فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق «

باب
قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق
وليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا) ) .

مقصوده بهذا الباب: أن أهل المدينة ومن كان قريبا من مسامتهم كأهل الشام والعراق، فإن قبلتهم ما بين المشرق والمغرب من جهة الكعبة، وأن المشرق والمغرب ليس قبلة لهم، وما بينهما فهو لهم قبلة، بدليل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاهم عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمرهم أن يشرقوا أو يغربوا، فدل على أن الشرق والغرب ليس لهم قبلة، وما بينهما فهو لهم قبلة.
وقد روى عن ابن عمر وسعيد بن جبير، أنهما قالا: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق.

وكذا قال الإمام أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة لنا نحن أهل المشرق، ليس هي لأهل الشام ولا أهل اليمن.

ومراده بعض أطراف الشام.

وهذا هو مراد عمر بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة.

وقد روي مرفوعا، إلا أنه ليس على شرط البخاري.

وقد قال أحمد: ليس له إسناد.

يعني أن في أسانيده ضعفا.

وقال مرة: ليس بالقوي.
قال: وهو عن عمر صحيح.

وأقوى ما ورد فيه مسندا: حديث عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان ابن محمد الأخنسي، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة) ) .

خرجه الترمذي.

وقال حديث حسن صحيح.

والأخنسي، وثقه ابن معين وغيره.
والمخرمي، خرج له مسلم، وقال ابن المديني: روى مناكير.

وخرجه ابن ماجه والترمذي - أيضا - من طريق أبي معشر نجيح السندي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وأبو معشر، ضعيف الحديث.

وتابعه عليه: علي بن ظبيان، فرواه عن محمد بن عمرو، كما رواه.

خرجه ابن عدي.

وعلي بن ظبيان، ضعيف - أيضا.

وفيه حديث مرسل:
رواه الإمام أحمد - في رواية ابنه صالح -، عن أبي سعيد مولى بني هاشم: حدثني سليمان بن بلال، قال: قال عمرو بن أبي عمرو: عن المطلب بن حنطب، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة، إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام) ) .

وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة.

وهذا هو الذي قال فيه أحمد: أنه صحيح عن عمر.

وقد رواه يحيى القطان وغير واحد، عن عبيد الله.

ورواه حماد بن مسعدة، عن عبيد الله، وزاد فيه: ( ( إلا عند البيت) ) .

وروي عن ابن نمير وحماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ورفعه غير صحيح عند الدارقطني وغيره من الحفاظ.

وأما الحاكم فصححه، وقال: على شرطهما وليس كما قال.

وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمان بن مجبر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.

وابن المجبر، مختلف في أمره.

وقال أبو زرعة: هو وهم، والحديث حديث ابن عمر موقوف.

وروي هذا المعنى - أيضا - عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك.

وكذلك قال إبراهيم وسعيد بن جبير: ما بين المشرق والمغرب قبلة، زاد سعيد بن جبير: لأهل المشرق.

وقال مجاهد فيمن مال عن القبلة: لا يضره؛ ما بين المشرق والمغرب قبلة.

وقال الحسن فيمن التفت في صلاته: أن استدبر القبلة بطلت صلاته، وأن التفت عن يمينه أو شماله مضت صلاته.

وروي عن حميد بن عبد الرحمان، أنه أعاد صلاة صلاها في مسجد قيل له: إن في قبلته تياسرا.

ومذهب مالك: أنه أن علم في الصلاة أنه استدبر القبلة أو شرق أو غرب قطع وأبتدأ الصلاة، وأن علم بذلك بعد الصلاة أعاد في الوقت، وأن علم أنه انحرف يسيرا فلينحرف ال القبلة ويبني -: ذكره في ( ( تهذيب المدونة) ) .

ومذهب أحمد: أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، لم تختلف نصوصه في ذلك، ولم يذكر المتقدمون من أصحابه فيه خلافا، وإنما ذكره القاضي أبو يعلى ومن بعده وأخذوه من لفظ له محتمل ليس بنص ولا ظاهر، والمحتمل يعرض على كلامه الصريح، ويحمل عليه، ولا يعد مخالفا له بمجرد احتمال بعيد، ولكن الشافعي له قولان في المسألة، وأما أحمد فلم يختلف قوله في ذلك، وقد صرح بمخالفة الشافعي فيه.

قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: بين المشرق والمغرب قبلة، ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء، إذا صلى بينهما فصلاته صحيحة جائزة، إلا أنا نستحب أن يتوسط القبلة، ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، يكون وسطا بين ذلك، وأن هو صلى فيما بينهما، وكان إلى أحد الشقين أميل فصلاته تامة، إذا كان بين المشرق والمغرب، ولم يخرج بينهما.

ونقل عنه جماعة كثيرون هذا المعنى.

وروي عنه أنه سئل عن قوله: مابين المشرق والمغرب قبلة، فأقام وجهه نحو القبلة، ونحا بيده اليمنى إلى الشفق، واليسرى إلى الفجر، وقال: القبلة ما بين هذين.

وقال في رواية الأثرم: إذا طلعت الشمس من المشرق فقد ثبت أنه مشرق، وإذا غربت فقد ثبت أنه مغرب، فما بين ذلك لأهل المشرق، إذا كان متوجها إلى الكعبة.

وقد أنكر أن يكون المراد مشرق الشتاء خاصة، وقال: لا يبالي مغرب الشتاء ولا مغرب الصيف، إذا صلى بينهما فصلاته جائزة.
ومراده: أن ما بين أقصى المشارق إلى أقصى المغارب في الشتاء والصيف فهو
قبلة، والمستحب أن يصلي وسطا من ذلك.

ولم يرد أحمد أنه في كل فصل من فصول العام يصلي وسطا بين مشرق الشمس ومغربها فيه حينئذ؛ لأنه يلزم من ذَلكَ الانحراف إلى المشرق أو المغرب في بعض
الأزمان.

وإنما قَالَ أحمد هذا لأن الناس من فشر ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة) ) بمشرق الشتاء ومغربه خاصة، منهم: أبو خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي؛ فإن الشتاء لهُ مشرق ومغرب، والصيف كذلك، ولهذا ثناهما الله تعالى في قوله: { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] ، وجمعهما في قوله: { بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40] باعتبار مشارق الشتاء والصيف والخريف والربيع؛ فإن لكل يوم من السنة مطلعا مشرقا خاصا ومغربا خاصا، وأفردهما في قوله { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28] باعتبار الجنس.

ونقل الأثرم، عن أحمد، أنه قيل له: قبلة أهل بغداد على الجدي؟ فجعل ينكر أمر الجدي، فقال: أيش الجدي؟ ولكن على حديث عمر: ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة) ) .
ومراده: أن الاستدلال بالجدي وغيره من النجوم، كالقطب ونحوه لم ينقل عن السلف، وأنه لا يجب الاستدلال بذلك ولا مراعاته، وإنما المنقول عنهم الاستدلال بالمشرق والمغرب.

ولم يرد أن الجدي لا دلالة له على القبلة؛ فإنه قال في رواية أخرى عنه: الجدي يكون على قفاه - يعني: للمصلي -، وكلامه يدل على أن الاستدلال على العين بما يستدل به من يستدل على العين غير مستحب.

وقد تقدم نصه على أن من مال في صلاته إلى أحد الشقين، ولم يخرج عما بين المشرق والمغرب فصلاته تامة، وأن كان الأفضل أن يتوخى الوسط بينهما.

ويدل على ذلك: أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما فتحوا الأمصار وضعوا قبل كثير منها على الجهة، بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب، وصلوا إليها، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامة العين ليس هو الأفضل، فضلا عن أن يكون واجبا.

ولهذا؛ لما خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها رأوا أن كثيرا من قبل البلدان منحرفة عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم.

وقد أوجب بعضهم مراعاة ذلك وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه، كما ذكره حرب الكرماني، وهذا يفضي إلى تضليل سلف الأمة، والطعن في صلاتهم.

واستحب بعضهم الاستدلال بعروض البلدان وأطوالها ومراعاة ذلك في
الاستقبال، وأن لم يوجبوه كما قاله يحيى بن آدم وغيره.

والصحيح: ما قاله الإمام أحمد: أن ذلك كله غير مستحب مراعاته.

وبذلك يعلم أن من أوجب تعلم هذه الأدلة، وقال: أنه فرض عين أو كفاية - ممن ينتسب إلى الإمام أحمد - فلا أصل لقوله، وإنما تلقاه من قواعد قوم آخرين تقليدا
لهم.

ويدل على ذلك من الأدلة الشرعية: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) ) ، وخنس إبهامه في الثالثة، ثم قال: ( ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) ) .

فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب.

وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر - أيضا -، فأوله طلوع الفجر الثاني، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه الأرض، وآخره غروب الشمس.

كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر، وآخره طلوع الشمس، وأول وقت الظهر زوال الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها، وهو أول وقت المغرب، وآخره غروب الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره نصف الليل أو ثلثه، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب.

وكذلك القبلة، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، وإنما تعرف في المدينة وما سامتها من الشام والعراق وخراسان بما بين المشرق والمغرب.

ولهذا روي عن عثمان بن عفان، أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة - وما بين المشرق والمغرب قبلة - ما لم يتحيز المشرق عمدا.

وقد اجتمعت الأمة على صحة الصف المستطيل مع البعد عن الكعبة، مع العلم بأنه لا يمكن أن يكون كل واحد منهم مستقبلا لعينها بحيث أنه لو خرج من وسط وجهه خط مستقيم لوصل إلى الكعبة على الاستقامة، فإن هذا لا يمكن إلا مع التقوس ولو شيئا يسيرا، وكلما كثر البعد قل هذا التقوس لكن لابد منه.

ومن حكى عن الإمام أحمد رواية بوجوب التقوس لطرفي الصف الطويل فقد أخطأ، وقال عليه ما لم يقله، بل لو سمعه لبادر إلى إنكاره والتبري من قائله، وهو خلاف عمل المسلمين في جميع الأمصار والأعصار.
وأما قول الله - عز وجل -: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] .

وقول عمر: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق.

وروي عنه، أنه قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم، ثم أمسكوا.

فمراده - والله أعلم -: أنه يتعلم من النجوم الشرقية والغربية والمتوسطة ما يهتدى به إلى جهة القبلة بعد غروب الشمس، وفي حالة غيبوبة القمر، فيستدل بذلك على الشرق والغرب، كما يستدل بالشمس والقمر عليهما، ولم يرد - والله أعلم - تعلم ما زاد على ذلك، ولهذا أمر بالإمساك؛ لما يؤدي إلى التوغل في ذلك إلى ما وقع فيه المتأخرون من إساءة الظن بالسلف الصالح.

وقد اختلف في تعلم منازل القمر وأسماء النجوم المهتدى بها، فرخص فيه النخعي ومجاهد وأحمد، وكره قتادة وابن عيينة تعلم منازل القمر.

وقال طاوس: رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق.

وروي ذلك عنه، عن ابن عباس.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :389 ... غــ :394 ]
- حدثنا علي بن عبد الله، قال: ثنا سفيان: ثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرقوا أو غربوا) ) .

قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف، ونستغفر الله - عز وجل -.

وعن الزهري، عن عطاء: سمعت أبا أيوب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.

قد تقدم هذا الحديث في ( ( كتاب: الوضوء) ) من وجه آخر عن الزهري، ولم يذكر فيه قول أبي أيوب، والرواية التي ذكرها آخرا مصرحة بسماع عطاء بن يزيد له من أبي أيوب.
وقد سبق الكلام على الاختلاف في إسناده في ( ( أبواب: الوضوء) ) .

وإنما ذكر هاهنا قول أبو أيوب ليدل على أن أبا أيوب - روي الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد فهم مما رواه أن القبلة المنهي عن استقبالها هي جهة ما بين المشرق والمغرب، وأن الانحراف لا يخرج به عن استقبالها المنهي عنه، فلذلك احتاج مع ذلك إلى
الاستغفار.

وإذا ثبت أن القبلة المنهي عن استقبالها واستدبارها عند التخلي هي مابين المشرق والمغرب، فهي القبلة المأمور بأستقبالها في الصلاة - أيضاً.

و ( ( المراحيض) ) ، قال الخطابي: هو جمع: مرحاض، وهو المغتسل، مأخوذ من رحضت الشيء إذا غسلته.

قلت: لما كانت بيوت التخلي بالشام يستعمل فيها الماء عادةً سميت: مغتسلاً، ولم يكن ذلك معتاداً في الحجاز، فإنهم كانوا يستنجون بالأحجار، فكانت المواضيع المعدة للتخلي بين البيوت تسمى عندهم: كنفاً.

والكنيف: السترة، وكل ما يستر فهو كنيف، ويسمى الترس كنيفاً لستره.