فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من لم يتشهد في سجدتي السهو

باب
من لم يتشهد في سجدتي السهو وسلم
أنس بن مالك، والحسن، ولم يتشهدا.

وقال قتادة: لا يتشهد؟
أما المروي عن أنس [...........................................
]
.

وأما المروي عن الحسن، فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن رجل، عن
الحسن، قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم.

وأما قتادة، قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم.

وعن عبد الله بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه وهم في صلاته، فسلم، فسجد سجدتي السهو، ثم سلم مرة أخرى.

قال شعبة: فسألت الحكم وحماداً، فقالا: يتشهد في سجدتي السهو.

وعن ابن جريج، عن عطاء، قال: ليس في سجدتي السهو تشهد.

قلت: أجعل نهضتي قيامي؟ قالَ: بل اجلس، فهوَ أحب إلي، وأوفى لها.

وهذا يدل على أن مراده: السجود بعد السلام، أنه لا يتشهد لهُ، ولا يسلم
منه.

وروى عبد الرزاق بإسناده، عن النخعي، أنه كان يتشهد ويسلم.

وعن الثوري، عن خصيف، عن [أبي] عبيدة، عن عبد الله، أنه تشهد في سجدتي السهو.

وحاصل الأمر: أنه قد اختلف في التشهد، وفي التسليم في سجود السهو:
فأما التشهد: فروي ثبوته عن ابن مسعود والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وقتادة - وفي رواية - والحكم وحماد ويزيد بن قسيط والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة.

وروي عن ابن سيرين، قال: أحب إلي أن يتشهد.
وروي [....
]
عن أنس والحسن وعطاء وابن سيرين.

وحكاه البخاري عن قتادة.

وهذا كله في السجود بعد السلام.

وأما السجود قبله، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء، إلا رواية عن مالك، رواها عنه ابن وهب.

وروي عن ابن مسعود من وجه فيه انقطاع، ومختلف في لفظه، وفي رفعه
ووقفه.

وحديث ابن بحينة يدل على أنه تشهد بعده؛ لأنه قالَ: ((سجد قبل السلام)) ، ولم يتشهد بعده، وإن سجد بعد السلام تشهد بعده، ثُمَّ سلم.

وحكي للشافعي قول آخر: أنه لايتشهد.

وحكي قول ثالث: أنه يتشهد ثم يسجد، ثم يسلم.

واختار الجوزجاني: أنه لا يتشهد في الموضعين، لا قبل السلام، ولا بعده.

وقد روي عن عمر بن الخطاب وعطاء: أن من نسي التشهد الأول يسجد بعد صلاته [و] تشهد تشهدين، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وأما التسليم، فروي فعله عن ابن مسعود وعمران بن حصين، وعلقمة والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والقاسم وسالم وقتادة والحكم وحماد.

وهو قول الثوري وأبي حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.

ثم قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق: يسلم تسليمتين.

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.

وقال النخعي: يسلم تسليم الجنازة.

يعني: واحدة.

وقاله بعض الحنفية – أيضا.

وقد حكى البخاري، عن أنس والحسن، أنهما سلما.

وحكى غيره، عنهما، أنهما لم يسلما.

وقد تقدم عن الحسن، أنه قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم -، وعن عطاء.
وروى الربيع بن صبيح، عن عطاء، قال: فيها تشهد وتسليم.

وروي عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل.

وهذا كله في السجود بعد السلام، وأما السجود قبل السلام فإنه يعقبه السلام من ... الصلاة، فلا يحتاج إلى تسليم آخر.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :1184 ... غــ :1228 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يارسول الله؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أصدق ذو اليدين؟)) ، فقال الناس: نعم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى اثنتين أخرتين، ثم [سلم، ثم] كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع.
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن سلمة بن علقمة: قلت لمحمد: في سجدتي السهو تشهد؟ قالَ: ليس في حديث أبي هريرة.

رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، إنما فيها ذكر السجدتين، كل سجدة ورفع منها
بتكبير.

وقد خرجه البخاري كذلك بتمامه في الباب الآتي، من حديث يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن سيرين.

وكذلك خرجه مسلم، من حديث ابن عيينة وحماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.

وكذلك هو في ((الموطأ)) عن أيوب بتمامه.

وكذلك خرجه الترمذي من طريق مالك.

وفي رواية مسلم، قال –يعني: ابن سيرين -: واخبرت عن عمران بن حصين، أنه قالَ: ((ثم سلم)) .

وهكذا خرجه البخاري في ((باب: تشبيك الأصابع [في] المسجد)) من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، بسياق تام، وفي آخره: ((فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت عن عمران بن حصين، قالَ: ((ثُمَّ سلم)) .

وهذا يدل على أن ذكر السلام ليس - أيضا – في حديث أبي هريرة، إنما هو في حديث عمران بن حصين.

وإنما رواه ابن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران -: قاله الإمام أحمد.

ورواه كذلك عن يحيى القطان، عن أشعث، عن ابن سيرين.

وخرج الطبراني، من رواية معاوية بن عبد الكريم الضال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة حديث السهو بطوله، وفيه: فقام فصلى الركعتين، ثم سجد سجدتين، وهو جالس، ثم سلم.

هذه الزيادة غير محفوظة في حديث أبي هريرة، إنما ذكرها ابن سيرين بعد حديث أبي هريرة بلاغاً عن عمران بن حصين.

وخرجه مسلم من طريق الثقفي وابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم.

خرجه أبو داود والترمذي.

وقال: حديث حسن غريب.

وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.

وقال: صحيح على شرطهما.

وضعفه آخرون، وقالوا: ذكر التشهد فيه غير محفوظ، منهم: محمد بن يحيى الذهلي والبيهقي، ونسبا الوهم إلى أشعث.

وأشعث، هو: ابن عبد الملك الحمراني، ثقة.

وعندى؛ أن نسبة الوهم إلى الأنصاري فيهِ أقرب، وليس هوَ بذاك المتقن جداً في حفظه، وقد غمزه ابن معين وغيره.

ويدل على: أن يحيى القطان رواه عن أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران في السلام خاصة، كما رواه عنه الإمام أحمد -: ذكره ابنه عبد الله، عنه في ((مسائله)) .

فهذه رواية يحيى القطان – مع جلالته وحفظه واتقانه -، عن أشعث، إنما فيها ذكر السلام فقط.

وخرجه النسائي، عن محمد بن يحيى بن عبد الله، عن الأنصاري، عن اشعث، ولم يذكر التشهد.

فإما أن يكون الأنصاري اختلف عليه في ذكره، وهو دليل على أنه لم يضبطه، وإما أن يكون النسائي ترك ذكر التشهد من عمد؛ لأنه استنكره.

وقد روى معتمر بن سليمان، وهشيم، عن خالد الحذاء حديث عمران ابن حصين، وذكرا فيهِ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعة، ثُمَّ تشهد وسلم، ثُمَّ سجد سجدتي السهو، ثُمَّ سلم.

فهذا هو الصحيح في حديث عمران، ذكر التشهد في الركعة المقضية، لا في سجدتي السهو.

وأشار إلى ذلك البيهقي.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في سجود السهو، من حديث ابن مسعود، وله طرق:
أجودها: رواية خصيف عن أبي عبيدة، عنه، مع الاختلاف في رفع الحديث، ووقفه أشبه، أو مع الاختلاف في ذكر السجود فبل السلام وبعده.

وروي من وجوه أخر، لا يثبت منها شيء.

وروي –أيضاً - من حديث عائشة – مرفوعاً.

خرجه الطبراني.

وإسناده ساقط.

وقال الجوزجاني: لانعلم في شيء من فعل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدتي السهو قبل السلام وبعده، أنه يتشهد بعدهما.

وقال – أيضا -: ليس في التشهد في سجود السهو سنة قائمة تتبع.

وقال ابن المنذر: السلام في سجود السهو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجه، وثبت عنه أنه كبر فيهما أربع تكبيرات.

وفي ثبوت التشهد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهما نظر.

وخرج أبو داود في ((سننه)) من حديث سلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث السهو، وفي آخره: قلت لمحمد: يعني التشهد؟ قالَ: لم أسمع في التشهد، وأحب إلي أن يتشهد.

وهذه الرواية: تدل على أن رواية اشعث عنه في التشهد لا اصل لها؛ لأن ابن سيرين أنكر أن يكون سمع في التشهد شيئاً.

والرواية التي ساقها البخاري من رواية سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، إنما فيها أنه قال: ((ليس في حديث أبي هريرة)) –يعني: التشهد.

وقد بقي من فوائد حديث أبي هريرة أحكام، لم يتقدم ذكرها:
فمنها: أن الإمام إذا سها، ولم يتيقن سهوه، فذكره المامومون، فإن ذكر سهوه عمل بذكره، بغير خلاف بين العلماء.

وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) .

وأما إن لم يذكر سهوه حين ذكروه، فظاهر حديث أبي هريرة يدل على أنه يرجع إلى قول المأمومين، إذا لم يتيقن أنه على [الصواب] يقينا، وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج.

وقد بوب البخاري على ذلك في ابواب الإمامة: ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .

وخرج فيهِ حديث أبي هريرة، من طريق ابن سيرين، ومن طريق أبي سلمة.

وبهذا قال جمهور اهل العلم، وهو قول عطاء وأبي حنيفة والثوري ومالك – في رواية – وأحمد وغيرهم.

واختلفوا: هل يجب الرجوع إلى قولهم، أم يستحب؟
فقالَ أبو حنيفة: يجب.

وهو ظاهر أحمد.
وروي عنه، أنه يستحب الرجوع إليهم، وله أن يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، كما لو كان منفردا.

وقال ابن عقيل من أصحابنا: إنما يرجع إلى قول المأمومين، إذا قلنا: إن الإمام يتحرى، ولا يعمل بيقين نفسه؛ فإن أكثر ما يفيد قولهم غلبة الظن، فيكون الرجوع إليهم من باب التحرى، فأما إذا قلنا: يعمل باليقين، لم يلتفت إليهم.

وجمهور أصحابنا على خلاف هذا، وأنه يرجع اليهم على كلا القولين؛ فإن قول اثنين فصاعدا من المأمومين حجة شرعية، فيجب العمل بها، وإن لم يوجب العلم، كسائر الحجج الشرعية التي يجب العمل بها من البيات وغيرها، وإنما محل الخلاف في التحري بالأمارات المجردة عن حجة شرعية.

وقال الشافعية ومالك – في رواية أخرى -: لا يرجع الإمام إلى قول المأمومين، إذا لم يذكر ما ذكروه به، بل يبني على يقين نفسه.

ولأصحابهما قول آخر: إنه يرجع إليهم، إذا كثروا؛ لبعد اتفاقهم على الخطإ، فأما الواحد والاثنان، فلا.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب الرجوع إلى قول واحد من المأمومين؛ لأنه خبر ديني، فهوَ كالإخبار بالقبلة ونحوها.

وكذا قال إسحاق: يرجع إلى قول واحد.
ومذهب مالك وأحمد: لا يرجع إلى قول واحد من المامومين، بل إلى ما زاد على الواحد؛ لحديث أبي هريرة؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتف بقول ذي اليدين حتى سال غيره، فلما اخبروه عمل بقولهم، ولأن انفراد الواحد من بين المامومين بالتنبيه على السهو، مع اشتراكهم جميعا في الصلاة يوجب ريبة، فلذلك احتاج إلى قول آخر يعضده.

وقد تقدم القول في هذا بابسط من هذا الكلام في ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .

ومنها: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قد وقع منه في هذه الصَّلاة سلام من نقص وقيام ومشي وكلام، وكل واحد من هذه سبب يقتضي السجود بانفراده، ولم يسجد إلا سجدتين.

وكذلك حديث ابن بحينة، فإن فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك التشهد الأول والجلوس له، ويقتضي ذلك ترك التكبيرة للقيام منه، وقد سجد سجدتين.

فدل على أن السهو إذا تعدد، لم يوجب أكثر من سجدتين.

وهذا قول جمهور العلماء، إذا كان من جنس واحد، وإنما خالف فيه الأوزاعي.
ويدل على الاكتفاء بسجود واحد، وإن تعدد السهو: أنه شرع تأخر السجود إلى آخر الصلاة، فدل على أنه يكتفى به لجميع ما يتجدد في الصلاة من السهو، إذ لو كان لكل سهو سجود، لشرع السجود عقب كل سهو عنده.

ومنها: أنه سجد للسهو بعد السلام، وسنذكره هذه المسألة مستوفاة فيما بعد – أن شاء الله تعالى.