إلينا، فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قَالَ: ( ( إن كدتم – آنفاً – تفعلون فعل فارس والروم، يقومون عَلَى ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلوا قياماً فصلوا قياماً، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً) ) .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) من حَدِيْث الأعمش، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن جابر – فِي هذه القصة – أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لهم: ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً، ولا تقوموا وَهُوَ جالس كما يفعل أهل فارس بعظامها) ) .

وأما الكلام عَلَى دعوى النسخ، عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً، فأما عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنه كَانَ إماماً، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتم بِهِ، كما تقدم عَن مَالِك وغيره، فلا دلالة فِي الحَدِيْث حينئذ عَلَى أن الائتمام بالقاعد بالكلية.

وأما من قَالَ: إن الإمام كَانَ هُوَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قاله الشَّافِعِيّ والإمام أحمد والبخاري والأكثرون، فالجمع بَيْن هَذَا الحَدِيْث وبين الأحاديث المتقدمة الَّتِيْ فيها الأمر بالجلوس فِي الصلاة من وجهين:
أحدهما – وَهُوَ الَّذِي ذكره الإمام أحمد -: أن المؤتمين بأبي بَكْر ائتموا بإمام ابتدأ بهم الصلاة وَهُوَ قائم، ثُمَّ لما انتقلت مِنْهُ الإمامة إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتقلوا إلى الائتمام بقاعد، فاتموا خلفه قياماً لابتدائهم الصلاة خلف إمام قائم.

فعلى هَذَا التقرير نقول: إن ابتدأ بهم الإمام الصلاة جالساً صلوا وراءه جلوساً، وإن ابتدأ بهم قائماً ثُمَّ اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً.
هكذا قرره الإمام أحمد وأصحابه.

ومنهم من قَالَ: إنه تصح هنا صلاة المأمومين خلفه قياماً إذا جلس فِي أثناء صلاته لعلة، وسواء كَانَ إمام حي أو لَمْ يكن، بخلاف ابتداء صلاة القائم خلف الجالس، فإنها عِنْدَ الإمام أحمد إلا إذا كَانَ إمام الحي، وجلس لمرض يرجى برؤه خاصة، فإنه يغتفر فِي الاستدامة مَا لا يغتفر فِي الابتداء.

وممن قَالَ ذَلِكَ من أصحابنا: أبو الفتح الحلواني.
أن تحمل أحاديث الأمر بالقعود عَلَى الاستحباب، وحديث صلاته فِي مرضه من غير أمر لهم بالجلوس عَلَى جواز أن يأتموا بالقاعد قياماً، فيكون المأمومون مخيرين بَيْن الأمرين، وإن كَانَ الجلوس أفضل.

وهذا يتخرج عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنهم إذا ائتموا بالجلوس قياماً صحت صلاتهم، وقد اختلف أصحابنا فِي ذَلِكَ عَلَى وجهين.

وظهر لِي وجه ثالث فِي الجمع بَيْن هذه الأحاديث، وَهُوَ متجه عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إماماً لأبي بَكْر، وكان أبو بَكْر إماماً للناس، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

وحينئذ فيقال: لما اجتمع فِي هذه الصلاة إمامان، أحدهما جالس والآخر قائم صلى المأمومون خلفهما قياماً اتباعاً لإمامهم القائم؛ فإن الأصل القيام، وقد اجتمع موجب للقيام عليهم، وموجب للقعود أو مبيح لَهُ، فغلب جانب القيام؛ لأنه الأصل، كما إذا اجتمع فِي حل الصيد أو الأكل مبيح وحاظر، فإنه يغلب الحظر.
وأما أبو بَكْر فإنه إنما صلى قائماً؛ لأنه وإن ائتم بقاعد إلا أَنَّهُ أم قادرين عَلَى القيام، وَهُوَ قادر عَلِيهِ، فاجتمع فِي حقه – أَيْضاً – سببان: موجب للقيام، ومسقط لَهُ، فغلب إيجاب القيام.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.