فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: هل يتتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا، وهل يلتفت في الأذان

باب
هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ وهل يلتفت في الأذان؟
ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه.

وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه.

وقال إبراهيم: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء.

وقال عطاء: الوضوء حق وسنة.

وقالت عائشة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحيانه.

[ قــ :616 ... غــ :634 ]
- ثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، أنه رأى بلالاً يؤذن، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا بالأذان.

هكذا خرجه البخاري هاهنا عن الفريأبي، عن سفيان الثوري - مختصراً.

ورواه وكيع عن سفيان بأتم من هذا السياق.

خرجه مسلم من طريقه، ولفظ حديثه: قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه، فمن نائل وناضح.
قال: فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حلة حمراء، كأني انظر إلى بياض ساقيه.
قال: فتوضأ، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا - يقول: يميناً وشمالاً -، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.

ورواه عبد الرزاق، عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي جحيفة، قال: رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويتتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في اذنيه، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبة له حمراء - وذكر بقية الحديث.

خرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق.

وخرجه من طريقه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وخرجه البيهقي، وصححه - أيضا.

وهذا هو الذي علقه البخاري هاهنا بقوله: ( ( ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه) ) .

وقال البيهقي: لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة، وسفيان إنما روى هذه اللفظة، في ( ( الجامع) ) – رواية العدني، عنه - عن رجل لم يسمه، عن عون.

قال: وروي عن حماد بن سلمة، عن عون بن أبي جحيفة - مرسلاً، لم يقل: ( ( عن أبيه) ) .
والله أعلم.

قلت: وكذا روى وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن سفيان، عن عون، عن أبيه، قال: أتينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام بلال فأذن، فجعل يقول في أذانه، يحرف رأسه يميناً وشمالاً.

وروى وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أبي جحيفة، أن بلالاً كان يجعل إصبعيه في أذنية.

فرواية وكيع، عن سفيان تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه.

ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة، ولم يخرجها مسلم - أيضا -، وعلقها البخاري بصيغة التمريض، وهذا من دقة نظره ومبالغته في البحث عن العلل والتنقيب عنها - رضي الله عنه.

وقد خرج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي، عن ابن عيينة، عن الثوري ومالك بن مغول، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بالأبطح - فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، وذكر فيه الاستداره، وإدخال الإصبعين في الأذنين.

وقال: هو صحيح على شرطهما جميعاً.

وليس كما قال؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن عيينة، وقد ذمه الإمام أحمد ذماً شديداً، وضعفه النسائي وغيره.

وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فإذن، فلما بلغ ( ( حي على الصلاة، حي على الفلاح) ) لوى عنقه يميناً وشمالاً، ولم يستدر.

وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن ارطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح، وهو في قبة حمراء، فخرج بلال فأذن، فاستدار في أذانه، فجعل إصبعيه في أذنيه.

وحجاج مدلس.

قال ابن خزيمة: لا ندري هل سمعه من عون، أم لا؟
وقال البيهقي: يحتمل ان يكون أراد الحجاج باستدارته التفاته يمينا وشمالاً، فيكون موافقاً لسائر الرواة.
قال: وحجاج ليس بحجة.

وخرجه من طريق آخر عن حجاج، ولفظ حديثه: رأيت بلالاً يؤذن، وقد جعل إصبعيه في أذنيه، وهو يلتوي في أذانه يميناً وشمالاً.

وقد رويت هذه الاستدارة من وجه آخر: من رواية محمد بن خليد الحنفي - وهو ضعيف جداً -، عن عبد الواحد بن زياد، عنه، عن مسعر، عن علي بن الأقمر، عن عون، عن أبيه.

ولا يصح - أيضا.

وخرج ابن ماجه من حديث اولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن سعد، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً ان يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: ( ( أنه أرفع لصوتك) ) .
وهو إسناد ضعيف؛ ضعفه ابن معين وغيره.

وروي من وجوه أخر مرسلة.

وقد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاث مسائل:
الأولى:
الالتفات في الأذان يميناً وشمالاً.

والسنة عند جمهور العلماء أن يؤذن مستقبل القبلة، ويدير وجهه في قول: ( ( حي على الصلاة، حي على الفلاح) ) يميناً وشمالاً.

وأنكر ابن سيرين الالتفات، حكاه ابن المنذر وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن سيرين، أنه إذا اذن المؤذن استقبل القبلة، وكان يكره أن يستدير في المنارة.

وروى وكيع، عن الربيع، عن ابن سيرين، قال: المؤذن لا يزيل قدميه.

وكأن الروايتين لا تصرحان بكراهة لوي العنق.

وكذلك مالك.

وفي ( ( تهذيب المدونة) ) : ولا يدور في أذانه، ولا يلتفت، وليس هذا من الأذان، إلا أن يريد بالتفاته أن يسمع الناس فيؤذن كيف تيسر عليه.
قال: ورأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون القبلة في أذانهم ويقيمون عرضاً، وذلك واسع يصنع كيف شاء.
انتهى.

وفي حديث عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في منامه انه رأى الذي علمه النداء في نومه قام فاستقبل القبلة فأذن.

خرجه أبو داود من حديث معاذ.

والذين رأوا الالتفات.
قال أكثرهم: يلتفت بوجهه، ولا يلوي عنقه، ولا يزيل قدميه، وهو قول الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وأبي ثور، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه.

وحكي - أيضا - عن الحسن والنخعي والليث بن سعد.

وروى الحسن بن عمارة، عن طلحة بن مصرف، عن سويد بن غفلة، عن بلال، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أذنا او أقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها.

خرجه الدارقطني في ( ( أفراده) ) .

والحسن بن عمارة، متروك.

وقالت طائفة: إن كان في منارة ونحوها دار في جوانبها؛ لأنه أبلغ في الاعلام والاسماع، وهو رواية عن أحمد وإسحاق، وظاهر فيه مالك إذا أراد الاعلام.

وروي عن الحسن أنه يدور.

وظاهر كلام أصحابنا اختصاص الالتفات بالاذان.

وللشافعية في الالتفات في الاقامة وجهان.

والفرق بينهما: أن الاذان إعلام للغائبين، فلذلك يلتفت ليحصل القصد بتبلغيهم، بخلاف الاقامة؛ فإنها اعلام للحاضرين، فلا حاجة إلى التلفت فيها، ولذلك لم يشرع في الموعظة في خطب الجمع وغيرها الالتفات؛ لانها خطاب لمن حضر، فلا معنى للالتفات فيها.

وقال النخعي: يستقبل المؤذن بالاذان والشهادة والاقامة القبلة.

خرجه ابن أبي شيبة.

وروى بإسناده عن حذيفة، انه مر على ابن النباح وهو يؤذن، يقول: الله اكبر [الله] أكبر، أشهد أن لا اله الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالا، فقال حذيفة: من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.

وهذا يدل على انه كره التلفت في غير الحيعلة، وجعله مناكلاً بأذانه.
المسألة الثانية:
جعل الاصبعين في الاذنين.

وقد حكى عن ابن عمر، انه كان لا يفعل ذلك.

وظاهر كلام البخاري: يدل على انه غير مستحب؛ لانه حكى تركه عن ابن عمر، وأماالحديث المرفوع فيه فعلقه بغير صيغة الجزم، فكأنه لم يثبت عنده.

وذكر في ( ( تاريخه الكبير) ) من رواية الربيع بن صبيح، عن ابن سيرين، قال: اول من جعل أصبعيه في أذنيه في الاذان عبد الرحمن بن الأصم مؤذن الحجاج.

وهذا الكلام من ابن سيرين يقتضي انه عنده بدعة.

وروي عن ابن سيرين بلفظ آخر.

قال وكيع في ( ( كتابه) ) : عن يزيد بن إبراهيم والربيع بين صبيح، عن ابن سيرين، قال: أول من جعل اصبعا واحدة في أذانه ابن الأصم مؤذن الحجاج.

وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، ثم يجعل اصبعيه، واول من ترك إحدى أصبعيه في أذنيه ابن الاصم.

قال: وثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، انه كان إذا اذن استقبل القبلة، فأرسل يديه، فإذا بلغ: ( ( حي على الصلاة، حي على الفلاح) ) أدخل إصبعيه في أذانه.

وهذا يقتضي انه إنما يجعلهما في أذنيه في أثناء الاذان.

وروى وكيع، عن سفيان، عن نسير بن ذعلوق، قال: رأيت ابن عمر يؤذن على بعير.

قال سفيان: قلت له: رأيته جعل إصبعيه في أذنيه؟ قال: لا.

وهذا هو المروي عن ابن عمر، الذي ذكره البخاري تعليقا.

وأكثر العلماء على ان ذلك مستحب.

قال الترمذي في ( ( جامعه) ) : العمل عند اهل العلم على ذلك، يستحب ان يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الاذان.
وقال بعض اهل العلم: وفي الاقامة – أيضا، وهو قول الاوزاعي.
انتهى.

وقال إسحاق كقول الاوزاعي.

ومذهب مالك: ان شاء جعل اصبعيه في اذانه واقامته، وان شاء ترك - ذكره في ( ( التهذيب) ) .

وظاهر هذا: يقتضي انه ليس بسنة.
وقد سهل أحمد في تركه، وفي جعل الاصبعين في احدى الاذنين.

وسئل الشعبي: هل يضع أصبعيه على أذنيه إذا أذن؟ قال: يعم عليهما، واحدهما يجزئك.

خرجه ابو نعيم في ( ( كتاب الصلاة) ) .

واختلفت الرواية عن أحمد في صفة ذلك:
فروي عنه، أنه يجعل أصبعيه في أذنيه، كقول الجمهور.

وروي عنه، أنه يضم أصابعه، ويجعلها على اذنيه في الأذان والإقامة.

واختلف أصحابنا في تفسير ذلك:
فمنهم من قال: يضم أصابعه، ويقبضهما على راحتيه، ويجعلهما على أذنيه، وهو قول الخرقي وغيره.

ومنهم من قال: يضم الأصابع، ويبسطها، ويجعلها على اذنه.

قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد.

قال أبو طالب: قلت لأحمد: يدخل إصبعيه في الأذن؟ قال: ليس هذا في الحديث.

وهذا يدل على ان رواية عبد الرزاق، عن سفيان التي خرجها في ( ( مسنده) ) والترمذي في ( ( جامهه) ) غير محفوظة، مع ان أحمد استدل بحديث أبي جحيفة في هذا في رواية محمد بن الحكم.
وقال في رواية أبي طالب - أيضا -: أحب إليّ أن يجعل أصابع يديه على أذنيه، على حديث أبي محذورة، وضم أصابعه الأربع، ووضعهما على أذنيه.

قال القاضي أبو يعلى: لم يقع لفظ حديث أبي محذورة.

قال: وروى أبو حفص العكبري بإسناده، عن [أبي] المثنى، قال: كان ابن عمر إذا بعث مؤذناً يقول له: اضمم أصابعك مع كفيك، واجعلها مضمومة على أذنيك.

واستحب الشافعية إدخال الإصبعين في الأذنين في الأذان، دون الإقامة.

المسألة الثالثة:
الأذان على غير وضوء.

حكى البخاري عن عطاء، أنه قال: الوضوء حق وسنة - يعني في الأذان -، وعن النخعي، انه قال: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء.

ورجح قوله بقول عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحيانه.

وقد خرجه مسلم من حديث البهي، [عن عروة] ، عن عائشة.
وممن قال بالكراهة: مجاهد والأوزاعي والشافعي وإسحاق.

وممن ذهب إلى الرخصة: الحسن والنخعي وقتادة وحماد ومالك وسفيان وابن المبارك.

ورخص أحمد في الأذان على غير وضوء، دون الإقامة.

وكذا قال الحسن وقتادة ومالك.

وقال الأوزاعي: إن أحدث في أذانه أتمه، وإن أحدث في إقامته - وكان وحده - قطعها.

واستحب الشافعي لمن أحدث في أذانه أن يتطهر، ويبنى على ما مضى منه.

قال إسحاق: لم يختلفوا في الإقامة أنها أشد.

وقال الزهري: قال أبو هريرة: لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ.

ورواه معاوية بن يحيى، عن الزهري، عن أبي هريرة - مرفوعاً.

خرجه الترمذي من الطريقين، وذكر أن الموقوف أصح.

قال: والزهري لم يسمع من أبي هريرة.

وروى عمير بن عمران الحنفي: ثنا الحارث بن عيينة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو طاهر.
خرجه الدارقطني في ( ( الأفراد) ) ، وزاد: ولا يؤذن إلا وهو قائم.

وقال: عبد الجبار، عن أبيه مرسل.

قلت: والحارث وعمير، غير مشهورين.

وما ذكره البخاري عن عطاء، هو من رواية ابن جريج، عنه، قال: حق وسنه إلا يؤذن المؤذن إلا متوضئاً.
قال: [هو] من الصلاة، هي فاتحة الصلاة، فلا يؤذن إلا متوضئاً.

وهذا مبني على قوله: إن من نسي الإقامة أعاد الصلاة، وقد سبق ذلك عنه.

وسبق الكلام في ذكر الله تعالى للمحدث، وان منهم من فرق بين الذكر الواجب كالأذان والخطبة، وبين ما ليس بواجب.

وأماأذان الجنب، فأشد كراهة من أذان المحدث.

واختلفوا: هل يعتد به، ام لا؟
فقال الأكثرون: يعتد به، منهم: سفيان وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد.

وقال: إسحاق والخرقي من أصحابنا: لا يعتد به، ويعيده.