فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا صلى خمسا

باب إذا صلى خمسا
[ قــ :1182 ... غــ :1226 ]
- حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة،
عن عبد الله، أن رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى الظهر خمسة، فقيل له: أزيد في الصلاة؟
قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت
خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم.

وقد خرجه البخاري في " أبواب استقبال القبلة " - فيما مضى -، من
رواية
منصور، عن إبراهيم بهذا الإسناد، بسياق مطول، وفي حديثه: قال
إبراهيم: " لا أدري زاد أو نقص ".

وذكر
في الحديث: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد سجدتين، ثم سلم.

وزاد في آخر الحديث: " وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
الصواب،
فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين ".

وخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن إبراهيم، به،
ولفظه: صلى
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فزاد أو نقص - قال إبراهيم: الوهم مني - فقيل: يا رسول
الله: أزيد في الصلاة
شيء؟ قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا
نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس "، ثم تحول
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فسجد
سجدتين.

وقد اتفقت الروايات عن إبراهيم في هذا الحديث: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لما ذكر
بسهوه
لم يزد على أن سجد سجدتين.

وهذا يدل على أنه كان سهوه بزيادة ولا بنقص، فإنه لو كان سهوه بنقص
لأتى بما نقص من صلاته ثم سجد، فلما
اقتصر على سجدتي السهو دل على أن
صلاته كانت قد تمت، وأن السهو كان في الزيادة فيها.

ولكن رواه أبو
بكر الحنفي، عن مسعر، عن منصور، وقال في حديثه:
ثم قام النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فأتم صلاته، وسجد سجدتين بعد ما سلم.

وذكر إتمامه صلاته زيادة [غير] محفوظة، لم يقلها غير أبي بكر
الحنفي، وهو ثقة يتفرد بغرائب، ولم يتابع
على هذه الزيادة.

وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سويد النخعي، عن علقمة، عن
ابن مسعود، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
صلى بهم الظهر خمسا، فلما انفتل توشوش القوم
بينهم.
فقال: " ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله، هل زيد في
الصلاة؟
قال: " لا "، قالوا، فإنك قد صليت خمسا، فانفتل، ثم سجد سجدتين، ثم
سلم، ثم قال: " إنما أنا بشر
مثلكم، أنسى كما تنسون ".

خرجه مسلم.

وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد -: " فإذا نسي أحدكم فليسجد
سجدتين ".
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق أبي بكر النهشلي، عن عبد الرحمن بن
الأسود، عن أبيه، عن
عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] خمسا،
فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: " وما ذاك؟ " قالوا
: صليت
خمسا.
قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون "،
ثم سجد سجدتي السهو.

وإلى هذا الحديث ذهب جمهور أهل العلم، وأنه إذا صلى رباعية خمسا
أو أكثر من ذلك
، أو المغرب أربعا أو أكثر، أو الفجر ثلاثا أو أكثر، ثم ذكر بعد
سلامه أنه يسجد سجدتي السهو، وتجزئه صلاته.

وروي ذلك عن علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي، وهو قول مالك
والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد
وإسحاق وأبي ثور، وفقهاء أهل الحديث
جملة.

وقالت طائفة: إن لم يكن قعد بعد الركعة الأخيرة من صلاته قدر
التشهد
فسدت صلاته، وعليه الإعادة، وإن كان قعد عقيب انقضاء صلاته قدر التشهد
أجزأه، وهو قول جماعة من
الكوفيين، منهم: حماد وأبو حنيفة والثوري.

وقالوا: إذا لم يذكر حتى سجد في الخامسة، ولم يكن قعد عقيب
الرابعة
تحولت صلاته نفلا، وشفعها بسادسة.

ولو لم يشفعها جاز عند أبي حنيفة وأصحابه إلا عند زفر؛ فإنه لا
بد أن
يشفعها؛ لأنه بتلبسه بالخامسة لزمه إتمام ما شرع فيه من النفل.

وإن كان جلس عقيب الرابعة، ثم ذكر بعد
تمام الخامسة ضم إليها ركعة
أخرى، وكانت الركعتان نافلة.

واختلف الحنفية: هل تجزئانه من سنة الصلاة بعدها
، أو لا؟
واستدل الجمهور بحديث ابن مسعود، وقد روي عنه أنه عمل بمقتضاه،
وكذلك عمل به علقمة راوية
عنه، وهما أعلم بمدلول ما روياه.

والظاهر: أنه لم يكن قعد عقيب الرابعة؛ لأنه قام إلى الخامسة معتقدا أنه
قام
عن ثالثة، ولأن هذا زيادة في الصلاة من جنسها سهوا، فلا تبطل به
الصلاة، كما لو ذكر قبل أن يسجد في الخامسة، فإن هذا قد وافقوا عليه، وأن
صلاته لا تبطل بذلك، وأنه يرجع
فيتشهد ويسلم، وتجزئه صلاته، ولا فرق
في هذا بين صلاة وصلاة.

وحكي عن قتادة والأوزاعي: أن من صلى
المغرب أربعا، ثم ذكر، أنه
يأتي بخامسة، يقطعها على وتر.

وروى جابر، الجعفي، عن الشعبي وسالم والقاسم
وعطاء - في رجل
صلى المغرب أربعا -، قالوا: يعيد.

قال أحمد: إنما يرويه جابر.

يعني: أنه تفرد به،
وهو ضعيف مشهور.

وذهب بعض المالكية إلى أن من زاد في صلاته مثل نصفها سهوا، أن
صلاته تبطل.
ورد
ابن عبد البر ردا بليغا.

وروى زياد بن عبيد الله الزيادي، عن حميد، عن أنس، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
صلى الظهر ست
ركعات.

وروى ابن وهب في " مسنده "، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية،
أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى الظهر
سبع ركعات، وعليه حلة حرير، أهداها له أكيدر
دومة، فلما انصرف نزعها، وقال: " إني نظرت إليها، فألهتني
عن صلاتي ".

وهذا مرسل.

وفي الحديث: دليل على أنه يسجد للسهو، إذا لم يذكره إلا بعد السلام،
وإن
كان قد تكلم بينهما، وبهذا قال علقمة وعطاء والثوري والشافعي وإسحاق
وأحمد.

لأن السجود مرسل هنا، منقول بعد السلام، فلا يمنع الكلام فعله،
كالتكبير في أيام التشريق، هكذا علله بعض
أصحابنا.

ويقتضي ذلك: أنه لا يمنع السجود فيه إن تكلم بعد ذكره عمدا.

وفي بعض روايات حديث ابن مسعود
ما يدل على ذلك، وأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
تكلم بعد تذكيرهم له بزيادته، ثم سجد.

وقال أبو حنيفة: متى تكلم لم يسجد؛
لأن الكلام ينافي الصلاة.

واختلفوا: هل يعتبر أن لا يطول الفصل بين السلام من الصلاة والسجود،
أم لا؟ وفيه
قولان:
أحدهما: يعتبر ذلك، فإن طال الفصل امتنع السجود؛ لأن سجود السهو
تكملة للصلاة، فلا يبنى عليها
مع طول الفصل، كسائر أفعال الصلاة، وهذا
قول الشافعي - في أصح قوليه، وهو الجديد منهما - وأحمد - في
إحدى
الروايتين.

واعتبر - أيضا - ألا يكون خرج من المسجد، وعليه أكثر أصحابه.

ومنهم من لم يعتبره،
وهو قول الشافعي وأصحابه، وهو رواية أخرى من
أحمد، ومذهب الثوري وغيره من العلماء.
لا
يعتبر قرب الفصل، بل يسجد وإن طال الفصل، وهو قول
الضحاك ويحيى بن سعيد والثوري ومكحول والأوزاعي
والحسن بن حي
والشافعي - في قوله الآخر - وأحمد - في الرواية الأخرى.

لأنه جبران، يفعل بعد التحلل من
العبادة، فيجوز فعله بعد طول الزمان
كجبران الحج.

وقال مالك: إن كان السجود بعد السلام جاز فعله إذا ذكره
، وإن طال
الزمان، وإن كان قبل السلام لم يفعله إلا مع قرب الفصل، فإن تباعد أعاد
الصلاة؛ لأنه جزء من الصلاة.

وروى ابن وهب، عن مالك، أنه يفعله مطلقا، وإن طال الزمان، ما لم
ينتقض وضوؤه.

وعن ابن شبرمة
والحكم: يسجد ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج أعاد
الصلاة.

وقال أبو حنيفة: يسجد ما لم يخرج من المسجد أو يتكلم.

وقال عطاء: يسجدهما ما لم يتم، ولو اتكأ، ثم ذكر، جلس فسجد،
وإن قام فليصل ركعتين، ولا
يسجد للسهو.

وقال الليث بن سعد: يسجد ما لم ينتقض وضوؤه.

وعن الحسن وابن سيرين: يسجد ما لم
يصرف وجهه عن قبلته، فإن صرفه
لم يسجد.

وحديث ابن مسعود صريح في رد هذا، وقد سبق القول فيه في "
أبواب
استقبال القبلة ".

وللشافعية وجه: أنه لا يسجد مع قرب الفصل - أيضا -؛ لفوات محله،
وهو قبل
السلام عندهم.

قال بعضهم: وهذا غلط؛ لمخالفته للسنة.

قالوا: وهل يكون هذا السجود عائدا إلى حكم الصلاة
؟ فيه وجهان.

ولهما فوائد:
منها: لو تعمد الكلام في هذا السجود والحديث، فإن قيل: إنه عائد إلى
الصلاة
بطلت صلاته، وعلى الآخر لا تبطل.

ومنها: إن قيل: عائد إلى الصلاة، لم يكبر الافتتاح، ولم يتشهد، بل
يسلم بعد السجود، وعلى الآخر يكبر للافتتاح.

وفي تشهده وجهان، أصحهما: لا يتشهد؛ لأنه لم يصح فيه عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
شيء.

قالوا: ويسلم على
الصحيح، سواء تشهد أو لا؛ للأحاديث الصحيحة
المصرحة بأنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد ثم سلم.

ومذهب الثوري إذا أحدث في
سجدتي السهو لم تبطل صلاته، وليست
بمنزلة الصلاة.

واستدل طائفة بهذا الحديث على من زاد في صلاته
سهوا، فإنه يسجد لذلك
بعد السلام؛ لأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد بعد السلام، وهذا قول مالك وأبي ثور ورواية
عن أحمد.

وحكي عن أحمد: أن زيادة عدد الركعات خاصة يسجد لها بعد السلام
مطلقا - وهو الذي حكاه الترمذي في " جامعه "
عن أحمد، وحكى
القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين - لو ذكر قبل السلام، أنه يسلم ثم يسجد
بعد السلام.

وقد
ذهب إليه بعض أهل الحديث.

والذي عليه جمهور العلماء: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إنما سجد في حديث ابن مسعود
بعد
سلامه؛ لأنه لم يشعر بسهوه إلا بعد السلام من صلاته، فكان سجوده بعد
السلام؛ فإنه إنما سلم ظانا أن صلاته لا
زيادة فيها، وإنما علم بالزيادة فيها بعد
ذلك.

وقد صرح الإمام أحمد بهذا المعنى في رواية حرب، وغيره.

وسيأتي القول في محل سجود السهو فيما بعد - إن
شاء الله تعالى.