فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة

بَاب
إذا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ
وكان ابن عُمَر يبدأ بالعشاء.

وَقَالَ أبو الدرداء: من فقه الرَّجُلُ إقباله عَلَى حاجته حَتَّى يقبل عَلَى صلاته وقلبه فارغ.

أما المروي عَن ابن عُمَر، فَقَدْ أسنده البخاري فِي هَذَا الباب، وسيأتي - إن شاء الله.

وأما المروي عَن أَبِي الدرداء [..................................
]
.

وقد روي نحوه عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء.

ذكره الترمذي فِي ( ( جامعه) ) تعليقاً، وخرجه وكيع فِي ( ( كتابه) ) عَن شريك، عَن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، عَن زياد مَوْلَى ابن عياش، أن ابن عَبَّاس كَانَ ينتظر الطعام.

فحضرت الصلاة، فَقَالَ: انتظروا، لا يعرض لنا فِي صلاتنا.
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يؤخر الصلاة إذا كَانَ في انتظار الطعام وإن لَمْ يكن حاضراً، وعلله بخشية أن يعرض لَهُ فِي صلاته – يعني: ذكره، وتحديث النفس بِهِ.

وروى وكيع – أَيْضاً – عَن شريك، عَن أَبِي إِسْحَاق، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: أذهب للنفس اللوامة أن يبدأ بالطعام.

خرج البخاري من هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث.

الحَدِيْث الأول:
[ قــ :651 ... غــ :671 ]
- حَدَّثَنَا مسدد: ثنا يَحْيَى، عَن هِشَام: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْت عَائِشَة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: ( ( إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء) ) .

الحَدِيْث الثاني:


[ قــ :65 ... غــ :67 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بكير، ثنا الليث، عَن عقيل، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس ابن مَالِك، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( إذا قدم العشاء فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم) ) .

الحَدِيْث الثالث:


[ قــ :653 ... غــ :673 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْن إِسْمَاعِيل، عَن أَبِي أسامة، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حَتَّى يفرغ مِنْهُ) ) .

وكان ابن عُمَر يوضع لَهُ الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حَتَّى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام.



[ قــ :653 ... غــ :674 ]
- .

     وَقَالَ  زهير ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى بْن عقبة، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجل حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة) ) .

قَالَ أبو عَبْد الله: رواه إِبْرَاهِيْم بْن المنذر، عَن وهب بْن عُثْمَان.

ووهب مديني.

حَدِيْث عَائِشَة، قَدْ خرجه – أَيْضاً – فِي ( ( الأطعمة) ) من رِوَايَة وهيب.

وسفيان الثوري، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، بِهِ.

وحديث أنس، قَدْ خرجه فِي ( ( الأطعمة) ) من طريق أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن أنس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَقَالَ: عَن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.

وعن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ تعشى وَهُوَ يسمع قراءة الإمام.
وحديث موسى بْن عقبة الَّذِي علقه البخاري، قَدْ خرجه مُسْلِم من رِوَايَة أَبِي ضمرة، عَن موسى، ولم يذكر لفظه، لكنه قَالَ: بنحو رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر.

وخرجه البيهقي من طريق سويد بْن سَعِيد، عَن حفص بْن ميسرة، عَن موسى بْن عقبة، ولفظه: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجلن حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة) ) .

ثُمَّ قَالَ: وبهذا اللفظ رواه زهير بْن معاوية ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى ابن عقبة، وأشار البخاري إلى روايتهما.

قُلتُ: وإنما أشار البخاري إليه؛ لأن لفظه صريح فِي أن من شرع فِي عشائه ثُمَّ أقيمت الصلاة فلا يقم إلى الصلاة حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، بخلاف سائر ألفاظ الحَدِيْث الَّتِيْ خرجها؛ لأنه يحتمل أن يكون الخَطَّاب بِهَا لمن لَمْ يتناول من عشائه شيئاً.

ووهب بْن عُثْمَان، ذكر البخاري أَنَّهُ مديني، وأن هَذَا الحَدِيْث رواه عَنْهُ إِبْرَاهِيْم بْن المنذر الحزامي، ولم يذكره فِي غير هَذَا الموضع من ( ( كتابه) ) ، ولا خرج لَهُ فِي بقية ( ( الكتب الستة) ) ، وذكره ابن حبان فِي ( ( ثقاته) ) .

وقد خرج ابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) من طريق ابن جُرَيْج: أخبرني نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر إذا غربت الشمس وتبين لَهُ الليل، فكان أحياناً يقدم عشاءه وَهُوَ صائم، والمؤذن يؤذن، ثُمَّ يقيم [وَهُوَ يسمع] فلا يترك عشاءه ولا يجعل حَتَّى يقضي عشاءه، ثُمَّ يخرج فيصلي، يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا تعجلوا عَن عشائكم إذا قدم إليكم) ) .

وقد روي ذكر الصيام مرفوعاً.

خرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق موسى بْن أعين، عَن عَمْرِو بْن الحارث، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم) ) .

وخرجه الدارقطني فِي كِتَاب ( ( الإلزامات) ) وصححه.

وخرجه الطبراني،.

     وَقَالَ : لَمْ يقل فِي هَذَا الحَدِيْث: ( ( وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب) ) إلا عَمْرِو بْن الحارث، تفرد بِهِ موسى بْن أعين.

قُلتُ: وإنما تفرد موسى بذكر: ( ( وأحدكم صائم) ) ، وأما قوله: ( ( فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب) ) فَقَدْ خرجه مُسْلِم من طريق ابن وهب، عَن عَمْرِو ابن الحارث بهذا الإسناد، ولفظ حديثه: ( ( إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم) ) .

فهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فإنه يبدأ بالعشاء، سواء كَانَ قَدْ أكل مِنْهُ شيئاً أو لا، وأنه لا يقوم حَتَّى يقضي حاجته من عشائه، ويفرغ مِنْهُ.
وممن روي عَنْهُ تقديم العشاء عَلَى الصلاة: أبو بَكْر وعمر وابن عُمَر وابن عَبَّاس وأنس وغيرهم.

وروى معمر، عَن ثابت، عَن أنس، قَالَ: إني لمع أَبِي بْن كعب وأبي طلحة وغيرهما من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طعام، إذ نودي بالصلاة، فذهبت أقوم فأقعدوني، وأعابوا عَلِيّ حِينَ أردت أن أقوم وأدع الطعام.

خرجه عَبْد الله ابن الإمام أحمد فِي ( ( مسائله) ) .

وإلى هَذَا القوم ذهب الثوري وأحمد – فِي المشهور عَنْهُ – وإسحاق وابن المنذر.

وَقَالَ أحمد: لا يقوم حَتَّى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة مَا دام فِي وقت.
قَالَ: لأنه إذا تناول مِنْهُ شيئاً ثُمَّ تركه كَانَ فِي نفسه شغل من تركه الطعام إذا لَمْ ينل مِنْهُ حاجته.

وحاصل الأمر؛ أَنَّهُ إذا حضر الطعام كَانَ عذراً فِي ترك صلاة الجماعة، فيقدم تناول الطعام، وإن خشي فوات الجماعة، ولكن لا بد أن يكون لَهُ ميل إلى الطعام، ولو كَانَ ميلاً يسيراً، صرح بذلك أصحابنا وغيرهم.

وعلى ذَلِكَ دل تعليل ابن عَبَّاس والحسن وغيرهما، وكذلك مَا ذكره البخاري عَن أَبِي الدرداء.

فأما إذا لَمْ يكن لَهُ ميل بالكلية إلى الطعام، فلا معنى لتقديم الأكل عَلَى الصلاة.

وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة قَبْلَ الأكل، إلا أن يكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام، وهذا مذهب الشَّافِعِيّ: وقول ابن حبيب المالكي.

واستدل لَهُ ابن حبان بالحديث الَّذِي فِيهِ التقييد بالصائم، وألحق بِهِ كل من كَانَ شديد التوقان إلى الطعام فِي الصلاة، يمنع من كمال الخشوع، بخلاف الميل اليسير.

وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام خفيفاً -: حكاه ابن المنذر، عَن مَالِك.

وهذا يحتمل أَنَّهُ أراد أن الخفيف من الطعام يطمع مَعَهُ فِي إدراك الجماعة، بخلاف الطعام الكثير فيختص هَذَا بالعشاء.

وهذا بناء عَلَى أن وقت المغرب وقت واحد، كما هُوَ قَوْلِ مَالِك والشافعي فِي أحد قوليه.

ونقل حرب، عَن إِسْحَاق، أَنَّهُ يبدأ بالصلاة، إلا فِي حالين: أحدهما: أن يكون الطعام خفيفاً.
والثاني: أن يكون أكله مَعَ الجماعة، فيشق عليهم قيامه إلى الصلاة.

وهؤلاء قالوا: إن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتقديم العشاء عَلَى الصلاة حيث كَانَ عشاؤهم خفيفاً، كما كَانَتْ عادة الصَّحَابَة فِي عهد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يتناول أمره غير مَا هُوَ معهود فِي زمنه.

وروى أبو داود بإسناده، عَن عَبْد الله بْن عُبَيْدِ بْن عمير، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي فِي زمان ابن الزُّبَيْر إلى جنب عَبْد الله بْن عُمَر، فَقَالَ عباد بْن عَبْد الله بْن الزُّبَيْر: إنا سمعنا أَنَّهُ يبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فَقَالَ عَبْد الله بْن عُمَر: ويحك، مَا كَانَ عشاؤهم، أتراه كَانَ مثل عشاء أبيك؟!
وخرج البيهقي من حَدِيْث حميد، قَالَ: كنا عِنْدَ أنس بْن مَالِك، فأذن المؤذن بالمغرب وقد حضر العشاء، فَقَالَ أنس: ابدءوا بالعشاء، فتعشينا مَعَهُ، ثُمَّ صلينا، فكان عشاؤه خفيفاً.

وقالت طائفة: يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون الطعام يخاف فساده لما فِي تأخيره من إفساد الطعام، وهذا قَوْلِ وكيع، رواه الترمذي فِي ( ( جامعة) ) عَنْهُ.

وفي هَذَا القول بعد، وَهُوَ مخالف ظاهر الأحاديث الكثيرة.

وللأمام أحمد فِي المسألة ثَلاَثَة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة أَبِي الحارث، وسئل عَن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة، فَقَالَ: قد جاءت أحاديث، وكان القوم فِي مجاعة، فأما اليوم فلو قام
رجوت.

وهذه الرواية تدل عَلَى أن تقديم الأكل عَلَى الصلاة مختص بحال مجاعة النَّاس عموماً، وشدة توقانهم بأجمعهم إلى الطعام، وفي هَذَا نظر.

وقد يستدل لَهُ بما رَوَى مُحَمَّد بْن ميمون الزعفراني، عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد، عَن أبيه، عَن جابر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يؤخر الصلاة لطعام ولا غيره.

وخرجه الطبراني، ولفظه: لَمْ يكن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر صلاة المغرب لعشاء ولا غيره.
وهذا حَدِيْث ضَعِيف لا يثبت.

ومحمد بْن ميمون هَذَا، وثقة ابن معين وغيره.
.

     وَقَالَ  البخاري والنسائي: منكر الحَدِيْث.

وروى سلام بْن سُلَيْمَان المدائنى: ثنا ورقاء بْن عُمَر، عَن ليث بْن أَبِي سليم، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا حضر العشاء والصلاة فابدءوا بالصلاة) ) .

خرجه تمام الرَّازِي فِي ( ( فوائده) ) ،.

     وَقَالَ : هكذا وقع فِي كتابي، وَهُوَ خط.

وليث بْن أَبِي سليم ليس بالحافظ، فلا تقبل مخالفته لثقات أصْحَاب نَافِع؛ فإنهم رووا: ( ( فابدءوا بالعشاء) ) كما تقدم.
وسلام المدائني ضَعِيف جداً.

والقول الثاني: نقل حَنْبل، عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ أخذ من طعامه لقمةً أو نحو ذَلِكَ فلا يقوم إلى الصلاة فليصلي، ثُمَّ يرجع إلى العشاء؛ لأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يحتز من كتف الشاة، فألقى السكين وقام.

وكذا نقل عَنْهُ ابنه عَبْد الله والأثرم.

وحاصل هَذَا القول: إن كَانَ أكل شيئاً من الطعام، ثُمَّ أقيمت الصلاة قام إليها، وترك الأكل، وإن لَمْ يكن أكل شيئاً أكل مَا تسكن بِهِ نفسه ثُمَّ قام إلى الصلاة، ثُمَّ عاد إلى تتمة طعامه.

وصرح بذلك الأثرم فِي ( ( كِتَاب الناسخ والمنسوخ) ) ، واستدل بحديث عَمْرِو ابن أمية الضمري، وقد خرجه البخاري فِي الباب الذي يلي هَذَا.
وروي نحوه من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة وجابر بْن عَبْد الله.

وفي هذه الأحاديث: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يحتز من كتف شاة، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى السكين ثُمَّ قام إلى الصلاة.

وقد ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أَنَّهُ إذا سَمِعَ الإقامة م يشبع من طعامه، بل يأكل مَا يكسر بِهِ سورة جوعه.

وحديث ابن عُمَر صريح فِي رد ذَلِكَ، وأنه لا يعجل حَتَّى يفرغ من عشائه.

والقول الثالث: عكس الثاني، نقله حرب عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ قَدْ أكل بعض طعامه، فأقيمت الصلاة، فإنه يتم أكله، وإن كَانَ لَمْ يأكل شيئاً فأجب أن يصلي.

وقد يعلل هَذَا بأنه إذا تناول شيئاً من طعامه فإن نفسه تتوق إلى تمامه، بخلاف من لَمْ يذق مِنْهُ شيئاً؛ فإن توقان نفسه إليه أيسر.

وفي المسألة قَوْلِ آخر، وَهُوَ الجمع بَيْن أحاديث هَذَا الباب، وبين حَدِيْث عَمْرِو بْن أمية، وما فِي معناه من طرح النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السكين من يده، وقيامة إلى الصلاة بالفرق بَيْن الإمام والمأمومين، فإذا دعي الإمام إلى الصلاة قام وترك بقية طعامه؛ لأنه ينتظر، ويشق عَلَى النَّاس عِنْدَ اجتماعهم تأخره عنهم، بخلاف آحاد المأمومين، وهذا مسلك البخاري، كما سيأتي ذَلِكَ فِي الباب الَّذِي يلي هَذَا.

وبكل حال؛ فلا يرخص مَعَ حضور الطعام فِي غير ترك الجماعة، فأما الوقت فلا يرخص بذلك فِي تفويته عِنْدَ جمهور العلماء، ونص عَلِيهِ أحمد وغيره.

وشذت طائفة، فرخصت فِي تأخير الصلاة عَن الوقت بحضور الطعام – أَيْضاً -، وَهُوَ قَوْلِ بعض الظاهرية، ووجه ضَعِيف للشافعية، حكاه المتولى وغيره.

وقد رَوَى المروزي أن أحمد احتجم بالعسكر، فما فرغ إلا والنجوم قَدْ بدت، فبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فما فرغ دخل حَتَّى وقت العشاء، فتوضأ وصلى المغرب والعشاء.

قَالَ القاضي فِي ( ( خِلافَه) ) : يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مسافراً؛ لأن المراد بالعسكر سامراء، وكان قَدْ طلبه المتوكل إليها.
أَنَّهُ خاف عَلَى نفسه من تأخير العشاء المرض؛ لضعفه بالحجامة.

وَقَالَ ابن عقيل: يحتمل أَنَّهُ كَانَ مريضاً أو ناسباً.
قَالَ: ومع هذه الاحتمالات لا يؤخذ من ذَلِكَ مذهب يخالف مذهب النَّاس.

ومتى خالف، وصلى بحضرة طعام تتوق نفسه إليه فصلاته مجزئه عند جميع العلماء المعتبرين، وقد حكى الإجماع عَلَى ذَلِكَ ابن عَبْد البر وغيره، وإنما خالف فِيهِ شذوذ من متأخري الظاهرية، لا يعبأ بخلافهم الإجماع القديم.

وفي أحاديث هَذَا الباب: دليل عَلَى أن وقت المغرب متسع، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فِيهِ عَن أول الوقت، ولولا ذَلِكَ لَمْ يأمر بتقديم العشاء عَلَى صلاة المغرب من غير بيان لحد التأخير؛ فإن هَذَا وقت حاجة إلى البيان، فلا يجوز تأخيره عَنْهُ.
والله أعلم.