فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب كيف كان بدء الحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم»

بسم الله الرحمن الرحيم
كِتابِ الحيض
وقول الله عز وجل: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] إلى قولُهُ: { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] .
خرج مسلم في ( ( صحيحه) ) مِن حديث حماد بنِ سلمة: نا ثابت، عَن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لَم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله عز وجل: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] إلى آخر الآية، فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ) - وذكر بقية الحديث.
فقوله عز وجل: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} ، أي: عَن حكمه والمباشرة فيهِ.
و ( ( المحيض) ) ، قيل: إنَّهُ مصدر كالحيض، وقيل: بل هوَ اسم للحيض، فيكون اسم مصدر.
وقوله تعالى: { قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] ، فسر الأذى بالدم النجس وبما فيهِ مِن القذر والنتن وخروجه مِن مخرج البول، وكل ذَلِكَ يؤذي.
قالَ الخطابي: الأذى هوَ المكروه الذِي ليسَ بشديد جداً؛ كقوله: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذى} [آل عمران:111] ، وقوله: { إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] ، قالَ: والمراد: أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا يتعدى ذَلِكَ إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن ولا يخرجن مِن البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكِتابِ، فالمراد: أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذِي يجاوزونه إليه، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن.
وقوله تعالى: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222] ، قَد فسره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باعتزال النكاح، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ذكر ما يحرم مِن مباشرة الحائض وما يحل منهُ في الباب الذِي يختص المباشرة مِن الكِتابِ.
وقد قيل: بأن المراد بالمحيض هاهنا: مكان الحيض، وهو الفرج، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد، وحكاه الماوردي عَن أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمهور المفسرين، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في أول الآية: الدم.
وقد خالف في ذَلِكَ ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ( ( شرح الخرقي) ) ، فزعم أن مذهب أحمد أنَّهُ الفرج - أيضاً -، وفيه بعد.
وجمهور أصحاب الشَافِعي على أن المراد بالمحيض في الآية الدم، في الموضعين.
وقوله: { وَلا تَقْرَبُوهُنّ} [البقرة: 222] ، نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عَن قربانهن فيهِ، والمراد بهِ: الجماع - أيضاً -، وفيه تأكيد لتحريم الوطء في الحيض.
وقوله: { حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فيهِ قراءتان { يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] - بسكون الطاء وضم الهاء -، و { يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بفتح الطاء وتشديد الهاء.
وقد قيل: إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم، والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء.
وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وابن جرير وغيره: يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذَلِكَ.
ومنع غيره الإجماع، وقال: كل مِن القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه.
وفي ذَلِكَ نظر، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل التطهير إليها، فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع لها فيهِ.
وقوله: { حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] غاية النهي عَن قربانهن، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي.
فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي بالتطهر بالماء، وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي بمجرد انقطاع الدم.
واستدل بذلك فرقة قليلة على إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم، وَهوَ قول أبي حنيفة، وأصحابه، إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، أو لدونه، ومضى عليها وقت صلاة، أو كانت غير ومخاطبة بالصلاة كالذمية.
وحكي عَن طائفة إطلاق الإباحة، مِنهُم: ابن كثير وابن عبد الحكم، وفي نقله عنهما نظر.
والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية، وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان مشروط لَهُ شرط آخر وَهوَ التطهر، والمراد بهِ: التطهر بالماء؛ بقولِهِ: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ} [البقرة:222] ، فدل على أنَّهُ لا يكفي مجرد التطهر، وأن الإتيان متوقف على التطهر، أو على الطهر والتطهر بعده، وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال، كَما في قولُهُ: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] .
وحكي عَن طائفة مِن السلف: أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم، منهُم: مجاهد، وعكرمة، وطاوس، على اختلاف عَنهُم في ذَلِكَ.
قالَ ابن المنذر: روينا بإسناد فيهِ مقال عن عطاء وطاوس ومجاهد، أنهم قالوا: إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ، ثُمَّ أصاب منها إن شاء.
وأصح مِن ذَلِكَ عَن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول - يعني: المنع منهُ وكراهته بدون الغسل -، قالَ: ولا يثبت عَن طاوس خلاف ذَلِكَ.
قالَ: وإذا بطل أن يثبت عَن هؤلاء قول ثان كانَ القول الأول كالإجماع.
انتهى.
ولذلك ضعف القاضي إسماعيل المالكي الرواية بذلك عَن طاوس وعطاء؛ لأنها مِن رواية ليث بن أبي سليم عنهما، وَهوَ ضعيف.
وحكي عَن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة، رواه ابن جريج وليث عَن عطاء، ورواه معمر عَن قتادة، وحكاه بعض أصحابنا عَن الأوزاعي، ولا أظنه يصح عَنهُ، وقاله قوم مِن أهل الظاهر.
والصحيح الذِي عليهِ جمهور العلماء: أن تطهر الحائض كتطهر الجنب، وَهوَ الاغتسال.
ولو عدمت الماء، فهل يباح وطؤها بالتيمم؟ فيهِ قولان: أحدهما: يباح بالتيمم، وَهوَ مذهبنا، ومذهب الشَافِعي وإسحاق والجمهور، وقول يحيى بن بكير مِن المالكية، والقاضي إسماعيل مِنهُم - أيضاً.
وقال مكحول ومالك: لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء.
وقوله: { فَأْتُوهُنّ} [البقرة:222] إباحة، وقوله: { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه} [البقرة: 222] أي: باعتزالهن، وَهوَ الفرج، أو ما بين السرة والركبة، على ما فيهِ مِن الاختلاف كَما سيأتي، روي هَذا عَن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة.
وقيل: المراد: مِن الفرج دونَ الدبر، رواه علي بنِ أبي طلحة عَن ابن عباس.
وروى أبان بنِ صالح، عن مجاهد، عنة ابن عباس، قالَ: { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] أن تعتزلوهن.
ورواه عكرمة، عَن ابن عباس - أيضاً.
وقيل: المراد مِن قبل التطهر لا مِن قبل الحيض، وروي عَن ابن عباس - أيضاً -، وغيره.
و ( ( التوابون) ) : الرجاعون إلى طاعة الله مِن مخالفته.
و ( ( المتطهرون) ) : فسره عطاء وغيره: بالتطهر بالماء، ومجاهد وغيره: بالتطهر مِن الذنوب.
وعن مجاهد، أنَّهُ فسره: بالتطهر مِن أدبار النساء.
ويشهد لَهُ قول قوم لوط: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] .


باب
كيف كانَ بدء الحيض؟
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم) ) .

وقال بعضهم: كانَ أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل.

قالَ أبو عبد الله: وحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر.

أما مِن قالَ: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل: فَقد روي ذَلِكَ عَن حماد بنِ سلمة، عَن هشام بنِ عروة، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء بنت أبي بكر، قالت: إنما سلطت الحيضة على نساء بني إسرائيل؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً مِن خشب يتطاولن بها في المساجد.

وأما ما رجحه البخاري مِن أن الحيض لَم يزل في النساء منذ خلقهن الله، فَهوَ المروي عَن جمهور السلف:
قالَ عمرو بنِ محمد العنقزي: نا عباد بنِ العوام، عَن سفيان بنِ حسين، عَن يعلى بنِ مسلم، عَن سعيد بنِ جبير، عَن ابن عباس، قالَ: لما أكل آدم مِن الشجرة التي نهي عنها، قالَ الله لَهُ: ( ( ما حملك على أن عصيتني؟) ) قالَ: ربِّ، زينته لي حواء، قالَ: ( ( فإني أعقبها أن لا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرهاً، ودميتها في الشهر مرتين) ) ، فلما سمعت حواء ذَلِكَ رنت، فقالَ لها: عليك الرنة وعلى بناتك.

وروى ابن جرير في ( ( تفسيره) ) : نا يونس: نا ابن وهب، عَن عبد الرحمن بن زيد بنِ أسلم، في قولُهُ: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] ، قالَ: المطهرة: التي لا تحيض، قالَ: وكذلك خلقت حواء عليها السلام حتى عصت، فلما عصت قالَ الله تعالى: ( ( إني خلقتك مطهرة، وسأدميك كَما أدميت هَذهِ الشجرة) ) .

وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إن هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم) ) ، وَهوَ استلال ظاهر حسن، ونظيره: استدلال الحسن على إبطال قول مِن قالَ: أول مِن رأى الشيب إبراهيم - عليه السلام -، بعموم قول الله عز وجل: { اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .

[ قــ :290 ... غــ :294 ]
- حدثنا علي بنِ عبد الله المديني: نا سفيان، قالَ: سمعت عبد الرحمن بنِ القاسم، قالَ: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنت بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقالَ: ( ( مالك! أنفست؟) ) قلت: نعم.
قالَ: ( ( إن هَذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت) ) .
قالت: وضحى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن نسائه بالبقر.
هَذا إسناد شريف جداً؛ لجلالة رواته، وتصريحهم كلهم بسماع بعضهم مِن بعض، فلهذا صدر بهِ البخاري ( ( كِتابِ: الحيض) ) .

وفيه اللفظة التي استدل بها البخاري على أن الحيض لازم للنساء منذ خلقهن الله، وأنه لَم يحدث في بني إسرائيل، كَما تقدم.

وقد رويت هَذهِ اللفظة - أيضاً - عَن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ ذَلِكَ لعائشة في الحج - بمعنى حديث عائشة.

خرجه مسلم في ( ( صحيحه) ) .

ورويت - أيضاً - عَن أم سلمة، مِن رواية محمد بنِ عمرو: نا أبو سلمة، عَن أم سلمة، قالت: كنت معَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحافه، فوجدت ما تجد النساء مِن الحيضة، فانسللت مِن اللحاف، فقالَ: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أنفست؟) ) قلت: وجدت ما تجد النساء مِن الحيضة، قالَ: ( ( ذاك ما كتب الله على بنات آدم) ) .
قالت: فانسللت فأصلحت مِن شأني، ثُمَّ رجعت، فقالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( تعالي فادخلي معي في اللحاف) ) .
قالت: فدخلت معه.

خرجه ابن ماجه.

ومعنى: ( ( كتب الله على بنات آدم) ) : أنَّهُ قضى بهِ عليهن وألزمهن إياه، فهن متعبدات بالصبر عليهِ.
وجاء في رواية للإمام أحمد مِن رواية الأوزاعي، عَن أبي عبيد، عَن عائشة، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هَذا الحديث: أن عائشة قالت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحسب النساء خلقن إلا للشر، قالَ: ( ( لا، ولكنه شيء ابتلي بهِ نساء بني آدم) ) .

ولفظ: ( ( الكتابة) ) يدل على اللزوم والثبوت، إمَّا شرعاً كقوله تعالى:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، أو قدراً كقوله: { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] .

وهذا الحديث مِن هَذا القبيل.