فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب إقبال المحيض وإدباره
باب
إقبال المحيض وإدباره
وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.
وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن إلى الطهر، فقالت: ما كان النساء يصنعن هذا، وعابت عليهن.
هذان الأثران، خرجهما مالك في ( ( المؤطا) ) ، فروى عن علقمة بن أبي
علقمة، عن أمه مولاة عائشة، أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، يسألنها عن الصَّلاة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.
وروى - أيضاً - عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت، أنه بلغها أن نساءكن يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن إلى الطهر، فكانت تعيب ذَلكَ عليهن، وتقول: ما كان النساء يصنعن هذا.
وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن بالصلاة، وأمور الدين - رضي الله عنهن -.
قَالَ ابن عبد البر: إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصَّلاة وما قاربها؛ لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل، لما عليهن من الصَّلاة.
انتهى.
وفيما قاله نظر، فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء، فإذا طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب – أيضاً – عند كثير من العلماء.
وإنما أنكرت بنت زيد – والله أعلم – النظر في لون الدم، وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض؛ وإن اختلفت ألوانه.
وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب، وإلى إدخال مالك له في ( ( الموطإ) ) في ( ( باب: طهر الحيض) ) ؛ وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب.
و ( ( الدرجة) ) : قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء، فتكون تأنيث
( ( درج) ) ، ورويت بكسر الدال وفتح الراء، فتكون جمع ( ( درج) ) كما تجمع
( ( خرج وترس) ) على ( ( خرجة وترسة) ) .
( ( الدرج) ) : المراد به هنا: خرق تلف وفيها قطن، وهو الكرسف، فتدخله المرأة الحائض في فرجها؛ لتنظر ما يخرج على القطن، فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم حيضها باق، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة – رضى الله عنها – بأنه حيض – أيضاً -، وأن الحائض لا ينقطع حيضها حتّى ترى القصة البيضاء.
و ( ( القصة) ) – بفتح القاف -: أصلها القطعة من الجص الأبيض، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء، ليس فيها شيء من الصفرة، ولا الكدرة، فيكون ذَلكَ علامة نقائها وطهرها.
وقالت طائفة: بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض، فلا تطهرن بدونه.
وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض، وهذا قول مالك وغيره.
وروى الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن
ذؤيب، عن عائشة، قالت: الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء أبيض قطعا.
خرجه حرب الكرماني.
وحكى الخطابي، عن ابن وهب، أنه قَالَ في تفسير القصة البيضاء: رأيت القطن الأبيض، كأنه هو.
وعن ابن أبي سلمة، قَالَ: إذا كان ذَلكَ نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللون، فتطهر بذلك، فيما بلغنا.
وعن مالك، قَالَ: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء، يرينه عند الطهر.
وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه، وأن القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض 0 وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر، ففي ( ( المدونة) ) : قَالَ مالك: إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتّى تراها، وإن كانت ممن لاتراها فطهرها الجفوف، وذلك أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة، وبه قَالَ عيسى بن دينار، قَالَ: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف.
وفي ( ( المجموعة) ) : قَالَ مالك: إذا رأت الجفوف وهي ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتّى تراها، إلا أن يطول ذَلكَ بها.
وقال ابن حبيب: تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء.
قَالَ ابن حبيب: والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء.
قَالَ: فمن كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت.
قَالَ: ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتّى ترى الجفوف.
قَالَ: وذلك أن أول الحيض دم، ثُمَّ صفرة، ثُمَّ ترية، ثُمَّ كدرة، ثُمَّ يكون ريقاً كالفضة، ثُمَّ ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض.
قَالَ: والجفوف أبرأ وأوعب، وليس بعد الجفوف انتظار.
انتهى ما ذكره ابن عبد البر –
رحمه الله.
وفي ( ( تهذيب المدونة) ) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء، فإن كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف.
قَالَ ابن القاسم: والجفوف أن تدخل الخرقة، فتخرجها جافة 0 قَالَ أبو عبيد: الترية: الشيء الخفي اليسير، وهو أقل من الصفرة والكدرة، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال، فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيض وليس بترية.
انتهى.
واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء:
فنقل الأكثرون عنه: أنه شيء أبيض يتبع الحيضة، ليس بصفرة ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي.
ونقل حنبل، عن أحمد: أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض.
وأرسلت امرأة إلي عمرة بنت عبد الرحمن بدرجٍ فيهِ كرسفة قطن، فيها كالصفرة، تسألها: هل ترى إذا لَم تر المرأة مِن الحيضة إلا هَذا أن قَد طهرت؟ فقالت: لا، حتى ترى البياض خالصاً.
وروى الأثرم بإسناده، عَن ابن الزبير، أنَّهُ قالَ على المنبر: يا معشر النساء، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء فَهوَ الطهر.
وقال مكحول: لا تغتسل المرأة مِن الحيض إذا طهرت حتى ترى طهراً أبيض.
وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء.
ودل قول عائشة - رضي الله عنها - هَذا على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وأن مِن لها أيام معتادة تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً معتبراً.
وهذا قول جمهور العلماء، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً، مِنهُم: عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه، ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة.
ولكن ذهب طائفة قليلة، مِنهُم: الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم.
واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض.
وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليسَ حيضاً، إلا أن يتقدمها دم.
وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال.
فأما ما زاد على أيام العادة، واتصل بها، وكان صفرة أو كدرة، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنَّهُ حيض، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك، والمشهور عَن الشَافِعي
- أيضاً -، وعليه أكثر أصحابه، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق.
والثاني: أنه ليسَ بحيض، وَهوَ رواية عَن مالك، وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية.
وأما الإمام أحمد، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ عَنهُ روايتان.
وقد روي عَن عائشة، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة مِن الصفرة والكدرة.
خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى، عَن عطاء، عَن عائشة، قالت: إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل؛ فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل، فإذا رأت دماً أحمر فلتغتسل ولتصل.
وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ، فروى البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء، قالت: كنا في حجرها معَ بنات أخيها، فكانت إحدانا تطهر، ثُمَّ تصلي، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة، فنسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ، حتى ترين البياض خالصاً.
وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت بعد الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً ولو تكررت، على الصحيح عندهم، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ متصلاً بالدم وتكرر.
فهذا كله في حق المعتادة.
فأما المبتدأة، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة، فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه، وأكثر أصحاب الشَافِعي: إنه يكون حيضاً؛ لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة.
وقالت طائفة مِن أصحابنا: لا يكون حيضاً، وقالوا: إنه ظاهر كلام أحمد، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً -، وحكاه الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر
الفقهاء؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد، فقويت جهة فساده، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ ثلاثاً أن يكون حيضاً، إن قلنا: إن المتكرر بعد العادة حيض، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم بخلاف هَذا.
وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا، مِنهُم: ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً -؛ للحديث المروي عَن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهُ قالَ - في دم الحيض -: ( ( إنه أسود
يعرف) ) .
وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف.
ثُمَّ خرج البخاري في هَذا الباب:
[ قــ :316 ... غــ :320 ]
- مِن حديث: سفيان - هوَ: ابن عيينة -، عَن هشام، عَن أبيه، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ:
( ( ذَلِكَ عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) ) .
وقد سبق هَذا الحديث، وذكرنا اختلاف العلماء في معناه، وأنه هل المراد بإقبال الحيضة وإدبارها: إقبال الدم الأسود وإدباره، أم المراد: إقبال وقت عادتها وإدبارها؟ وأن أكثر الأئمة حملوا الحديث على الأول، وَهوَ اعتبار التمييز في الدم.
والمميزة ترجع إلى ما تراه مِن أغلظ الدماء وأفحشها لوناً، فتجلس مدة الدم الأسود دونَ الأحمر، والأحمر دونَ الأصفر.
ولا يعتبر للتمييز تكرر على أصح الوجهين لأصحابنا، لكن يشترط عندهم أن لا ينقص عَن أقل الحيض ولا يتجاوز أكثره، وأن يكون بين الدمين أقل مدة الطهر، وَهوَ قول الشافعية - أيضاً.
وحكي عَن أحمد رواية أخرى: أنه لا يعتبر أن لا يجاوز أكثر الحيض، فعلى هَذهِ الرواية تجلس منهُ قدر الأكثر خاصةً.
وأما على تفسير إقبال الحيضة وإدبارها بإقبال العادة وإدبارها، فتجلس ما تراه مِن الدم في أيام عادتها خاصة، على أي صفة كانَ، ولا تزيد على ذَلِكَ، فإذا انقضت مدة عادتها فهي طاهر، تغتسل وتصلي.
إقبال المحيض وإدباره
وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.
وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن إلى الطهر، فقالت: ما كان النساء يصنعن هذا، وعابت عليهن.
هذان الأثران، خرجهما مالك في ( ( المؤطا) ) ، فروى عن علقمة بن أبي
علقمة، عن أمه مولاة عائشة، أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، يسألنها عن الصَّلاة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.
وروى - أيضاً - عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت، أنه بلغها أن نساءكن يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن إلى الطهر، فكانت تعيب ذَلكَ عليهن، وتقول: ما كان النساء يصنعن هذا.
وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن بالصلاة، وأمور الدين - رضي الله عنهن -.
قَالَ ابن عبد البر: إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصَّلاة وما قاربها؛ لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل، لما عليهن من الصَّلاة.
انتهى.
وفيما قاله نظر، فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء، فإذا طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب – أيضاً – عند كثير من العلماء.
وإنما أنكرت بنت زيد – والله أعلم – النظر في لون الدم، وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض؛ وإن اختلفت ألوانه.
وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب، وإلى إدخال مالك له في ( ( الموطإ) ) في ( ( باب: طهر الحيض) ) ؛ وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب.
و ( ( الدرجة) ) : قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء، فتكون تأنيث
( ( درج) ) ، ورويت بكسر الدال وفتح الراء، فتكون جمع ( ( درج) ) كما تجمع
( ( خرج وترس) ) على ( ( خرجة وترسة) ) .
( ( الدرج) ) : المراد به هنا: خرق تلف وفيها قطن، وهو الكرسف، فتدخله المرأة الحائض في فرجها؛ لتنظر ما يخرج على القطن، فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم حيضها باق، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة – رضى الله عنها – بأنه حيض – أيضاً -، وأن الحائض لا ينقطع حيضها حتّى ترى القصة البيضاء.
و ( ( القصة) ) – بفتح القاف -: أصلها القطعة من الجص الأبيض، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء، ليس فيها شيء من الصفرة، ولا الكدرة، فيكون ذَلكَ علامة نقائها وطهرها.
وقالت طائفة: بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض، فلا تطهرن بدونه.
وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض، وهذا قول مالك وغيره.
وروى الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن
ذؤيب، عن عائشة، قالت: الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء أبيض قطعا.
خرجه حرب الكرماني.
وحكى الخطابي، عن ابن وهب، أنه قَالَ في تفسير القصة البيضاء: رأيت القطن الأبيض، كأنه هو.
وعن ابن أبي سلمة، قَالَ: إذا كان ذَلكَ نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللون، فتطهر بذلك، فيما بلغنا.
وعن مالك، قَالَ: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء، يرينه عند الطهر.
وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه، وأن القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض 0 وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر، ففي ( ( المدونة) ) : قَالَ مالك: إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتّى تراها، وإن كانت ممن لاتراها فطهرها الجفوف، وذلك أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة، وبه قَالَ عيسى بن دينار، قَالَ: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف.
وفي ( ( المجموعة) ) : قَالَ مالك: إذا رأت الجفوف وهي ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتّى تراها، إلا أن يطول ذَلكَ بها.
وقال ابن حبيب: تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء.
قَالَ ابن حبيب: والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء.
قَالَ: فمن كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت.
قَالَ: ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتّى ترى الجفوف.
قَالَ: وذلك أن أول الحيض دم، ثُمَّ صفرة، ثُمَّ ترية، ثُمَّ كدرة، ثُمَّ يكون ريقاً كالفضة، ثُمَّ ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض.
قَالَ: والجفوف أبرأ وأوعب، وليس بعد الجفوف انتظار.
انتهى ما ذكره ابن عبد البر –
رحمه الله.
وفي ( ( تهذيب المدونة) ) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء، فإن كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف.
قَالَ ابن القاسم: والجفوف أن تدخل الخرقة، فتخرجها جافة 0 قَالَ أبو عبيد: الترية: الشيء الخفي اليسير، وهو أقل من الصفرة والكدرة، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال، فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيض وليس بترية.
انتهى.
واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء:
فنقل الأكثرون عنه: أنه شيء أبيض يتبع الحيضة، ليس بصفرة ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي.
ونقل حنبل، عن أحمد: أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض.
وأرسلت امرأة إلي عمرة بنت عبد الرحمن بدرجٍ فيهِ كرسفة قطن، فيها كالصفرة، تسألها: هل ترى إذا لَم تر المرأة مِن الحيضة إلا هَذا أن قَد طهرت؟ فقالت: لا، حتى ترى البياض خالصاً.
وروى الأثرم بإسناده، عَن ابن الزبير، أنَّهُ قالَ على المنبر: يا معشر النساء، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء فَهوَ الطهر.
وقال مكحول: لا تغتسل المرأة مِن الحيض إذا طهرت حتى ترى طهراً أبيض.
وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء.
ودل قول عائشة - رضي الله عنها - هَذا على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وأن مِن لها أيام معتادة تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً معتبراً.
وهذا قول جمهور العلماء، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً، مِنهُم: عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه، ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة.
ولكن ذهب طائفة قليلة، مِنهُم: الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم.
واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض.
وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليسَ حيضاً، إلا أن يتقدمها دم.
وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال.
فأما ما زاد على أيام العادة، واتصل بها، وكان صفرة أو كدرة، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنَّهُ حيض، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك، والمشهور عَن الشَافِعي
- أيضاً -، وعليه أكثر أصحابه، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق.
والثاني: أنه ليسَ بحيض، وَهوَ رواية عَن مالك، وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية.
وأما الإمام أحمد، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ عَنهُ روايتان.
وقد روي عَن عائشة، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة مِن الصفرة والكدرة.
خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى، عَن عطاء، عَن عائشة، قالت: إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل؛ فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل، فإذا رأت دماً أحمر فلتغتسل ولتصل.
وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ، فروى البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء، قالت: كنا في حجرها معَ بنات أخيها، فكانت إحدانا تطهر، ثُمَّ تصلي، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة، فنسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ، حتى ترين البياض خالصاً.
وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت بعد الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً ولو تكررت، على الصحيح عندهم، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ متصلاً بالدم وتكرر.
فهذا كله في حق المعتادة.
فأما المبتدأة، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة، فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه، وأكثر أصحاب الشَافِعي: إنه يكون حيضاً؛ لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة.
وقالت طائفة مِن أصحابنا: لا يكون حيضاً، وقالوا: إنه ظاهر كلام أحمد، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً -، وحكاه الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر
الفقهاء؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد، فقويت جهة فساده، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ ثلاثاً أن يكون حيضاً، إن قلنا: إن المتكرر بعد العادة حيض، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم بخلاف هَذا.
وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا، مِنهُم: ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً -؛ للحديث المروي عَن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهُ قالَ - في دم الحيض -: ( ( إنه أسود
يعرف) ) .
وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف.
ثُمَّ خرج البخاري في هَذا الباب:
[ قــ :316 ... غــ :320 ]
- مِن حديث: سفيان - هوَ: ابن عيينة -، عَن هشام، عَن أبيه، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ:
( ( ذَلِكَ عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) ) .
وقد سبق هَذا الحديث، وذكرنا اختلاف العلماء في معناه، وأنه هل المراد بإقبال الحيضة وإدبارها: إقبال الدم الأسود وإدباره، أم المراد: إقبال وقت عادتها وإدبارها؟ وأن أكثر الأئمة حملوا الحديث على الأول، وَهوَ اعتبار التمييز في الدم.
والمميزة ترجع إلى ما تراه مِن أغلظ الدماء وأفحشها لوناً، فتجلس مدة الدم الأسود دونَ الأحمر، والأحمر دونَ الأصفر.
ولا يعتبر للتمييز تكرر على أصح الوجهين لأصحابنا، لكن يشترط عندهم أن لا ينقص عَن أقل الحيض ولا يتجاوز أكثره، وأن يكون بين الدمين أقل مدة الطهر، وَهوَ قول الشافعية - أيضاً.
وحكي عَن أحمد رواية أخرى: أنه لا يعتبر أن لا يجاوز أكثر الحيض، فعلى هَذهِ الرواية تجلس منهُ قدر الأكثر خاصةً.
وأما على تفسير إقبال الحيضة وإدبارها بإقبال العادة وإدبارها، فتجلس ما تراه مِن الدم في أيام عادتها خاصة، على أي صفة كانَ، ولا تزيد على ذَلِكَ، فإذا انقضت مدة عادتها فهي طاهر، تغتسل وتصلي.