فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء

باب
فضل الغسل يوم الجمعة
وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء؟
فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

[ قــ :851 ... غــ :877 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل) ) .

ليس في هذا الحديث، ولا فيما بعده من الأحاديث المخرجة في هذا الباب ذكر فضل الغسل وثوابه، كما بوب عليه، بل الأمر به خاصةً.

وقد خرج فيما بعد هذا الباب أحاديث في فضل الغسل مع الرواح، أو مع الدهن والطيب، وستأتي في مواضعها –إن شاء الله تعالى.

وقد بوب على أن الصبي والمرأة: هل عليهما شهود الجمعة؟
فأما الصبي، فسيأتي الحديث الذي يؤخذ منه حكمه.

وأما حكم المرأة، فكأنه أخذه من هذا الحديث، وهو قوله: ( ( إذا جاء أحدكم الجمعة) ) ، فإن الخطاب كان للرجال، والضمير يعود إليهم، لأنه ضمير تذكيرٍ، فلا يدخل فيه النساء.
وقد اختلف المتكلمون في أصول الفقه في صيغ الجموع المذكرة: هل يدخل فيها النساء تبعاً، أم لا؟ وفي ذلك اختلاف مشهورٌ بينهم.

وأكثر أصحابنا على دخولهن مع الذكور تبعاً.

ومن أصحابنا من قال: لا يدخلن معهم، وهو قول أكثر الشافعية والحنفية ولفظة: ( ( أحد) ) وإن لم تكن جمعاً، إلا أنها مقتضية للعموم، إما بطريق البدلية، أو الشمول، كما في قوله: { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة:285] .

ولكن الأمر هنا بالغسل، لا بمجيء الجمعة، ولكن المأمور به بالغسل هو الذي يأتي الجمعة، بلفظ يقتضي أنه لابد من المجيء إلى الجمعة، فإن ( ( إذا) ) إنما يعلق بها الفعل المحقق وقوعه غالبا قد يقتضي –أيضاً –العموم، لكن هذا العموم يخرج منه المرأة، بالأحاديث الدالة على أنه لا جمعة عليها، وقد سبق بعضها.

وخرّج أبو داود من حديث أم عطية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيتٍ، فأرسل إليهن عمر، فقال: أنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليكن، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق، ولا جمعة علينا.

وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن النساء لا تجب عليهن الجمعة، وعلى أنهن إذا صلين الجمعة مع الرجال أجزأهن من الظهر.

ومن حكى من متأخري أصحابنا في هذا خلافاً، فقد غلط، وقال ما لا حقيقة
له.
وروى أبو داود في ( ( مراسليه) ) بإسناده، عن الحسن، قال: كن النساء يجمعن مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وعن واصلٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان الضعفاء من الرجال والنساء يشهدون الجمعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد، من الضعف.

وواصلٌ، فيه ضعفٌ.

وروي، عن ابن مسعودٍ، أنه قال للنساء يوم الجمعة: إذا صليتن مع الإمام فبصلاته، وإذا صليتن وحدكن فتصلين أربعاً.

وعنه، أنه كان يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة، ويقول: أخرجن؛ فإن هذا ليس لكن.

خرّجهما البيهقي.

ولعله كره أن يضيقن المسجد على الرجال لكثرة زحام الجمعة، أو كره لهن الخروج من بيوتهن بالنهار.

ومن الشافعية من استجب للعجائز حضور الجمعة.

وعند أصحابنا: لا يكره للعجائز حضور الجمعة.

وفي كراهته للشواب وجهان.





[ قــ :85 ... غــ :878 ]
- ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: أنا جويرية، عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من اصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فناداه عمر: اية ساعةٍ هذه؟ قالَ: إني
شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل.

وهذا –أيضاً - ليس فيه ذكر فضل الغسل، إنما فيه إلامر به، ولعل مراده بتخريجه في هذا الباب: أن فيه ما يشعر بأن الأهل لا يخرجن إلى الجمعة؛ فإن هذا الرجل لما قال لعمر: ( ( لم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت) ) ، وسمع ذلك عمر ومن حضره من الصحابة، دل على اتفاقهم على أن خروج الأهل إلى الجمعة غير واجب.
والله أعلم.




[ قــ :853 ... غــ :879 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلمٍ)) .

وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل، كما سبق ذكره في ((باب: وضوء الصبيان وطهارتهم)) .

وقد تقدم ما يدل على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة، فيستدل بذلك على اختصاص إلاتيان للجمعة بمن بلغ الحلم، دون من لم يبلغ.

وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباسٍ، عن بكير بن الأشج، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن حفصة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل
محتلم)) .

وهذا صريحٌ بأن الرواح إنما يجب على المحتلم، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم.

وخرَّجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظ أبي داود: ((على كل محتلمٍ رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)) .

وقد أعل، بأن مخرمة بن بكيرٍ رواه عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر حفصة.

وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث عياش في لفظه، أم لا؟
وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في ((باب: وضوء الصبيان)) .

وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل للجمعة، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه.
وقد أختلف العلماء في غسل الجمعة: هل هو واجبٌ –بمعنى: أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر -، أم هو مستحبٌ –فلا ياثم بتركه بحال –؟
ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة، وأنها تصح بدونه، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل، ولم يأمروه بالخروج للغسل.

وقد استدل –أيضاً - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمروه بالخروج له.

وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت.

وأكثر العلماء على أنه يستحب، وليس بواجب.

وذكر الترمذي في ((كتابه)) أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك.

وقد حكي عن عمر وعثمان، ومستند من حكاه عنهما: قصة عمر مع الداخل إلى المسجد؛ فإنه قد وقع في روايةٍ أنه كان عثمان، وسنذكرها –إن شاء الله تعالى.

وممن قال: هو سنة: ابن مسعودٍ.

وروي عن عباسٍ، أنه غير واجبٍ، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد –في ظاهر مذهبه -، وإسحاق.

ورواه ابن وهبٍ عن مالكٍ، وأنه قيل له: في الحديث: ((هو واجبٌ)) ؟ قال ليس كل ما في الحديث: ((هو واجبٌ)) يكون كذلك.

وهواختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه.

واستدل من قال: ليس بواجبٍ: بما روي عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل)) .

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.
وقد أختلف في سماع الحسن من سمرة.

وخرَّجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي، عن انس –مرفوعاً - أيضاً.

ويزيد، ضعيف الحديث.
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام)) .

وهذا يدل على أن الوضوء كافٍ، وان المقتصر عليه غير أثمٍ ولا عاصٍ، وأما إلامر بالغسل فمحمول على إلاستحباب.

وقد روي من حديث عائشة وابن عباسٍ ما يدل على ذلك، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.

وأما رواية الوجوب، فالوجوب نوعان: وجوب حتم، ووجوب سنةٍ وفضلٍ.

وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل، وروي عن أبي هريرة، والحسن، وروي - أيضاً - عن سعدٍ، وعمارٍ، وابن عباسٍ –في رواية أخرى عنه -، وعن عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود، وعطاء بن السائب، وعمرو بن سليمٍ وغيرهم من المتقدمين.

وحكي رواية عن أحمد، قال أحمد - في رواية حربٍ وغيره -: أخاف أن يكون واجباً، إلا أن يكون بردٌ شديدٌ.

وهذا لا يدل على الوجوب جزماً.

وهو رواية عن مالكٍ، ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.

ذكر ابن عبد البر: أنه لا يعلم أحداً قال: إنه يأثم بتركه، غير أهل الظاهر، وأن من أوجبه، قال: لا يأثم بتركه.

وحكى –أيضاً - إلاجماع على أنه ليس بفرضٍ واجبٍ.

وذكر عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاءٍ: غسل الجمعة
واجبٍ؟ قال: نعم، من تركه فليس بأثمٍ.

قال عبد الرزاق: وهو أحب القولين إلى سفيان، يقول: هو واجبٌ.

يعني: وجوب سنةٍ.

وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء، وذكر أنه أشهر الروايتين عن مالكٍ.
أنه مستحب وليس بسنةٍ، بل كالطيب والسواك، وحكاه رواية عن مالكٍ.

وحكى عن بعضهم: أن الطيب يغني عنه، حكاهٌ عن عطاء الخراساني، وعن
عبد الكريم بن الحارث المصري، وعن موسى بن صهيبٍ، قالَ: كانوا يقولون ذَلِكَ.

وعن النخعي، قالَ: ما كانوا يرون غسلاً واجبً إلا غسل الجنابة، وكانوا يستحبون غسل الجمعة.

فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة –بمعنى كونه فرضاً يأثم بتركه – اختلافاً بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذَلِكَ باهل الظاهر.

والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة وعمار، وعن مالكٍ –أيضاً.

والذي ذكره ابن عبد البر هوَ التحقيق في ذَلِكَ –والله أعلم -، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذَلِكَ ما جاء عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إطلاق اسم ((الواجبٍ)) عليهِ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي إلاثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذَلِكَ –أيضاً.

وممن صرح بهذا: عطاءٌ، كما سبق ذكره عنه، ومنهم: يحيى بن يحيى النيسابوري، والجوزجاني.

وقد تبين بهذا أن لفظ ((الواجبٍ)) ليس نصاً في إلالزام بالشيء والعقاب على تركه، بل قد يراد به ذَلِكَ - وهو الأكثر -، وقد يراد به تأكد إلاستحباب والطلب.

ولهذا قالَ إسحاق: إن كل ما في الصَّلاة فهوَ واجبٌ.
وإن كانت الصَّلاة تعاد من ترك بعضه، كما سبق ذكره عنه.

وسبق –أيضاً -، عن الشافعي وأحمد في لفظ: ((الفرض ما يدل على نحو ذَلِكَ، فالواجب أولى؛ لأنه دون الفرض.

ونص الشافعي –في رواية البويطي –على أن صلاة الكسوف ليست بنفلٍ، ولكنها واجبةٌ وجوب السنة.

وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى ((واجباً)) .
والله أعلم.


* * *