فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: هل يقال مسجد بني فلان؟

باب
هل يقال: مسجد بني فلان
ابتدأ البخاري - رحمه الله - من هنا في ذكر المساجد وأحكامها، فأول ما ذكره من ذلك: أنه يجوز نسبة المساجد إلى القبائل؛ لعمارتهم إياها، أو مجاورتهم لها.

وقد كره ذَلِكَ بعض المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .

والصحيح: أن الآية لم يرد بها ذلك، وأنها نزلت في النهي عن أن يشرك بالله في المساجد في عبادته غيره، كما يفعل أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم.

وقيل: إن المراد بالمساجد الأرض كلها؛ فإنها لهذه الأمة مساجد وهي كلها
لله، فنهى الله أن يسجد عليها لغيره.

وقيل: إن المراد بالمساجد أعضاء السجود نفسها، وهي لله؛ فإنه هو خلقها وجمعها وألفها، فمن شكره على هذه النعمة أن لا يسجد بها لغيره.

وقد قيل: إن قوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] يدل - أيضا - على أنه لا يجوز إضافة المساجد إلى مخلوق إضافة ملك واختصاص.
وأخذ بعض أصحابنا من ذلك كالوزير ابن هبيرة: أنه لا يجوز نسبة شيء من المساجد إلى بعض طوائف المسلمين للاختصاص بها، فيقال: هذه المساجد للطائفة الفلانية، وهذه للطائفة الأخرى، فإنها مشتركة بين المسلمين عموما.

وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا في صحة اشتراط ذلك في وقفها وجهين.

وأما إضافة المسجد إلى ما يعرفه به فليس بداخل في ذلك، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيف مسجده إلى نفسه، فيقول: ( ( مسجدي هذا) ) ، ويضيف مسجد قباء إليه، ويضيف مسجد بيت المقدس إلى إيلياء، وكل هذه إضافات للمساجد إلى غير الله لتعريف أسمائها، وهذا غير داخل في النهي.
والله أعلم.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :412 ... غــ :420 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.
وجه الاستدلال من هذا الحديث على ما بوبه: أن فيه إضافة المسجد إلى بني زريق، وهذا وإن كان من قول عبد الله بن عمر ليس مرفوعا، إلا أن تعريف المسجد بذلك يدل على اشتهاره بهذه الإضافة في زمن المسابقة، ولم يشتهر في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين شيء إلا وهو غير ممتنع؛ لأنه لو كان محضورا لما أقر عليه، خصوصا الأسماء؛ فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغير أسماء كثيرة يكرهها من أسماء الأماكن والآدميين، ولم يغير هذا الاسم للمسجد، فدل على جوازه.

ولقائل أن يقول: يجوز أن اشتهار المسجد بهذا الاسم لم يكن في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلية، فلا يبقى في الحديث دلالة، وهذا كما قال أنس في حديث الاستسقاء: دخل رجل المسجد من نحو دار القضاء، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، وقد قالوا: إنما عرفت تلك الدار بهذا الاسم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزمن.

وأحسن من هذا: الاستدلال بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في سواه) ) - وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -؛ فإن هذا تصريح من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإضافة المسجد إلى نفسه، وهو إضافة للمسجد إلى غير الله في التسمية، فدل على جواز إضافة المساجد إلى من بناها وعمرها.
والله أعلم.

وسائر ما يتعلق بالحديث من ألفاضه المختلفة وتفسير غريبها، وما فيه من أحكام المسابقة ليس هذا موضعها، وله موضع أخر يأتي فيه - إن شاء الله تعالى.