فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

4 - فصل
خرج البخاري من حديث:
[ قــ :10 ... غــ :10 ]
- الشعبي، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه "
خرجه من رواية شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عن عبد الله.
ثم قال: وقال معاوية: حدثنا داود، عن عامر قال: سمعت عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم وقال عبد الأعلى، عن ( 181 - ب/ف) داود، عن عامر، عن عبد الله .

مقصود البخاري بهذا: أن شعبة روى الحديث معنعنا إسناده كله.
وداود بن أبي هند عن الشعبي واختلف عليه فيه، فقال عبد الأعلى: عن داود كذلك، وقال أبو معاوية: عن داود، عن عامر قال: سمعت عبد الله، فذكر في حديثه تصريح الشعبي بالسماع له من عبد الله بن عمرو.
وإنما احتاج إلى هذا، لأن البخاري لا يرى أن الإسناد يتصل بدون ثبوت لقي الرواة بعضهم لبعض وخصوصا إذا روى بعض أهل بلد عن بعض أهل بلد ناء عنه، فإن أئمة أهل الحديث مازالوا يستدلون على عدم السماع بتباعد الرواة، كما قالوا في رواية سعيد بن المسيب عن أبي الدرداء وما أشبه ذلك .
وهذا الحديث قد رواه الشعبي - وهو من أهل الكوفة -، عن عبد الله بن عمرو - وهو حجازي - نزل مصر ولم يسكن العراق، فاحتاج أن يذكر ما يدل على سماعه منه، وقد كان عبد الله بن عمرو قدم مع معاوية الكوفة عام الجماعة فسمع أهل الكوفة كأبي وائل، وزر بن حبيش، والشعبي.
وإنما خرج مسلم هذا الحديث من رواية المصريين، عن عبد الله بن عمرو: من رواية يزيد بن حبيب، عن أبي الخير سمع عبد الله بن عمرو يقول: أن رجلا سأل النبي صلي الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
وهذا اللفظ يخالف لفظ رواية البخاري.

وأما رواية " المسلم " فيقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة، فإن أذى المسلم حرام باللسان وباليد، فأذى اليد: الفعل، وأذى اللسان القول.

والظاهر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلما قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل، وإنما يجهل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام، فبين له النبي صلي الله عليه وسلم ما جهله.

ويشبه هذا: أن النبي صلي الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع وبين للناس حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وأتبع ذلك بقوله: " سأخبركم من المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ".
خرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث فضالة بن عبيد .

وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيانا يجمع لنم قدم عليه يريد الإسلام بين ذكر حق الله وحق العباد، كما في " مسند الإمام أحمد " عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك " .

وفيه - أيضا -، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسلم فقال له: أسألك بوجه الله بم بعثك الله ربنا إلينا؟ قال: " بالإسلام قال قلت: وما آية الإسلام؟ ( 128 - أ / ف) قال: " أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم محرم "، وذكر الحديث وقال فيه: قلت: يا رسول الله! هذا ديننا؟ قال: " هذا دينكم " .
وخرجه النسائي بمعناه .
وقوله" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".
فأصل الهجرة: هجران الشر ومباعدته لطلب الخير ومحبته والرغبة فيه.

والهجرة عند الإطلاق في كتاب السنة إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام رغبة في تعلم الإسلام والعمل به، وإذا كان كذلك فأصل الهجرة: أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هجران بلد الشرك رغبة في دار الإسلام، وإلا فمجرد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة: هجران ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه.