فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعا

باب
ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعاً
مراده: أن العشاء الآخرة تسمى العشاء، وتسمى العتمة، وأنه يجوز تسميتها بالعتمة من غير كراهة، وإن كان تسميتها بالعشاء أفضل اتباعاً لقول الله عز وجل:
{ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] .

وهذا قول كثير من العلماء، أو اكثرهم، وهو ظاهر كلام أحمد، وقول أكثر أصحابه، وكذا قال الشافعي في ( ( الأم) ) : أحب إلي أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة، وهو قول كثير من أصحابه، أو أكثرهم.

ومنهم من قال: يكره أن تسمى عتمة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.

وقد روي عن طائفة من السلف، منهم: ابن عمر وكان يكرهه كراهة شديدة، ويقول أول من سماها بذلك الشيطان.
وكرهه - أيضا - ابنه سالم وابن سيرين.

وخرج مسلم من حديث عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل) ) .

وفي رواية له - أيضا -: ( ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل) ) .

كذا رواه ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة.

وابن أبي لبيد كان يتهم بالقدر.
وقال العقيلي: كان يخالف في بعض حديثه.

وتابعه عليه ابن أبي ليلى، عن أبي سلمة، وابن أبي ليلى ليس بالحافظ.

ورواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي سلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.

وقيل: عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – مرفوعاً.

خرجه ابن ماجه.
وليس بمحفوظ.

وفيه – أيضا -: عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وفي إسناده جهالة.
وقد حمله بعض أصحابنا على كراهة نفي الكمال دون الكراهة، وحمله بعضهم على كراهة هجران اسم العشاء وغلبة اسم العتمة علها كفعل الإعراب.

وتسميتها في كتاب الله بالعشاء لا يدل على كراهة تسميتها بغيره، كما أن الله تعالى سمى صلاة الصبح صلاة الفجر، ولا يكره تسميتها صلاة الصبح.

خرج البخاري في هذا الباب حديثاً مسنداً، وذكر فيه أحاديث كثيرة تعليقاً، وقد خرج عامتها في مواضع أخر من كتابه، فقال:
وقال أبو هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) .
وقال: ( لو يعلمون ما في العتمة والفجر) )
.

حديث أبي هريرة قد أسنده في ( ( باب: فضل صلاة العشاء في جماعة) ) ، وخرج قبله في ( ( باب: فضل التهجير إلى الظهر) ) من حديث أبي هريرة – مرفوعاً -: ( ( لو يعلمون ما في العتمة والصبح) ) .
وخرجه أيضا – في ( ( باب: الأستهمام على الأذان) ) ثم قال البخاري: فالاختيار أن يقول: العشاء؛ لقول الله: { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] .

قال:
ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند صلاة العشاء، فأعتم بها.

حديث أبي موسى هذا قد خرجه بعد هذا قريباً في ( ( باب: فضل العشاء) ) ، وخرجه في مواضع أخر، وقد علقه هنا بقوله: ( ( ويذكر) ) ، فدل على أن هذه الصيغة عنده لا تقتضي ضعفاً فيما علقه بها، وأنه يعلق بها الصحيح والضعيف، إلا أن أغلب ما يعلق بها ما ليس على شرطه.

ثم قال:
وقال ابن عباس وعائشة: أعتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بالعشاء.

وقال بعضهم: عن عائشة أعتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
بالعتمة.

حديث عائشة خرجه في ( ( باب: فضل العشاء) ) ، ولفظ: ( ( أعتم بالعشاء) ) .

وحديث ابن عباس خرجه في ( ( باب: النوم قبل العشاء) ) ، بلفظ حديث عائشة.

وخرج مسلم حديث عائشة، ولفظه: ( ( أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بصلاة العشاء، وهي التي تدعى العتمة) ) .

وخرج النسائي حديث عائشة وابن عباس، وعنده فيهما: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعتمة.

وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العتمة.

ومن حديث معاذ بن جبل، قال: أبقينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العتمة.

ثم قال البخاري:
وقال جابر: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء.

حديث جابر قد خرجه البخاري في الباب الذي بعد هذا، وقد خرجه فيما مضى – أيضا.

قال:
وقال أبو برزة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر العشاء.

حديث أبي برزة هذا خرجه فيما مضى في ( ( باب: وقت العصر) ) ولفظه: ( ( وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة) ) .

ثم قال:
وقال أنس: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء الآخرة.

حديث أنس هذا خرجه النسائي، وخرجه البخاري في مواضع، ولفظه: ( ( أخر العشاء) ) .

وخرج مسلم من حديث ابن عمر، قال: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة.

ثم قال البخاري:
وقال ابن عمر وأبو أيوب: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب والعشاء.

وحديثهما في جمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وقد خرجه البخاري في ( ( كتاب الحج) ) .
وخرجه مسلم – أيضا.

وأماالحديث الذي أسنده في هذا الباب:
فقال:
[ قــ :549 ... غــ :564 ]
- حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا يونس، عن الزهري: قال سالم: أخبرني عبد الله، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة صلاة العشاء – وهي التي يدعو الناس العتمة -، ثم أنصرف فأقبل علينا، فقال: ( ( أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن راس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) ) .

في هذا الحديث: أن صلاة العشاء يدعوها الناس العتمة، وكذا في حديث عائشة وأبي برزة، وهذا كله على اشتهار اسمها بين الناس بالعتمة، وهو الذي نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ابن عمر وغيره يكرهونه أن يغلب عليها اسم العتمة حتى لا تسمى بالعشاء إلا نادراً.

وأماإذا غلب عليها اسم العشاء، ثم سميت – أحياناً - بالعتمة بحيث لا يزول بذلك غلبة اسم العشاء عليها، فهذا غير منهي عنه، وإن كان تسميتها بالعشاء – كما سماها الله بذلك في كتابه – أفضل.

وأماما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه: ( ( لا يبقى على رأس مائة سنة من تلك الليلة أحد) ) ، فمراده بذلك: انخرام قرنه وموت أهله كلهم الموجودين منهم في تلك الليلة على الأرض، وبذلك فسره أكابر الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عمر وغيرهما.

ومن ظن أنه أراد بذلك قيام الساعة الكبرى فقد وهم، وإنما اراد قيام ساعة الأحياء حينئذ وموتهم كلهم، وهذه الساعة الوسطى، والساعة الصغرى موت كل أنسان في نفسه، فمن مات فقد قامت ساعته الصغرى، كذا قاله المغيرة بن شعبة وغيره.