فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

باب
لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة
[ قــ :883 ... غــ :910 ]
- ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، [عن
أبيه]
، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيبٍ، ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خَّرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) ) .

التفريق بين اثنين يدخل فيه شيئان:
أحدهما:
أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدمٍ.

وقد خرج أبو داود نحو هذا الحديث من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ( ( ولم يتخط رقاب الناس) ) .

ومن حديث عبد الله بن عمرو –أيضاً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي أيوب، ومن حديث نبيشة الهذلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثهما: ( ( ولم يؤذ أحداً) ) .

ومن حديث أبي الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثه: ( ( ولم يتخط أحداً، ولم يؤذه) ) .

وقد تقدم حديث عبد الله بن بسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناسِ يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اجلس، فقد آذيت) ) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وخرّجه ابن ماجه من حديث جابر.
وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث زبان بن فائد، من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من تخطي رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم) ) .

وزبان، مختلف في أمره.

ورواه عنه ابن لهيعة ورشدين بن سعدٍ.

وخرّج الإمام أحمد من حديث أرقم بن الأرقم المخزومي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
( ( الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة إلى النارِ) ) .
وفي إسناده: هشام بن زياد أبو المقدام، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.

وأكثر العلماء على كراهة تخطي الناس يوم الجمعة، سواء كان الإمام قد خَّرج أو لم يخرج بعد.

وقالت طائفةٌ: لا يكره التخطي إلا بعدَ خروجهِ، كما دل عليه حديث الأرقم، منهم: الثوريُ، ومالكٌ، والأوزاعي – في روايةٍ -، ومحمد بن الحسنِ.

وذكر مالكٌ، عن أبي هريرة، قال: لأن يصلي أحدكم بظهرة الحرة خيرٌ له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطبُ جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعةِ.

فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، ففيه قولان:
أحدهما: يجوز له التخطي حينئذ، وهو قول الحسن، وقتادة، والأوزاعي والشافعي، وكذا قال مالكٌ في التخطي قبل خروج الإمام، وكذا روى معمر عن الحسن وقتادة.
أنه يكره، وهو قولُ عطاءٍ، والثوريّ.

وعن أحمد روايتان في ذلك، كالقولين.

وعنه روايةٌ ثالثةٌ: إن كان يتخطى واحداً أو اثنين جاز، وان كان أكثر كره.

وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف، وتركوا مقدمها عمداً، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ.

وفي كلام الأوزاعي وغيره ما يدل على مثل هذا - أيضاً -، وكذلك قال الحسن، قال: لا حرمة لهم.

ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لابد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعا للصلاة بدونه، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي، لم
يكره.

وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته مسرعاً، يتخطى رقاب الناسِ.

وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم –إذا أقيمت الصلاة – أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ.

وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة: جواز تخطيهم بإذنهم، وعن قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه.

ثم قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي، لأن الأذى يحرم قليلة وكثيرة، وهذا اذى، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اجلس، فقد آذيت) ) .

فظاهر كلامه: تحريمه بكل حال، والاكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ.

ومتى كان بين الجالسين فرجة، بحيث لا يتخطاهما، جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما كره له ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً، ولم يؤذه، ولم يضيق على أحد جاز، وإلاّ فلا.

قال ذلك كله عطاءٍ -: ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.

الثاني –مما يدخل في التفريق بين اثنين -:
الجلوس بينهما إن كانا جالسين، أو القيام بينهما أن كانا قائمين في صلاة.

فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما ولا دفع ولا أذى، مثل أن يكون بينهما فرجة، فإنه يجوز، بل يستحب، لأنه مامور بسد الخلل في الصف، وإلاّ فهو منهي عنه، إلاّ أن ياذنا في ذلك.

وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
( ( لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا باذنهما) ) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.

وقال: حديثٌ حسنٌ.

فإن كان الجالسان بينهما قرابة، أو كانا يتحدثان فيما يباح، كان أشد كراهةً.

وفي ( ( مراسيل أبي داود) ) عن المطلب بن حمطب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لا يفرق بين الرجل ووالده) ) .

وخرّجه الطبراني من حديث سهل بن سعدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( لا يجلس الرجل بين الرجل وابيه في المجلس) ) .

وفي إسناده نظر.

وروي عن ابن عمر – مرفوعاً، وموقوفاً -: ( ( إذا كان اثنان يتناجيان فلا يدخل بينهما إلا بإذنهما) ) .

قال الإمام أحمد في الرجل ينتهي إلى الصف وقد تم فيدخل بين رجلين: أن علم أنه لا يشق عليهم.

قال القاضي أبو يعلى: أن شق عليهم لم يجز؛ لأن فيهِ أذية لهم، وشغلاً لقلوبهم.


* * *