فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل اللهم ربنا لك الحمد

باب
فضل: ( ( اللهم ربنا ولك الحمد) )

[ قــ :775 ... غــ :796 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سميًّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ) .

قد تقدم في الباب الماضي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في حال رفعه من الركوع: ( ( سمع الله لمن حمده) ) ، ثم يقول بعد إنتصابه منه: ( ( ربنا ولك الحمد) ) ، فدل على أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الثوري والأوزعي والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وروي عن علي وأبي هريرة.

وأما مالك وأبو حنيفة، فعندهما: يقتصر الإمام على التسميع والمأموم على التحميد؛ ظاهر حديث أبي هريرة هذا.

وحمل بعض أصحابهما حديث أبي هريرة السابق في الجمع بينهما على النافلة، وهو بعيد جداً.

وقد خرَّج مسلم في ( ( صحيحه) ) : أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بينهما إذا رفع رأسه من الركوع من حديث علي وابن أبي أوفى.
ومن حديث حذيفة –أيضاً -، لكن في صلاة النافلة.

وفي هذا الحديث: الأمر للمأمومين أن يقولوا: ( ( اللهم ربنا ولك الحمد) ) إذا قال: ( ( سمع الله لمن حمده) ) ، فيجتمع الإمام والمأمومون في قول: ( ( ربنا ولك
الحمد)
)
.

واستدل بهذا من قال: أن المأموم لا يقول: ( ( سمع الله لمن حمده) ) كالإمام، وهو قول مالك والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وأحمد.

وروي عن أبي مسعود وأبي هريرة والشعبي.

وقالت طائفة: يجمع المأموم بين الأمرين - أيضاً -، فيسمع ويحمد.

وهو قول عطاء وأبي بردة وابن سيرين والشافعي وإسحاق؛ لعموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( صلوا كما رأيتموني اصلي) ) .

وفيه حديثان صريحان في المأموم أنه يجمع بينهما، ولكنهما ضعيفان -: قاله البيهقي وغيره.

وروي – أيضاً – عن أبي موسى، وضعفه البيهقي – أيضاً -.

ومعنى قوله: ( ( سمع الله لمن حمده) ) : استجاب الله لحامده كما استعاذ من دعاء لا يسمع، أي لا يستجاب؛ فكذلك يشرع عقب ذلك الاجتماع على حمد الإمام من الإمام ومن خلفه.

وظاهر هذا الحديث: يدل على أن الملائكة تحمد مع المصلين، فلهذا علل أمرهم بالتحميد بقوله: ( ( من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) ) .

وفي حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله تعإلى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده) ) .

خرَّجه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة المخَّرج في هذا الباب: ( ( اللهم، ربنا لك الحمد) ) بغير واو.

وفي حديث أبي هريرة المخرج في الباب قبله: ( ( اللهم، ربنا ولك الحمد) ) – بالواو.

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة –سبق تخريجها -: ( ( ربنا لك الحمد) ) بغير
واو.

وفي روايات آخر: ( ( ربنا ولك الحمد) ) - بالواو.

وكله جائز، وأفضله عند مالك وأحمد: ( ( ربنا ولك الحمد) ) بالواو.

وقال أحمد: روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث عن أنس بن مالك، وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه.

يعني: كلها بالواو.

وقال في حديث علي الطويل: ( ( ولك الحمد) ) .

وحديث علي، خرَّجه مسلم.

وقد ذكر الأصمعي أنه سال أبا عمرو عن الواو في قوله: ( ( ربنا ولك الحمد) ) .
فقال: هي زائدة.

وذكر غيره أنها عاطفة على محذوف، تقديره: ربنا أطعناك وحمدناك ولك
الحمد.

قال أصحابنا: فإن قال: ( ( ربنا ولك الحمد) ) فالأفضل أثبات الواو، وإن زاد في أولها: ( ( اللهم) ) فالأفضل إسقاطها، ونص عليه أحمد في رواية حرب؛ لأن أكثر أحاديثها كذلك، ويجوز إثباتها، لأنه ورد في حديث أبي هريرة، كما خرَّجه البخاري في الباب الماضي.

وذهب الثوري والكوفيون إلى أن الافضل: ( ( ربنا لك الحمد) ) بغير واو.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

***



باب
القنوت
[ قــ :776 ... غــ :797 ]
- حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: لأقربن لكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول: ( ( سمع الله لمن حمده) ) فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار.



[ قــ :777 ... غــ :798 ]
- حدثنا عبد الله بن أبي الأسود: نا إسماعيل، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.

ليس مقصود البخاري بهذا الباب ذكر القنوت؛ فإن القنوت قد أفرد له باباً في اواخر ( ( أبواب الوتر) ) ، ويأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

إنما مراده بتخريج هذين الحديثين في هذا الباب: أن المصلي يشرع له بعد أن يقول: ( ( سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) ) أن يدعو، ولا يقتصر على التسميع والتحميد خاصة.

وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنه كان يزيد في الثناء على التسميع والتحميد، ولم يخرجها البخاري، فإنها ليست على شرطه، وخرَّج مسلم كثيراً منها.

فخَّرج من حديث عليٍ، أنه وصف صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر فيها: قال: وإذا رفع من الركوع قال: ( ( اللهم، ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد) ) .

وفي رواية أخرى له: ( ( سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) ) –إلى آخره.

وخرَّج –أيضاً – من رواية قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ( ( اللهم، ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لامأنع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولاينفع ذا الجد منك الجد) ) .

وخرَّج –أيضاً - من حديث الاعمش، عن عبيد بن الحسن، عن ابن أبي أوفى، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع ظهره من الركوع قال: ( ( سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما شئت من شيء بعد) ) .

وخَّرجه من حديث شعبة، عن عبيد، عن ابن أبي اوفى، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بهذا الدعاء، ولم يذكر فيه: رفع رأسه من الركوع.

ورجح الإمام أحمد رواية شعبة، وقال: اظن الأعمش غلط فيه.

يعني: في ذكره: أنه كان يقوله بعد رفع رأسه من الركوع.

وقد بين ذلك أبو داود في ( ( سننه) ) ، وبسط القول فيه.

وفي رواية لمسلم زيادة: ( ( اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الوسخ) ) .

وليس في هذه الرواية: ذكر رفع رأسه من الركوع –أيضاً.

وخرَّج مسلم –أيضاً - من حديث قزعة، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ( ( ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الارض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُ) ) .

وفي إسناده بعض اختلاف، وروي مرسلاً.

وفي الباب أحاديث أخر، ليست أسانيدها بالقوية.
وقد أستحب الشافعي وإسحاق قول هذه الاذكار المروية بعد التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة وغيرها.

ولم يستحب الكوفيون الزيادة على التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة، وحملوا ما ورد في الزيادة عليها على صلاة النافلة.

وظاهر مذهب الإمام أحمد: أن الإمام والمنفرد يقول كل منهما بعد التحميد: ( ( ملء السموات والارض) ) ، إلى قوله: ( ( من شيء بعد) ) في الصلاة المفروضة وغيرها.

وأما المأموم فيقتصر على قول: ( ( ربنا ولك الحمد) ) .

قيل لأحمد: فيزيد –يعني الإمام والمنفرد – على هذا، فيقول: ( ( أهل الثناء
والمجد)
)
؟ قال: قد روي ذلك، وأما أنا فاني أقول إلى ( ( ملء ما شئت من شيء بعد) ) –يعني: لا يزيد عليه.

وحكي عن أحمد رواية أخرى: أنه يستحب قولها في المكتوبة – أيضاً -،
وهي إختيار أبي حفص العكبري.

ومن أصحابنا من قال: من أكتفى في ركوعه وسجوده بأدنى الكمال من التسبيح لم يستحب له الزيادة على ذلك، ومن زاد على ذلك في التسبيح أستحب له قولها؛ لتقع أركان الصلاة متناسبةً في طولها وقصرها، وحمل فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها وتركه على مثل ذلك.

وعن أحمد رواية: أن المأموم يستحب له أن يأتي بالتحميد وما بعده من الدعاء، كالإمام والمنفرد، غير أنه لا ياتي بالتسميع، ورجحها بعض أصحابنا المتأخرين.

قال البخاري –رحمه الله -:



[ قــ :778 ... غــ :799 ]
- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن علي بن يحيى بن خلادٍ الزرقي، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع الزرقي، قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: ( ( سمع الله لمن حمده) ) فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
فلما أنصرف قال: ( ( من المتكلم؟) ) قال: أنا.
قال: ( ( رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيهم يكتبها أول) ) .

قوله: ( ( أول) ) روي على وجهين: بضم اللام وفتحها.
فالضم على أنه صفة لأي.

وقد سبق نحوه في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي هريرة: ( ( لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك) ) .

و ( ( البضع) ) : ما بين الثلاث إلى التسع، في الأشهر.

وقال أبو عبيدة: ما بين الثلاث إلى الخمس.
وقيل غير ذلك.

وقد قيل في مناسبة هذا العدد: أن هذه الكلمات المقولة تبلغ حروفها بضعاً وثلاثين حرفاً، فكان الملائكة ازدحموا على كتابتها ورضوا أن يكتب كل واحد منهم حرفاً منها.

وفي هذا نظر؛ فأنه ليس في الحديث ما يدل على أنهم توزعوا كتابتها.

وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأوم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد –في رواية -، وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات المفروضات؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم – أنما كانوا يصلون وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات المفروضة غالباً، وأنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلاً.

وفيه - أيضاً -: دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه.

وقد سبق ذكر الجهر مستوفى.

***