فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة

باب
إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ اَوْ سُتْرَةٌ
وقال الحسنُ: لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر.

وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ.

مرادُ البخاري بهذا الباب: أنَّهُ يجوز اقتداء المأمومِ بالإمام، وإن كانَ بينهما طريق أو نهر، أو كانَ بينهما جدار يمنع المأموم مِن رؤية إمامه إذا سمع تكبيره.

فهاهنا مسألتان:
إحداهما:
إذا كانَ بين الإمام والمأموم طريق أو نهر، وقد حكى جوازه في صورة النهر عَن الحسن، وفي صورة الطريق عَن أبي مجلز.

وقال الأوزاعي في السفينتين، يأتم مِن في أحداهما بإمام الأخرى: الصلاة
جائزةٌ، وإن كانَ بينهما فرجةٌ، إذا كانَ أمام الأخرى - وبه قالَ الثوري: نقله ابن المنذر.

وروى الأثرم بإسناده، عَن هشام بن عروة، قالَ: رأيت أبي وحميد بنِ
عبد الرحمن يصليان الجمعة بصلاة الإمام في دار حميدٍ، وبينهما وبين المسجد جدارٌ.

وكره آخرون ذَلِكَ:
روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ، قالَ: قالَ عمر بنِ الخطاب: مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام.

خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ( ( الشافي) ) .

وكره أبو حنيفة وأحمد أن يصلي المأموم وبينه وبين إمامه طريقٌ لا تتصل فيهِ الصفوف، فإن فعل، فقالَ أبو حنيفة: لا تجرئه صلاته.
وفيه عَن أحمد روايتان.

والنهر بصلاة الذِي تجري فيهِ السفن كالطريق عند أحمد.
وعن أحمد جوازه.

واحتج بصلاة أنسٍ في غرفة يوم الجمعة.

فَمِن أصحابه مِن خصه بالجمعة عند الزحام.
والأكثرون لَم يخصُّوه بالجمعة.

وكذلك مذهب إسحاق:
قالَ حربٌ: قلت لإسحاق: الرجل يصلي في داره، وبينه وبين المسجد طريقٌ يمرُّ فيهِ الناس؟ قالَ: لا يعجبني، ولم يرخِّص فيهِ.
قلت: صلاتهُ جائزةٌ؟ قالَ: لو كانت جائزةً كنت لا أقول: لا يعجبني.
قالَ: إلا أن يكون طريق يقوم فيهِ الناس، ويصفون فيهِ للصلاة.
قلت: فإنَّا حين صلينا لَم يمرَّ فيهِ أحدٌ، فذهب إلى أن الصلاة جائزةٌ.

قلت لإسحاق: فرجل صلى وبين يديه نهرٌ يجري فيهِ الماء؟ قالَ: إن كانَ نهراً تجري فيهِ السفن فلا يصلِّ، وإن لَم يكن تجري فيهِ السفن فَهوَ أسهل.

وكره آخرون الصلاة خلف الإمام خارجَ المسجد:
روي عَن أبي هريرة وقيس بنِ عبادةَ، قالا: لا جمعة لمن لَم يصلِّ في المسجد.
ورخصت طائفةٌ في الصلاة في الرحاب المتصلة بالمسجد، منهم: النخعيُّ والشافعيُّ.

وكذلك قالَ مالك، وزاد: أنَّهُ يصلي فيما اتصل بالمسجد مِن غيره.

ذكر في ( ( الموطأِ) ) عَن الثقة عنده، أن الناس كانوا يدخلون حُجَرَ أزواجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلُّون فيها الجمعة.
قالَ: وكان المسجد يضيقُ على أهله.

وحجر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست مِن المسجد، ولكن أبوابها شارعةٌ في المسجد.

قالَ مالك: فَمِن صلى في شيء مِن المسجد أو في رحابه التي تليه، فإن ذَلِكَ مجزئٌ عَنهُ، ولم يزلْ ذَلِكَ مِن أمر الناس، لَم يعبه أحدٌ مِن أهل الفقه.

قالَ مالك: فأما دارٌ مغلقةٌ لا تدخل إلا بإذن، فإنه لا ينبغي لأحد أن يصلي فيها بصلاةِ الإمام يوم الجمعة، وإن قربُت، فإنها ليست مِن المسجد.

وفي ( ( تهذب المدونة) ) .
أن ضابطَ ذَلِكَ: أن ما يُستطرَقُ بغير إذن مِن الدور والحوانيت تجوز الصلاة فيهِ، وما لا يدخل إليهِ إلا بإذن لا يجوز، وأن سائر الصلوات في ذَلِكَ كالجمعة.

وروى الأثرمُ بإسناده، عَن محمد بن عمرو بنِ عطاءٍ، قالَ: صليت معَ ابن عباسٍ في حجرة ميمونةَ زوجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الإمام يوم الجمعة.

وبإسناده، عَن عطاء بنِ أبي ميمونة، قالَ كنت معَ أنسِ بنِ مالك يوم جمعة، فلم يستطع أن يزاحم على أبواب المسجد، فقالَ: اذهب إلى عبد ربِّه ابن مخارقٍ، فقل لَهُ: إن أبا حمزة يقول لك: أتأذن لنا أن نصلي في دارك؟ فقالَ: نعم.
فدخل فصلَّى بصلاة الإمام، والدار عَن يمين الإمام.

فهذا أنسٌ قَد صلى في دار لا تُدخل بغير إذن، وحجر أزواجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هدمها وإدخالها في المسجد لَم تكن تُدخل بغير إذنٍ - أيضاً.

وقد استدل أحمد بالمروي عَن أنس في هَذا في رواية حرب، ورخص في الصلاة في الدار خارج المسجد، وإن كانَ بينها وبين المسجد طريقٌ، ولم يشترط الإمام أحمد لذلك رؤية الإمام، ولا مِن خلفه، والظاهر: أنه اكتفى بسماعِ التكبير.

واشترط طائفة مِن أصحابه الرؤية.
واشترط كثيرٌ مِن متقدميهم اتصال الصفوف في الطريق.

وشرطه الشَافِعي - أيضاً - قالَ في رواية الربيع فيمن كانَ في دار قرب المسجد، أو بعيداً منهُ: لَم يجز لَهُ أن يصلي فيها، إلا أن تتصل الصفوف بهِ، وَهوَ في أسفل
الدار، لا حائل بينه وبين الصفوف.

واستدلَّ بقول عائشة - مِن غير إسناد -، وتوقف في صحته عنها.

وذكره بإسناده في رواية الزعفراني، فقالَ: حدثنا إبراهيم بنِ محمد، عَن ليثٍ، عَن عطاء، عَن عائشة، أن نسوةً صلْين في حجرتها، فقالت: لا تصلِّين بصلاة الإمام؛ فإنكنَّ في حجابٍ.

وهذا إسناد ضعيفٌ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته.

المسألة الثانية:
إذا كانَ بين المأموم والإمام حائلٌ يمنع الرؤية، فَقد حكى البخاري عَن أبي مجلَزٍ أنه يجوز الاقتداء بهِ إذا سمع تكبير الإمام.
وأجازه أبو حنيفة وإسحاق.
قالَ إسحاق: إذا سمع قراءته واقتدى بهِ.

وقد تقدم كلام الشافعي في منعه، واستدلاله بحديث عائشة.
قالَ الشَافِعي: هَذا مخالف للمقصورة، المقصورة شيء مِن المسجد، فَهوَ وإن كانَ حائلاً بينه وبين ما وراءَها، فإنما هو كحول الأصطوانِ أو أقلَّ، وكحول صندوق المصاحف وما أشبهَهَ.

وحاصلُه: إن صلَّى في المسجد وراء الإمام لَم يشترط أن يرى فيهِ الإمام بخلاف مِن صلَّى خارج المسجد.

وحكى أصحابنا روايتين عَن أحمد فيمن صلَّى في المسجد بسماعِ التكبير، ولم يرَ الإمام ولا مَنْ خلفهُ: هل يصح اقتداؤهُ بهِ، أو لا؟
وحكوا روايةً ثالثةً: أنَّهُ يصحُّ اقتداؤه بهِ، سواء صلى معه في المسجد، أو صلى خارجاً مِن المسجد.

قالَ أحمد في رواية حنبلٍ: إذا صلَّى الرجلُ وَهوَ يسمع قراءة الإمام في دار أو في سطح بيته كانَ ذَلِكَ مجزئاً عَنهُ، وفي الرحبة.

قالَ أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ( ( الشافي) ) : ذَلِكَ جائزٌ إذا اتصلت الصفوف، وعلم التكبير والركوع والسجود، وأن لا يكون الدار والسطح مقدم القبلة، ولا فوق الإمام؛ فإنهم لا يمكنهم الاقتداء بهِ ولا اتباعه، ولا يعرفون ركوعه ولا
سجوده، وكذلك في الرحاب والطرق تجوز الصلاة في ذَلِكَ إذا اتصلت الصفوف، ورأى بعضهم بعضاً، ولو أغلقت دونهم الأبواب، وارتفعت الشبابيك بينهم، أو كانَ عليها أبواب تُغلقُ، فلا يلحظون الصفوف، ولا يرى بعضُهم بعضاً - يعني: أنَّهُ لا يصح اقتداؤهم بالإمام - قالَ: وَهوَ مذهب أبي عبد الله.
انتهى ما ذكره.

وَهوَ مبني على اشتراط الرؤية خارجَ المسجد، وفيه خلافٌ سبق ذكره.

وحُكي عن أحمد رواية: أن الحائل المانع للرؤية، والطريق الذِي لا تتصل فيهِ الصفوف يمنع الاقتداء في الفرض دونَ النفل.

وحُكي عَنهُ: أنه لا يمنع في الجمعة في حال الحاجة إليهِ خاصةً.

وحُكي عَنهُ: إن كانَ الحائل حائِطَ المسجد لَم يمنع، وإلا منع.

وإن كانَ الحائل يمنع الاستطراق دونَ الرؤية لَم يمنع.

وفيه وجهٌ: يمنع، وحكاه بعضهم روايةً.

خرج البخاري في هَذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
[ قــ :708 ... غــ :729 ]
- حدثنا محمد: ثنا عبدةُ، عَن يحيى بنِ سعيد الأنصاريِّ، عَن عَمرةَ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلي مِن الليل في حجرته، وجدار الحجرة قَصير، فرأى الناس شَخْص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أُناسٌ يُصلونَ بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلته الثَّانية، فقام معه أُناسٌ يصلون بصلاته، صنعوا ذَلِكَ ليلتين - أو ثلاثاً -، حتى إذا كانَ بعد ذَلِكَ جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذَلِكَ الناس، فقالَ:
( ( إنِّي خَشيت أن تكتبُ عليكم صلاةُ الليلِ) ) .
ليسَ في هَذهِ الرواية: دليل على جواز الائتمام مِن وراء جدارٍ يحول بين المأموم وبين رؤية إمامه؛ فإنَّ في هَذا التصريح بأن جدار الحجرة كانَ قصيراً، وأنهم كانوا يرونَ منهُ شخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومثلُ هَذا الجدار لا يمنع الاقتداء.

لكن؛ روى هَذا الحديث هُشيمٌ، عَن يحيى بنِ سعيد، فاختصر الحديث، وقال فيهِ: صلَّى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجرته، والناس يأتمون به مِن وراء الحجرة.

وهذا مختصر.

وقد أتم الحديث عبدة بنِ سليمان وعيسى بن يونس وغيرهما، عَن يحيى بنِ
سعيد، وذكروا فيهِ: أن جدار الحجرة قصير، وأن الناس كانوا يرون شخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.