فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟

باب
قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟
[ قــ :483 ... غــ :496 ]
- حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: كان بين مصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممر مشاة.



[ قــ :484 ... غــ :497 ]
- حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان جدار المسجد عند المنبر، ما كادت الشاة تجوزها.

هذا الحديث الثاني أحد ثلاثيات البخاري، وهي الأحاديث التي بينه وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها ثلاثة رجال.

وحديث سهل يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قريبا من الجدار بحيث لا يكون بين موقفه وبين الجدار غير قدر ما تمر فيه الشاة.

وأما حديث سلمة بن الأكوع، فتخريج البخاري له في هذا الباب يدل على أنه فهم منه أن المنبر كان بإزاء موقف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته أو متقدما عليه، متنحيا عن جدار قبلة المسجد، وبينهما خلل لا تجوز منه الشاة.

وقد قيل: أنه يحتمل أن المراد به: أنه كان بين المنبر وبين جدار المسجد الغربي خلل يسير، لا تكاد الشاة تجوز منه، وانه ليس المراد به جدار القبلة.

لكن قد خرج البخاري هذا الحديث في كتاب ( ( الاعتصام) ) بلفظ صريح في المعنى الذي فهمه منه هاهنا، عن ابن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل، أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة.

وخرج الإمام أحمد، عن حماد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة.

وفي القرب من السترة أحاديث أخر:
فمنها: ما خرجه البخاري في باب مفرد بعد هذا من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى به، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه.

ومنها: ما ورد في الأمر بالدنو من السترة من غير تقدير بشيء:
فروى نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته) ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه) ) .

وذكر أبو داود في إسناده اختلافا، وكذلك ذكره البخاري في ( ( تاريخه) ) .

وقد روى - أيضا - عن نافع بن جبير - مرسلا، وفيه: ( ( فإن الشيطان يمر بينه وبينها) ) .

وقال العقيلي: حديث سهل هذا ثابت.

وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: كيف إسناد حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا صلى أحدكم فليدن من سترته) ) ؟ قال: صالح، ليس بإسناده بأس.

وروى ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها) ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وروي هذا المتن من وجوه أخر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وروى إسحاق بن سويد، عن عمر، أنه رأى، رجلا يصلي متباعدا عن
القبلة، فقال: تقدم، لا يفسد الشيطان عليك صلاتك، أما إني لم أقل إلا ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه الإسماعيلي وغيره.

وهو منقطع؛ فإن إسحاق لم يسمع من عمر.

وقد روي عنه مرسلا.

وروي عنه، عمن حدثه، عن عمر.

وروى مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أرهقوا القبلة) ) .

خرجه البزار والأثرم.

وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني -: لم يروه إلا مصعب بن ثابت، وليس بالقوي.

ومعنى إرهاق القبلة مضايقتها ومزاحمتها والدنو منها -: فسره ابن قتيبة وغيره، وتوقف أحمد في تفسيره.

وخرجه الجوزجاني، ولفظه: ( ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليقرب منها) ) .

وفي الباب أحاديث أخر مسندة ومرسلة:
وروى وكيع بإسناده عن ابن مسعود، قال: يصلي وبينه وبين القبلة مقدار ممر رجل.

وعنه: قال: لا يصلين أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة.

وسئل الحسن: هل كانوا يرقبون في البعد شيئا؟ قال: لا أعلمه.

وقال ابن المنذر: كان عبد الله بن معقل يجعل بينه وبين سترته ستة أذرع.

وقال عطاء: أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي.

وقال مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يصلي، كم يكون بينه وبين القبلة؟ قال: يدنو من القبلة ما استطاع، ثم قال: إن ابن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.

وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن مقدار ما بين المصلي وبين السارية؟ فذكر حديث ابن عمر هذا.
قيل له: يكون بينه وبين الجدار إذا سجد شبر؟ قال: لا أدري ما شبر.

قال الأثرم: ورأيته يتطوع وبينه وبين القبلة كثير، أذرع ثلاثة أو أكثر.

قال ابن عبد البر: ولم يحد مالك في ذلك حدا.

ثم أشار ابن عبد البر إلى أن الآخذين بحديث سهل بن سعد الذي خرجه البخاري في قدر ممر الشاة أولى.

وقال في موضع آخر: حديث ابن عمر أصح إسنادا من حديث سهل، وكلاهما حسن.

قلت: ولو جمع بين حديث سهل وابن عمر فأخذ بحديث ابن عمر في النافلة وحديث سهل في الفريضة لكان له وجه؛ فإن صلاة النبي في الكعبة كانت تطوعا، وسهل إنما أخبر عن مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده الذي كان يصلي فيه بالناس الفرائض.
وقال القرطبي: قدره بعض الناس بقدر شبر.

قلت: هذا فيما يفصل عن محل سجوده، لا عن محل قيامه، كما سئل عنه الإمام أحمد فيما سبق.

قال: ولم أحد في ذلك حدا، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع من يمر بين يديه.

قال: وقد حمل بعض شيوخنا حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائما، وحديث ثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد.

كذا وجدته، وينبغي أن يكون بالعكس؛ فإن الراكع والساجد يدنوان من السترة أكثر من القائم كما لا يخفى.

وذكر صاحب ( ( المهذب) ) من الشافعية: أن ممر العنز قدر ثلاثة أذرع، فعلى قوله يتحد معنى حديث سهل وحديث ابن عمر، وهو بعيد جدا.

ومتى صلى إلى سترة وتباعد عنها، فقال أصحاب الشافعي: هو كما لو صلى إلى غير سترة، في المرور بين يديه ودفعه للمار، على ما سبق حكاية مذهبهم.