فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل السجود

باب
فضل السجود
[ قــ :785 ... غــ :806 ]
- حدثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما، أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ( ( هل تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟) ) قالوا: لا يا رسول الله.
قال: ( ( هل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟) ) قالوا: لا، قال: ( ( فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فياتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فاذا جاء ربنا عرفناه، فياتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم، ويضرب الصراط بين ظهرأني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بامته، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رايتم شوك السعدان؟) ) قالوا، نعم.
قالَ: ( ( فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثُمَّ ينجو، حتَّى إذا أراد الله رحمة من اراد من أهل النار، أمر الله عز وجل الملائكة أن يخرجوا من النار من كانَ يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله عز وجل على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا اثر السجود، فيخرجون من النار قد امنحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل
السيل)
)
.

وذكر بقية الحديث في آخر من يدخل الجنة، وقد خرَّجه بتمامه – أيضاً - في
( ( كتاب التوحيد) ) ، ويأتي في موضعه - أن شاء الله سبحانه وتعالى -، فإن هذا القدر من الحديث فيه ها هنا كفاية.

فأما ما يتعلق برؤية الله عز وجل يوم القيامة من اول الحديث، فقد سبق الكلام على ألفاظه ومعانيه في ( ( مواقيت الصلاة) ) في ( ( باب: فضل صلاة العصر) ) ، وفي
( ( باب: فضل صلاة الفجر) ) ، فلا حاجة إلى أعادتها هاهنا.

وفي الحديث: دليل على أن المشركين الذين كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله ألهة يتبعون ألهتهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار، كما قال تعإلى في حق فرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ?} [هود:98] .

ويبقى من كان يعبد الله وحده ظاهراً، مؤمناً كان أو منافقاً، فهؤلاء ينظرون من كانوا يعبدونه في الدنيا، وهو الله وحده لا شريك له.

ففي هذا الحديث: أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه.

وفي الحديث السابق اختصار، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه.

وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع، كقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ?} [البقرة:210] .
وقال: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:
158]
، وقال: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] .

ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم؛ يدل على تقريره والإيمان به وامراره كما جاء.
؟ وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال في مجيئه: هو مجيء أمره.

وهذا مما تفرد به حنبل عنه.

فمن أصحابنا من قال: وهم حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه.

وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل، عن أحمد رواية.

ومن متأخريهم من قال: هو رواية عنه، بتأويل كل ما كان من جنس المجيء والإتيان ونحوهما.

ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزاماً لمن ناظره في القرآن، فأنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله: { وجاء ربك} ، أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره.

وهذا أصح المسالك في هذا المروي.

وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق:
فمنهم من يثبت المجيء والإتيان، ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات، وربما ذكروه عن أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه.

ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.
ومنهم من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هومجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه.

وهذا هو الصحيح عن أحمد، ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة.

وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية؛ لأن جهماً وأصحابه أول من أشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم، وردوا مادلت على نفيه بزعمهم، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.

وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله اسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي افتراء على الله، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله.

وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك – مع كثرته وأنتشاره – من باب التوسع والتجوز، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنةوالنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الامروالنهي على مثل ذلك، وهذا كله مروق عن دين الإسلام.

ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام كالشافعي وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه، إلا خوفاً من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كان ينصحون الأمة فيما يتعلق بالاحكام العملية ويدعون نصيحتمهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات، هذا من أبطل الباطل.

قال أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن جابر السلمي يقول: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى المزني يسأله عن شيء من الكلام، فقال: أني أكره هذا، بل أنهي عنه، كما نهى عنه الشافعي؛ فإني سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقالَ مالك: محال أن يظن بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه علم أمته الإستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد ما قاله النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم) ) ، فما عصم الدم والمال فهو حقيقة التوحيد.
أنتهى.

وقد استوفينا الكلام على ذلك في أوائل ( ( كتاب العلم) ) في الكلام على أول الواجبات.

وقد صح عن ابن عباس أنه أنكر على من أستنكر شيئاً من هذه النصوص، وزعم أن الله منزه عما تدل عليه:
فروى عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة: ( ( تحاجت الجنة والنار) ) ، وفيه:
( ( فلا تمتلي حتى يضع رجله) ) –أو قال: ( ( قدمه – فيها) ) .

قال: فقام رجل فانتفض، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء، يجدون رقة عند محكمة، ويهلكون عند متشابهه.

وخَّرجه إسحاق بن راهويه في ( ( مسنده) ) عن عبد الرزاق.

ولو كان لذلك عنده تأويل لذكره للناس ولم يسعه كتمانه.

وقد قابل هؤلاء المتكلمين طوائف آخرون، فتكلموا في تقرير هذه النصوص بأدلة عقلية، وردوا على النفاة، ووسعوا القول في ذلك، وبينوا أن لازم النفي التعطيل
المحض.

وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الامة: فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل.

وقد قال الخطابي في ( ( الأعلام) ) : مذهب السلف في أحاديث الصفات:
الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.

ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران: ظاهر يليق ببالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل.

ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية، الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات.

وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول.

وأما أهل العلم والايمأن، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مماجاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدقٍ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته.

وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا?} [آل عمران:7] .

وما أمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل.

وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.

قال أبو هلال: سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل، فقال: أمروها بلا مثال.

وقال وكيع: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً.

وقال الأوزاعي: سُئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت.

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن، فقالوا: أمروها بلا كيف.

وقال ابن عيينة: ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل.

وكلام السلف في مثل هذا كثير جداً.

وقال أشهب: سمعت مالكاً يقول: إياكم وأهل البدع، فقيل: يا أبا عبد الله: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.

خرّجه أبو عبد الرحمن السُلمي الصوفي في كتاب ( ( ذم الكلام) ) .

وروى – أيضاً - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وابن مهدي، وأبي عبيد، والشافعي، والمزني، وابن خزيمة.

وذكر ابن خزيمة النهي عنه عن مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي.

وروى –أيضاً – السلمي النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص.

فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، وأنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين.
ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم: قوله تعالى:
{ وَجَاءَ رَبُّكَ?والْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة.

وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما.

وعندهما: أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره.

وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة.

وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، سمى منهم: أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور.

وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى بـ – الإبانة -، وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم.

وقد شرحه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني.

وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين.

وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن أبي حنيفة.

وقال ابن سريج: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: الشهادتان، وتوحيد أهل الباطن من المسلمين: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإنكار ذلك.

خرّجه أبو عبد الرحمن السلمي.

وكذلك ذكره الخطابي في رسالته في - الغنية عن الكلام وأهله -.

وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة.

قال الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع: إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتوا النبوات، فقد أغناهم الله عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.

ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك: الاستدلال بالصنعة على صانعها، كما تضمنه القرآن، وندب إلى الاستدلال به في مواضع، وبه تشهد الفطر السليمة
المستقيمة.
ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف.

ثم قال: فلا تشغل –رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم؛ فأنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل.

قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [ ... ] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [ ... ] وه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يقوم به حق [ ... ] به حجة.

وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبة غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسداً به قول خصمه؛ لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيهِ، كقول الشاعر:
حجج تهافتت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكلٌ واهن مكسور ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحد من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هو أوضاع وأراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم
الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل.

وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها –بزعمهم –نصوص الكتاب والسنة، وتصرف عن مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه.

وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات، والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشبهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابهة إلى المحكم، ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم ريع يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون
المحكم، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب.

فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك من علامات الأيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنىً يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.

هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.

وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الأيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق.

وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( فأكون أول من يجوز بأمته) ) حتى يقطع الجسر بأمته، وروي: ( ( يجيز) ) ، وهما لغتان، يقال: جزت الوادي وأجزته، وهما بمعنى.

وعن الأصمعي، قال: أجزته: قطعته، وجزته: مشيت عليه.

وقوله: ( ( منهم الموبق بعمله) ) –أي: الهالك.

وقوله: ( ( ومنهم المخردل) ) ، هو بالدال المهملة والمعجمة -: لغتان مشهورتان، والمعنى: المقطع، والمراد –والله أعلم -: أن منهم من يهلك فيقع في النار، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم، ثم لا ينجو ولا يقع في النار.

وقيل: معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين.

والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب: أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته، حيث حرّم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد.

واستدل بذلك بعض من يقول: إن تارك الصلاة كافر؛ فإنه تأكله النار كله، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين.
وهذا فيمن لم يصلِ لله صلاة قط ظاهر.

وقوله: ( ( امتحشوا) ) أي: احترقوا، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء.
وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء.

و ( ( الحبة) ) –بكسر الحاء – قال الأصمعي: كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب: الحبة.

وقال الفراء: الحبة: بذور البقل.

وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار.

وقال الكسائي: الحبة بذر الرياحين، وأحدها حبة، وأما الحنطة فهو الحب لا غير –يعني: بالفتح.

و ( ( الحميل) ) : ما حمله السيل من كل شيء، فهو حميل بمعنى محمول، كقتيل بمعنى مقتول.

ويأتي الكلام على باقي الحديث في موضع آخر – أن شاء الله تعالى.

***