فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] قال ابن عباس: «شكركم»

باب قول الله عز وجل: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة: 82]
قال ابن عباس: شكركم
قال آدم بن أبي إياس في " تفسيره ": نا هشيم، عن جعفر بن إياس، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
في قوله: (وتجعلون رزقكم) أي: شكركم
) أنكم تكذبون (قال: هو قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا.

قال ابن عباس: وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم به كافرا، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا.

ثم خرج في سبب
نزولها من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن
عباس.

وقد خرجه مسلم في " صحيحه " من رواية عكرمة بن
عمار: حدثني
أبو زميل: حدثني ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : "
أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة
وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا "،
فنزلت هذه الآية (فلا أقسم بمواقع النجوم) - حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) .
وروى عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال
: " شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونجم كذا وكذا ".

خرجه الإمام أحمد والترمذي.

وقال: حسن غريب، لا نعرفه - مرفوعا - إلا من حديث إسرائيل، عن
عبد الأعلى.
ورواه سفيان عن عبد الأعلى - نحوه -، ولم يرفعه.

ثم خرجه من طريق سفيان - موقوفا على علي.

وكان سفيان ينكر على من رفعه.

وعبد الأعلى هذا، ضعفه الأكثرون.
ووثقه ابن معين.
وخرج القاضي إسماعيل في كتابه " أحكام
القرآن " كلام ابن عباس بالإسناد
المتقدم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس كان يقرؤها: (وتجعلون
شكركم) ، تقولون: على ما أنزلت من الغيث والرحمة، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا.
قال: فكان ذلك كفرا منهم لما أنعم الله عليهم.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :1004 ... غــ :1038 ]
- نا إسماعيل: حدثني مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلاة الصبح بالحديبية
على إثر سماء كانت من الليل، فلما
انصرف النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أقبل على الناس، فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ "
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:
مطرنا بفضل الله ورحمته،
فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء
كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".

قوله: " على
إثر سماء "، أي: مطر كان من الليل.

والعرب تسمي المطر سماء؛ لنزوله من السماء، كما قال بعضهم:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه،
وإن كانوا غضابا وقوله: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " - وفي بعض الروايات:
" الليلة "، وهي تدل على
أن الله تعالى يتكلم بمشيئته واختياره.

كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما إذا شاء.

وقوله: " أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله
ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: بنوء كذا
وكذا، فذلك
كافر بي مؤمن بالكوكب ".

يعني: أن من أضاف نعمة الغيث وإنزاله إلى الأرض إلى الله عز وجل
وفضله ورحمته، فهو مؤمن بالله حقا، ومن أضافه إلى الأنواء، كما كانت
الجاهلية تعتاده، فهو كافر بالله، مؤمن
بالكوكب.

قال ابن عبد البر: النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، وبعضهم
يجعله الطالع، وأكثرهم
يجعله الساقط، وقد تسمى منازل القمر كلها أنواء،
وهي ثمانية وعشرون.

وقال الخطابي، النوء واحد الأنواء،
وهي الكواكب الثمانية والعشرون
التي هي منازل القمر، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب مطروا
،
فجعل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سقوط المطر من فعل الله دون غيره، وأبطل قولهم.
انتهى.

وقال غيره: هذه الثمانية
وعشرون منزلا تطلع كل ثلاثة عشر يوما منزل
صلاة الغداة بالمشرق، فإذا طلع رقيبه من المغرب؛ فسميت أنواء
لهذا المعنى.

وهو من الأضداد، يقال: ناء إذا طلع، وناء إذا غرب، وناء فلان إذا
قرب، وناء إذا بعد.

وقد أجرى الله
العادة بمجيء المطر عند طلوع كل منزل منها، كما أجرى
العادة بمجيء الحر في الصيف، والبرد في الشتاء.

فإضافة نزول الغيث إلى الأنواء، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك،
المدبرة له دون الله عز وجل، فقد كفر بالله
، وأشرك به كفرا ينقله عن ملة
الإسلام، ويصير بذلك مرتدا، حكمه حكم المرتدين عن الإسلام، إن كان قبل
ذلك
مسلما.

وإن لم يعتقد ذلك، فظاهر الحديث يدل على أنه كفر نعمة الله.

وقد سبق عن ابن عباس، أنه جعله كفرا
بنعمة الله عز وجل.

وقد ذكرنا في " كتاب: الإيمان " أن الكفر كفران: كفر ينقل عن الملة،
وكفر دون ذلك، لا
ينقل عن الملة، وقد بوب البخاري عليه هنالك.

فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه، وإن
كان
الإعتقاد يخالف ذلك.

والأحاديث والآثار متظاهرة بذلك.

وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " ألم تروا
إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها
كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب ".
وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إن الله
عز وجل ليبيت القوم بالنعمة، ثم يصبحون وأكثرهم بها كافر، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا ".

وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " لو أمسك الله القطر عن
الناس سبع سنين،
ثم أرسله، كفرت طائفة منهم، فقالوا: هذا من نوء
المجدح ".
وروى [أبو] الدرداء، قال: مطرنا على عهد
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذات ليلة،
فأصبح رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ورجل يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقال رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " قلما
أنعم الله على قوم نعمة، إلا أصبح كثير منهم بها كافرين ".

وفي " صحيح مسلم "، عن أبي مالك الأشعري، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال:
" أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في
الأنساب،
والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".

وخرج البخاري في " صحيحه "، من رواية ابن عيينة، عن عبيد الله:
سمع
ابن عباس يقول: " خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب،
والنياحة "، ونسي الثالثة.
قال سفيان: ويقولون
: إنها " الاستسقاء بالأنواء ".
وروي عن ابن عباس - مرفوعا - من وجه آخر ضعيف.

وخرج ابن حبان في "
صحيحه " - معناه - من حديث أبي هريرة - مرفوعا.

وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
سمع رجلا في
بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] :
" كذبت، بل هو سقي الله عز وجل، ورزقه ".

وذكر مالك، أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه كان يقول: مطرنا
بنوء الفتح،
ثم يتلو هذه الآية:) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) [فاطر: 2] .

وذكر الشافعي
، أنه بلغه، أن عمر سمع شيخا يقول - وقد مطر الناس -:
أجاد ما أقرى المجدح الليلة، فأنكر ذلك عمر عليه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سلم العلوي، قال: كنا عند أنس،
فقال رجل: إنها لمخيلة للمطر.
فقال أنس:
إنها لربها لمطيعة.

يشير أنس إلى أنه لا يضاف المطر إلى السحاب، بل إلى أمر الله ومشيئته.

وذكر ابن عبد
البر، عن الحسن، أنه سمع رجلا يقول: طلع سهيل،
وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلا لم يأت قط بحر
ولا برد.

قال: وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر.

قال: وهذا يدل على أن القوم
احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه
أدنى متعلق من كلام الجاهلية في قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا.
انتهى.

واختلف الناس في قول القائل: " مطرنا بنوء كذا وكذا " من غير اعتقاد أهل
الجاهلية: هل هو مكروه، أو محرم؟
فقالت طائفة: [هو] محرم، وهو قول أكثر أصحابنا، والنصوص تدل
عليه، كما تقدم.

وقال طائفة: هو مكروه، وهو قول الشافعي وأصحابه، وبعض أصحابنا.

فأما إن قال: " مطرنا في بنوء كذا وكذا "،
ففيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوز، كقوله: " في وقت كذا وكذا "، وهو قول القاضي
أبي يعلى وغيره.

وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال للعباس - رضي الله عنه -،
وهو يستسقي: يا عباس، كم بقي من
نوء الثريا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعا، فما مضت
تلك
السبع حتى أغيث الناس.

رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن ابن المسيب،
قال:
حدثني من لا أتهم، عن عمر - فذكره.

والوجه الثاني: أنه يكره، إلا أن يقول مع ذلك: " برحمة الله عز وجل "
،
وهو قول أبي الحسن الآمدي من أصحابنا.

واستدل للأول بما ذكر مالك في " الموطإ "، أنه بلغه، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
كان
يقول: " إذا نشأت بحريتها فشاءمت، فتلك عين غديقة ".

وهذا من البلاغات لمالك التي قيل، إنه لا يعرف
إسنادها.

وقد ذكره الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن إسحاق بن
عبد الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] -
مرسلا -، قال: " إذا نشأت بحرية، ثم استحالت
شامية، فهو أمطر لها ".

قال ابن عبد البر: ابن أبي يحيى؛
مطعون عليه متروك.

وإسحاق، هو: ابن أبي فروة، ضعيف - أيضا - متروك.

وهذا لا يحتج به أحد من أهل العلم.

قلت: وقد
خرجه ابن أبي الدنيا من طريق الواقدي: نا عبد الحكيم بن
عبد الله بن أبي فروة: سمعت عوف بن الحارث: سمعت
عائشة تقول:
سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا أنشأت السحابة بحرية، ثم تشاءمت، فتلك عين " -
أو قال: " عام
غديقة ".

يعني: مطرا كثيرا.

والواقدي: متروك - أيضا.

والمعنى: أن السحابة إذا طلعت بالمدينة من
جهة البحر، ثم أخذت إلى
ناحية الشام، جاءت بمطر كثير، وهو الغدق.

قال تعالى: (لأسقيناهم ماء غدقا) [الجن: 16] .

وقيده ابن عبد البر: " غديقة " بضم الغين بالتصغير.

ومن هذا المعنى: قول الله عز وجل
(فالحاملات وقرا) [الذاريات: 2] ،
وفسره علي بن أبي طالب وابن عباس ومن بعدهما بالسحاب.

قال
مجاهد: تحمل المطر.