فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من لم ير رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة

باب
من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة
خَّرج فيه حديث عتبان –أيضاً:

[ قــ :817 ... غــ :840 ]
- عن عبدان، عن ابن المبارك، بالإسناد المتقدم، وذكر الحديث بتمامه، وفي آخر قالَ:
فغدا علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكرٍ معه بعدما أشتد النهار، فأستأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: ( ( اين تحب أن اصلي من بيتك؟) ) فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، ثم سلم، وسلمنا حين سلم.

مراده بهذا الحديث في هذا الباب: أن الذين صلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت عتبان سلموا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سلم من الصلاة، ولم يوجد منهم سوى السلام من الصلاة كسلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وفي ذلك ردٌ على من قال: إن المأموم يرد على الإمام سلامه مع تسليمه من السلام إما قبله أو بعده.

وقد قال بذلك طوائف من السلف، منهم: ابن عمر وأبو هريرة:
فروي عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم الإمام رد عليه، ثم سلم عن يمينه، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه وإلاّ سكت.
وروي عنه، أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام.

وعن أبي هريرة، أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليك أيها القارئ.

وقال عطاء: ابدأ بالامام، ثم سلم على من عن يمينك، ثم على من عن شمالك.

وعن الحسن وقتادة نحوه.

وقال الشعبي: إذا سلم الإمام فَّرد عليه.

وكان سالمٌ يفعله.

وقاله النخعي.

وقال الزهري: هو سنةٌ.

قال مكحولٌ: كان أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يردون على الإمام إذا سلم عليهم.

وقال عطاء –أيضاً -: حق عليك أن ترد على الإمام إذا سلم.

وقال – مرةً -: هو مخيرٌ، إن شاء رد عليه، وإن شاء صبر حتى يسلم لنفسه، وينوي به الإمام، ومن صلى على جانبيه.

وقال في الرد على الإمام: يرد في نفسه، ولا يسمعه.

وكذا قال حمادٌ.

فإن كان مرادُ من قال: يرد على الإمام: أنه يرد عليه السلام في نفسه، ولا يتكلم به، فهذا الرد إذا فعله في الصلاة لا تبطل به الصلاة، وإن كان مراده: أنه يرد بلسانه، كما هو ظاهر أكثرهم، فإنه ينبني على أن ردَّ السلام في الصلاة لا يبطل الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك طائفة من السلف، ويأتي ذكره في موضعٍ آخر – إن شاء الله تعالى.

وقد ينبني –أيضاً -، على أن السلام ليس من فروض الصلاة، وأنه يخرج من الصلاة بكل منافٍ لها من الكلام ونحوه، كما قال ذلك من ذكرنا قوله من قبل.

وأما من قال: إن الرد على الإمام يكون بعد السلام من الصلاة، فهذا لا إشكال فيه؛ فإنه قد خرج من الصلاة بالسلام، وقد ذهب إلى ذلك غير واحد من الأئمة المشهورين.

قال مالكٌ، في المأموم: يسلم تسليمةً عن يمينه، وأخرى عن يساره، ثم يرد على الإمام.

قال ابن عبد البر: تحصيل قول مالكٍ في ذلك: أن الإمام يسلم واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً - وأن المصلي لنفسه –يعني: منفرداً –يسلم اثنين – في رواية ابن القاسم، وأن المأموم يسلم ثلاثا إن كان عن يساره أحد.

واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام: فمرةً قال: يسلم عن يمينه وعن يساره، ثم يرد على الإمام.
ومرة قال: يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه، ثم يسلم عن يساره.

وقد روى أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين، أن الإمام والمنفرد سواءٌ، يسلم كل واحد منهما تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً.

قال: وكان الليث بن سعد يبدأ بالرد على الإمام، ثم يسلم عن يمينه وعن يساره.

ونقل أبو داود عن أحمد في الرد على الإمام قبل السلام، قال: لا.

قيل له: فبعده؟ قال: نعم، وإن شاء نوى بالسلام الرد.
قال: وما أعرف فيه حديثاً عالياً يعتمد عليه.

قال القاضي أبو يعلى: زظاهر هذا: أنه مخير في الرد على الإمام بالنية في حال سلامه، أو بالقول بعده، فيقول: السلام عليك أيها القارئ.
قال: ويسر به، ولا يجهر.

نقل المروذي عن أحمد في الرجل يرد السلام على الإمام، فقال: إذا نوى بتسليمه الردَّ فقد ردَّ عليه، فإن فعل رجلٌ فليخفه.

قال: ومعناه: إن ردَّ عليه بالقول فليخفه.

وقال إسحاق: لا اختلاف بين أهل العلم في الرد على الإمام إذا سلم كما سلم، ولكن اختلفوا: هل يبدأ بالرد عليه قبل السلام، أم يرد عليه بعد السلام؟ قال: وأحب إلي أن يرد بعد السلام.
قال واذا رفع صوته بالردَّ قدر ما يسمع الإمام والصف الذي يليه جاز، وإن أسره وأسمع أذنيه بالرد على الإمام أجزأه.

وكل من قال: يرد على الإمام قال: يرد عليه بلفظ السلام من غير زيادة، إلا ما روي عن أبي هريرة، أنه يقال: السلام عليك أيها القارئ، كما سبق.

واختلفوا في المأموم: هل ينوي بسلامه من الصلاة الرد على إمامه، أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما: لا ينوي ذلك، ونص عليه أحمد في رواية مُهنا وغيره، وهو اختيار ابن حامدٍ من أصحابنا؛ لأن السلام ركن من أركان الصلاة، لا يخرج منها بدونه، على ما تقدم، والصلاة لا يردّ فيها السلام على أحدٍ، بل هو مبطلٌ للصلاة؛ لأنه خطاب آدمي، هذا مذهبنا، وقول جمهور العلماء.

وعلى هذا: فهل تبطل صلاته بذلك؟
قالَ ابن حامد من أصحابنا: إن لم ينو سوى الرد بطلت صلاته، وإن نوى الردَّ والخروج من الصَّلاة ففي البطلان وجهان؛ لأنه لم يخلص النية لخطاب المخلوق، فأشبه ما لو قال لمن دق عليه الباب: { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ينوي به القراءة والإذن له؛ فإن في بطلان الصَّلاة بذلك روايتين، أصحهما: لا تبطل.

قالَ أحمد – في رواية جعفر بن محمدٍ -: السلام على الإمام لا نعرف لهُ موضعاً، وتسليم الإمام هوَ انقضاء الصَّلاة، ليس هوَ سلام على القوم، فيجب عليهم أن يردوا، ولكن ابن عمر شدد في هذا، يسلم الرجل وينوي به السلام من الصَّلاة والرد على
الإمام، كأنه يقوله على وجه الإنكار لذلك.
قيل له: أنهم يقولون: إن ردَّ السلام على الإمام واجبٌ.
قال: أرجو أن لا يكون واجباً، وإن رد فلا بأس.

والقول الثاني: أنه ينوي المأموم بسلامه الرد على إمامه، وهو قول عطاءٍ والنخعي وحماد والثوري، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه.

وهل هو مسنونٌ مستحبٌ، أو جائز؟ فيه روايتان –أيضاً - عن أحمد: قال – في رواية يعقوب بن بختان -: ينوي بسلامه الرد.

وهو اختيار أبي حفصٍ العكبري.

وقال – في رواية غيره -: لا بأس به.

فظاهره: جوازه فقط، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.

وقال - في رواية ابن هانئ -: إذا نوى بتسليمه الردَّ على الإمام أجزأه.

وظاهر هذا: أنه واجبٌ؛ لأنه رد سلامٍ، فيكون فرض كفاية، إلا أن يقال: إن المسلم في الصلاة لا يجب الرد عليه، أو يقال: أنه يجوز تأخير الرد إلى بعد السلام.
ولكن إذا جوزنا تأخيره وجب أحد أمرين: إما أن ينوي الرد بالسلام، أو أن يرد بعد ذلك، وهو قول عطاءٍ كما تقدم.

وتبويب البخاري قد يشعر بذلك؛ لقوله: ( ( واكتفى بتسليم الإمام) ) ، ويحتمل أنه أراد أن تسليم الصلاة كافٍ عن الردَّ، وإن لم ينو به الردَّ، كما قاله أحمد في روايةٍ.

وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: إذا سلمت عن يمينك أجزأك من الرد عليه.

وكذا قال النخعي.

ولم يشترطا أن ينوي بسلامه الردَّ.

قال أبو حفصٍ العكبري: وينوي بالأولى الخروج من الصلاة، وبالثانية الرد على الإمام والحفظة.
وممن رأى أن ينوي بسلامة الرد على الإمام: أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما.

ثم قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الإمام نوى بتسليمه الأولى السلام على من عن يمينه من الملائكة والمسلمين من الإنس والجن، وينوي بالثانية ذلك مع الرد على إمامه، وإن كان المأموم عن يسار إمامه نواه في الأولى، وإن كان محاذياً له نواه في أيتهما شاء، والأولى افضل -: نص عليه الشافعي في ( ( الأم) ) ، وينوي الإمام بسلامه من عن يمينه ويساره يمينه ويساره من الملائكة والمسلمين من المأمومين وغيرهم، وينوي بعض المأمومين الردَّ على من بعضٍ.
قالوا: وكل هذه النيات مستحبةٌ، لا يجب منها شيءٌ.

وقال أصحاب أبي حنيفة ينوي المصلي بكل تسليمةٍ من في تلك الجهة من الناس والحفظة.

وهل يقدم الآدميين على الملائكة في النية؟ على روايتين عندهم:
أحدهما: يقدم الملائكة؛ لأنهم عندهم أفضل.

والثانية: يقدم الناس؛ لمشاهدتهم.

ويدخل المأموم الإمام في الجهة التي هو فيها.
فإن كان بحذائه أدخله في اليمين؛ لأنهما أفضل.

وروى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حمادٍ، قال: إذا كان الإمام عن يمينك ثم سلمت عن يمينك، ونويت الإمام كفى ذلك، وإذا كان عن يسارك ثم سلمت عن يسارك ونويت الإمام كفى ذلك - أيضاً -، وإن كان بين يديك فسلم عليه في نفسك، ثم سلم عن يمينك وشمالك.
وأما نية الخروج من الصلاة، فهل هي واجبةٌ، تبطل الصلاة بتركها، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا، اختار ابن حامد وجوبها، واختار الأكثرون عدم الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد.

وينوي الخروج بالأولى، سواءٌ قلنا: يخرج بها من الصلاة، أو قلنا: لا يخرج إلا بالثانية؛ لأن النية تستصحب إلى الثانية.

ومن الأصحاب من قال: أن قلنا: الثانية سنةٌ نوى بالأولى الخروج، وإن قلنا: الثانية فرضٌ نوى الخروج بالثانية خاص.
والصحيح: الأول.

ولأصحاب الشافعي في وجوب نية الخروج بالسلام وبطلان الصلاة بتركها وجهان –أيضاً.

ونص الشافعي على أن ينوي بالسلام الخروج.

ولكن اختلفوا: هل هو محمولٌ على الاستحباب، أو الوجوب؟
وإنما ينوي الخروج عندهم بالأولى؛ لان الثانية ليست عندهم واجبةً بغير خلافٍ.

واستدل من استحب أن ينوي بسلامه الحفظة والامام والمأمين بما خَّرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثميسلم على إخيه من على يمينه وشماله) ) .
وفي رواية له: فقال: ( ( ما شأنكم تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، إذا سلم احدكم فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده) ) .

وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض.

وخرّج أبو داود –أيضاً -، من طريقٍ اخرٌ، عن سمرة، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ( ( ابدأوا قبل التسليم، فقولوا: التحيات الطيبات الصلوات، والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم) ) .

وخرّجه ابن ماجه بمعناه.

وفي رواية له باسناد فيه ضعفٌ: ( ( إذا سلم الإمام فردوا عليه) ) .

وخرّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين.

وقال الترمذي: حديث حسنٌ.

وظاهره: يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينوي بسلامه في صلاة التطوع السلام على الملائكة ومن ذكر معهم.

وتأوله إسحاق على أنه اراد بذلك التشهد؛ فإنه يسلم فيه على عباد الله الصالحين.

وهو خلاف الظاهر.
والله أعلم.
* * *