فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الجهر بقراءة صلاة الفجر

باب
الجهر بقراءة الفجر
وقالت أم سلمة: طفت وراء الناس والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي يقرأ بالطور.

حديث أم سلمة، قد ذكرنا في الباب الماضي.

فيهِ حديثان:
الأول:
[ قــ :752 ... غــ :773 ]
- حدثنا مسدد: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر - هوَ: جعفر بن أبي
وحشية -، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قالَ: انطلق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.
قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.
قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
فانصرف الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بنخلة - عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القران [استمعوا لهُ، فـ] قالوا: هذا - والله - الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرانا عجبا، يهدي إلى الرشد فامنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، فأنزل الله على نبيه: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ} ، وإنما أوحي إليه قول الجن.

هذه القصة كانت في أول البعثة.

وهذا الحديث مما أرسله ابن عباس، ولم يسم من حدثه به من الصحابة، ويحتمل أنه سمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحكي عن نفسه.
والله أعلم.

وسوق عكاظ نحو نخلة، كانَ يجتمع فيهِ العرب، ولهم فيهِ سوق، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج إليهم، فيدعوهم إلى الله عز وجل، وقد كانت الشهب يرمى بها في الجاهلية، وإنما كثرت عندما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد قالَ السدي وغيره: إن السماء لم تحرس إلا حيث كانَ في الأرض نبي أو دين لله ظاهر.

والمقصود من هذا الحديث هاهنا: أن الشياطين لما مروا بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، وقفوا واستمعوا القرآن.
وهذا يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، فلما سمعوا عرفوا أنه هوَ الذي حال بينهم وبين خبر السماء.

وظاهر هذا السياق: يقتضي أن الشياطين آمنوا بالقرآن، وكذا قالَ السدي وغيره.

وقد اختلف في الجن والشياطين: هل هم جنس واحد، أو لا؟
فقالت طائفة: الجن كلهم ولد إبليس، كما أن الإنس كلهم ولد آدم.

روي هذا عن ابن عباس من وجه فيهِ نظر.
وأنهم لا يدخلون الجنة.

وروي - أيضاً - عن الحسن، وأنه قالَ: مؤمنهم ولي لله لهُ الثواب، ومشركهم شيطان لهُ العقاب.

وقالت طائفة: بل الشياطين ولد إبليس، وهم كفار ولا يموتون إلا مع إبليس، والجن [ولد] الجان وليسوا الشياطين، وهم يموتون، وفيهم المؤمن والكافر.

روي هذا عن ابن عباس بإسناد فيهِ نظر - أيضاً.

وقوله: ( ( وإنما أوحي إليه قول الجن) ) .
يشير ابن عباس إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ير الجن، ولا قرأ عليهم، وإنما أوحي إليه استماعهم القرآن منه وإيمانهم به.

وقد روي ذَلِكَ صريحاً عنه، أنه قالَ في أول هذا الحديث: ما قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجن ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث.




[ قــ :753 ... غــ :774 ]
- حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل: ثنا [أيوب، عن] عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر، وسكت فيما أمر، وما كانَ ربك نسيا، ولقد كانَ لكم في رسول الله أسوة حسنة.

وخرجه الإمام أحمد، عن عبد الصمد بن الوراث، عن أبيه، عن أيوب، عن عكرمة، قالَ: لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر، قالَ: قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر أن يقرأ فيهِ، وسكت فيما أمر أن يسكت فيهِ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وما كان ربك نسيا.

وهذا يرد قول من تأول كلام ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر القراءة في بعض صلاته، ويجهر في بعضها، كما نقله الإسماعيلي والخطابي وغيرهما.

وقد روي ذلك صريحاً عن ابن عباس من وجوه أخر، قد ذكرنا بعضها فيها سبق في ( ( باب: القراءة في الظهر) ) ، وذكرنا اختلاف الروايات عن ابن عباس في ذلك.

والمراد من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر، ويجهر بالقراءة فيها؛ فإن ابن عباس أخبر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيما يجهر فيه.

ولا خلاف بين أحد من المسلمين كان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر كلها.

فيستفاد من حديث ابن عباس هذا قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الفجر جهراً وهو المقصود في هذا الباب.
والله أعلم.