فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل استقبال القبلة

باب
فضل استقبال القبلة
يستقبل بأطراف رجليه القبلة -: قاله أبو حميد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

حديث أبي حميد هذا، خرجه البخاري بإسناده بتمامه في ( ( أبواب صفة الصلاة) ) ، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد استقبل بأطراف رجليه القبلة.

وخرج ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث عائشة، قالت: فقدت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود، ناصبا
قدميه، مستقبلا بأطراف أصابعه القبلة.

وخرجه مسلم، ولفظه: ( ( وهو في المسجد، وهما منصوبتان) ) .

وقال ابن جريج: عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، ما رأيت مصليا كهيئة عبد الله بن عمر، أشد استقبالا للكعبة بوجهه وكفيه وقدمه.

وروى نافع، عن ابن عمر، قال: إذا سجد أحدكم فليستقبل بيديه القبلة؛ فإنهما يسجدان مع الوجه.
وروي عنه، قال: كان ابن عمر إذا صلى استقبل القبلة بكل شيء، حتى
بنعليه.

وروى سالم عن ابن عمر، أنه كره أن يعدل كفيه عن القبلة.

وروى المسعودي، عن عثمان الثقفي، أن عائشة رأت رجلا مائلا كفيه عن القبلة، فقالت: اعدلهما إلى القبلة.

وروى حارثة بن محمد - وفيه ضعف -، عن عمرة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد وضع يديه وجاه القبلة.

خرجه ابن ماجه.

واستحب ذلك كثير من السلف، منهم: سالم والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين.

وقال حفص بن عاصم: هو من السنة.

قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - في صلاته، فرأيته يفتخ أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة ويجعل بطون أصابع رجله اليمنى مما يلي الأرض.

قال: والفتخ - يعني: بالخاء المعجمة - هو أن يكسر أصابعه فيثنيها حتى تكون أطرافها مواجهة للقبلة، ولو لم يفعل ذلك كانت أطرافها إلى غير القبلة.

وفي حديث أبي حميد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد فتخ أصابع رجليه.

خرجه أبو داود والترمذي.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :387 ... غــ :391 ]
- حدثنا عمرو بن عباس: ثنا ابن مهدي: ثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا تخفروا الله في ذمته) ) .



[ قــ :388 ... غــ :39 ]
- وحدثنا نعيم، قال: حدثنا ابن المبارك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل) ) .



[ قــ :388 ... غــ :393 ]
- وقال علي بن عبد الله: ثنا خالد بن الحارث، ثنا حميد، قال: سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك فقال: يا أبا حمزة، ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم.

وقال ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: ثنا حميد: ثنا أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
هذا الحديث قد خرجه البخاري من طريقين:
أحدهما: من رواية منصور بن سعد، عن ميمون بن سياه، عن أنس مرفوعا.

وميمون بن سياه، بصري اختلف فيه، فضعفه ابن معين، ووثقه أبو حاتم الرازي.

والثاني: من رواية حميد، عن أنس - تعليقا - من ثلاثة أوجه، عنه.
وفي بعض النسخ أسنده.

من أحدها: عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن حميد، عن أنس، ورفعه.

والثاني: علقه عن ابن المديني، عن خالد بن الحارث، عن حميد، أن ميمون بن سياه سأل أنسا - فذكره، ولم يرفعه، جعله من قول أنس.

والثالث: علقه، عن ابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب: ثنا حميد: ثنا أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصرح فيه بسماع حميد له من أنس، ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ومقصود البخاري بهذا: تصحيح رواية حميد، عن أنس المرفوعة.

وقد نازعه في ذلك الإسماعيلي، وقال: إنما سمعه حميد من ميمون بن سياه، عن أنس.
قال: ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: ( ( ثنا حميد: ثنا أنس) ) ؛ فإن عادة الشاميين والمصريين جرت على ذكر الخبر فيما يروونه؛ لا يطوونه طي أهل العراق.

يشير إلى أن الشاميين والمصريين يصرحون بالتحديث في رواياتهم، ولا يكون الإسناد متصلا بالسماع.

وقد ذكر أبو حاتم الرازي عن أصحاب بقية بن الوليد أنهم يصنعون ذلك كثيرا.

ثم استدل الإسماعيلي على ما قاله بما خرجه من طريق عبيد الله بن معاذ: ثنا أبي: ثنا حميد، عن ميمون بن سياه، قال: سألت أنسا: ما يحرم دم المسلم وماله؟ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - الحديث.

قال: وما ذكره عن علي بن المديني عن خالد بن الحارث فهو يثبت ما جاء به معاذ بن معاذ؛ لأن ميمون هوَ الذي سأل، وحميد منه سمع.
والله أعلم.
انتهى ما
ذكره.

ورواية معاذ بن معاذ، عن حميد، عن ميمون، عن أنس موقوفة.

وقد ذكر الدارقطني في ( ( العلل) ) أنها هي الصواب، بعد أن ذكر أن ابن المبارك ويحيى بن أيوب ومحمد بن عيسى بن سميع رووه عن حميد، عن أنس مرفوعا.

قال: وذكر هذا الحديث لعلي بن المديني، عن ابن المبارك.
فقال: أخاف أن يكون هذا وهما، لعله: حميد، عن الحسن - مرسلا.

قال الدارقطني: وليس كذلك؛ لأن معاذ بن معاذ من الأثبات.
وقد رواه كما ذكرنا - يعني: عن حميد، عن ميمون، عن أنس موقوفا.

وقد خرجه أبو داود في ( ( سننه) ) من طريق يحيى بن أيوب كما أشار إليه
البخاري.

وخرجه أبو داود - أيضا - والترمذي والنسائي من طريق ابن المبارك وحسنه الترمذي وصححه وغربه، وذكر متابعة يحيى بن أيوب له.

وخرجه النسائي - أيضا - من طريق محمد بن عيسى بن سميع: ثنا حميد عن أنس ورفعه.

ومن طريق محمد بن عبد الله الأنصاري: ثنا حميد، قال: سأل ميمون بن سياه أنسا، فقال: يا أبا حمزة، ما يحرم دم المسلم وماله - فذكره موقوفا، ولم يرفعه.

وهذه مثل رواية خالد بن الحارث التي ذكرها البخاري، عن ابن المديني، عنه، وقد جعلا ميمون بن سياه سائلا لأنس، ولم يذكرا أن حميدا رواه عن ميمون، ولعل قولهما أشبه.
وتابعهما معاذ بن معاذ على وقفه، إلا أنه جعله: ( ( عن حميد، عن ميمون، عن أنس) ) ، وهو الصحيح عند الإسماعيلي والدارقطني كما سبق.

وأما رفعه مع وصله، فقد حكى الدارقطني عن ابن المديني أنه أنكره.

وكذا نقل ابن أبي حاتم، عن أبيه، أنه قال: لا يسنده إلا ثلاثة أنفس: ابن المبارك ويحيى بن أيوب وابن سميع.

يشير إلى أن غيرهم يقفه ولا يرفعه، كذا قال.

وقد رواه أبو خالد الأحمر، عن حميد، عن أنس - مرفوعا.

خرج حديثه الطبراني وابن جرير الطبري.

وروى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى المنذر بن ساوى: ( ( أما بعد؛ فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله والرسول) ) .

خرجه أبو عبيد.

وهو مرسل.

وقد دل هذا الحديث على أن الدم لا يعصم بمجرد الشهادتين، حتى يقوم بحقوقهما، وآكد حقوقهما الصلاة؛ فلذلك خصها بالذكر.
وفي حديث آخر أضاف إلى الصلاة الزكاة.

وذكر استقبال القبلة إشارة إلى أنه لا بد من الإتيان بصلاة المسلمين المشروعة في كتابهم المنزل على نبيهم وهي الصلاة إلى الكعبة، وإلا فمن صلى إلى بيت المقدس بعد نسخه كاليهود أو إلى المشرق كالنصارى فليس بمسلم، ولو شهد بشهادة التوحيد.

وفي هذا دليل على عظم موقع استقبال القبلة من الصلاة؛ فإنه لم يذكر من شرائط الصلاة غيرها، كالطهارة وغيرها.

وذكره أكل ذبيحة المسلمين، فيه إشارة إلى أنه لا بد من التزام جميع شرائع الإسلام الظاهرة، ومن أعظمها أكل ذبيحة المسلمين، وموافقتهم في ذبيحتهم، فمن امتنع من ذلك فليس بمسلم.

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمتحن أحيانا من يدخل في الإسلام، وقد كان يرى في دينه الأول الامتناع من أكل بعض ذبيحة المسلمين، بإطعامه مما كان يمتنع من أكله؛ ليتحقق بذلك إسلامه.

فروي أنه عرض على قوم - كانوا يمتنعون في جاهليتهم من أكل القلب، ثم دخلوا في الإسلام - أكل القلب، وقال لهم: ( ( أن إسلامكم لا يتم إلا بأكله) ) .

فلو أسلم يهودي، وأقام ممتنعا من أكل ذبائح المسلمين، كان ذلك دليلا على عدم دخول الإسلام في قلبه، وهذا الحديث يدل على أنه لا يصير بذلك مسلما.

ويشهد لذلك: قول عمر فيمن أسلم من أهل الأمصار وقدر على الحج ولم
يحج، أنه هم بضرب الجزية عليهم، وقال: ما هم بمسلمين.
وحكي عن الحسن بن صالح، أن المسلم إذا أسلم بدار الحرب، وأقام بها مع قدرته على الخروج، فهو كالمشرك في دمه وماله، وأنه أن لحق المسلم بدار الحرب وأقام بها صار مرتدا بذلك.

وقوله: ( ( فذلك المسلم، له ذمة الله ورسوله) ) .
الذمة: العهد، وهو إشارة إلى ما عهده الله ورسوله إلى المسلمين بالكف عن دم المسلم وماله.

وقوله: ( ( فلا تخفروا الله في ذمته) ) ، أي: لا تغدروا بمن له عهد من الله
ورسوله، فلا تفوا له بالضمان، بل أوفوا له بالعهد.

وهو مأخوذ من قولهم: أخفرت فلانا، إذا غدرت به، ويقولون: خفرته، إذا حميته.