فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب وقت العشاء إلى نصف الليل

باب
وقت العشاء إلى نصف الليل
وقال أبو برزة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب تأخيرها.

حديث أبي برزة، قد خرجه فيما تقدم بألفاظ مختلفة.

ففي رواية عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة.

وفي رواية شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل.
ثم قال: إلى شطر الليل.

وفي رواية: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.

فقد روى شعبة أن أبا المنهال شك: هل كان تأخيره للعشاء إلى ثلث الليل أو نصفه؟
وكذا خرجه مسلم من حديث شعبة.

وخرجه من حديث حماد بن سلمة، عن أبي المنهال، وقال في حديثه: كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل.
وقد تقدم – أيضا – حديث أبي موسى في تأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء حتى ابهار الليل – أي: توسط وانتصف.

قال البخاري:
[ قــ :556 ... غــ :572 ]
- حدثنا عبد الرحيم المحاربي: ثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: أخر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: ( قد صلى الناس وناموا، أماإنكم في صلاة ما انتظرتموها) .

وزاد ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد: سمع أنسا: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ.

هذا الحديث صريح في تأخير العشاء إلى نصف الليل.

وعبد الرحيم المحاربي، هو: ابن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وكان أفضل من أبيه.

وإنما ذكر حديث يحيى بن أيوب، عنه تعليقاً؛ لأنه ذكر فيه سماع حميد له من أنس، فزال ما كان يتوهم من تدليسه؛ فإنه قد قيل: إن أكثر رواياته عن أنس مدلسة.

وقد تقدم عن الإسماعيلي، أنه قال في المصريين: إنهم يتسامحون في لفظة الإخبار بخلاف أهل العراق.
ولفظة السماع قريب من ذلك.
وقد خرج البخاري هذا الحديث في ( اللباس) من رواية يزيد بن زريع، عن حميد، قال: سئل أنس: هل اتخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتماً - فذكره.

ورواه يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، وزاد فيه: فجعل الناس يصلون، فخرج وقد بقيت عصابة، فصلى بهم، فلما سلم أقبل عليهم بوجهه - وذكر باقي الحديث.

خرجه أحمد بن منيع في ( مسنده) ، عن يزيد كذلك.

وخرجه البخاري في ( باب: يستقبل الإمام الناس) .
وكذا مسلم - مختصراً.

وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه أخر:
وخرجه البخاري في أواخر ( المواقيت) من حديث الحسن، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، حتى كان شطر الليل يبلغه، فجاء فصلى لنا، ثم خطبنا، فقال: ( ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) .
وخرج مسلم من حديث قتادة، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة حتى كان قريب من نصف الليل، ثم جاء فصلى، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأنما أنظر إلى وبيض خاتمه في يده من فضة.

ومن حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، أنهم سألوا أنساً عن خاتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطر الليل، ثم جاء فقال: ( إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) .
قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة، ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر.

وفي تأخير العشاء إلى نصف الليل أحاديث أخر، لم تخرج في ( الصحيح) .

وروى داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: ( خذوا مقاعدكم) ، فأخذنا مقاعدنا، فقال: ( إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة في ( صحيحه) .

وإسناده على شرط مسلم، إلا أن أبا معاوية رواه عن داود، فقال: عن أبي نضرة، عن جابر.

والصواب: قول سائر أصحاب داود في قولهم: عن أبي سعيد -: قاله أبو زرعة، وابن أبي حاتم، والدارقطني وغيرهم.

وقد سبق في حديث ابن عباس الذي خرجه البخاري قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هكذا) .

وهذا مما استدل به من قال: إن تعجيل العشاء أفضل؛ لأنه لم يأمرهم بالتأخير، بل أخبر أنه لولا أنه يشق عليهم لأمرهم.
وما كان ليؤثر ما يشق على أمته، فلذلك لم يأمرهم.

وكذلك قوله: ( لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت) ، فإنه يدل على أنه لم يؤخر، وإذا كان الأمر بذلك مستلزماً للمشقة فهو لا يأمر بما يشق عليهم.

وقد تقدم أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يراعي حال المأمومين في تأخير العشاء وتقديمها، فإن اجتمعوا عجل، وإن أبطئوا أخر.
وقد أجاب عن ذلك من قال باستحباب التأخير: أن المنتفي هو أمر الإيجاب، دون أمر الاستحباب، كما في السواك.

وقد خرج النسائي الحديث، وقال فيه: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن لا يصلوها إلا هكذا) .

ويدل على ذلك أن ( لولا) تقتضي جملتين: اسمية، ثم فعلية، فيربط امتناع الثانية فيهما بوجود الأولى، والأولى هنا: خوف المشقة، وهو موجود، فالثانية منتفية، وهو الأمر.

وليس الأمر للإيجاب؛ لأنه ندب إلى تأخيرها، والمندوب مأمور به؛ ولأن في حديث معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( اعتموا بهذه الصلاة) .

خرجه أبو داود.

وهذا أمر.

وهاهنا مسألتان يحتاج إلى ذكرهما:
المسألة الأولى:
هل تأخير العشاء إلى آخر وقتها المختار أفضل؟ أم تعجيلها أفضل؟ أم الأفضل مراعاة حال المأمومين؟
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تعجيلها أفضل، وهو أحد قولي الشافعي، بل أشهرهما، وقول مالك.
وفي ( المدونة) عنه: أنه قال: أحب للقبائل تأخيرها قليلاً بعد مغيب الشفق، وكذلك في الحرس، ولا تؤخر إلى ثلث الليل.

وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه يستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها، إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلاً عنده أفضل.

وروي عنه: أن أول الوقت أفضل في كل الصلوات إلا الظهر في شدة الحر.

ورجح الجوزجاني القول باستحباب تعجيل العشاء، وادعى أن التأخير منسوخ، واستدل بما روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة العشاء الآخرة تسع ليال – وفي رواية: ثمان ليال -، فقال أبو بكر الصديق: لو عجلت يا رسول الله كان أمثل لقيامنا بالليل، فكان بعد ذلك يعجل.

خرجه الإمام أحمد.

وعلي بن زيد جدعان، ليس بالقوي.

وروى سويد بن غفلة، قال: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل.

وقال مكحول: كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس إذا غابت الحمرة ببيت المقدس صلوا العشاء.

خرجهما أبو نعيم.

وهذا منقطع.
والقول الثاني: أن تأخيرها أفضل، وحكاه الترمذي في ( جامعه) عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.

قال عبد الرحمن بن يزيد: كنت أشهد مع عبد الله – يعني: ابن مسعود – الجماعة، فكان يؤخر العشاء.

وكان ابن عباس يستحب تأخير العشاء، ويقرأ: { زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} [هود: 114] .

وممن رأى تأخير العشاء: أبو حنفية وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه – وقيل: إنه نص على ذلك في أكثر كتبه الجديدة -، وأحمد وإسحاق.

وعلى هذا؛ فقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: يكون تأخيرها إلى آخر وقتها المختار أفضل.

والمنصوص عن أحمد: أن تأخيرها في الحضر حتى يغيب البياض؛ لأنه يكون بذلك مصلياً بعد مغيب الشفق المتفق عليه.

وهذا يدل على أن تأخيرها بعد مغيب البياض لا يستحب مطلقاً، أو يكون مراعى بقدر ما لا يشق على الجيران -: كما نقله عنه الأثرم.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: قدر كم تأخير العشاء الآخرة؟ قال: ما قدر ما يؤخر بعد أن لا يشق على الجيران.

فقد نص في رواية غير واحد على أنه يستحب للحاضر تأخير العشاء حتى يغيب البياض من غير اعتبار للمشقة، ونص على أنه يستحب التأخير مهما قدر بحيث لا يشق على الجيران، فيحمل هذا على ما بعد مغيب الشفق الأبيض.

ويدل على صحة هذا، وأن التأخير لا يكون على الدوام إلى نصف الليل ولا إلى ثلثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤخر على الدوام العشاء إلى آخر وقتها، وإنما أخرها ليلة واحدة أو ليالي يسيرة، وشق ذلك على أصحابه فأخبرهم أنه وقتها لولا أن يشق عليهم، ولم يكن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشق عليهم، بل كان يراعي التخفيف.

ولهذا صح عنه، أنه كان أحياناً وأحياناً: إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم ابطئوا أخر.

وحديث أبي بكر المتقدم يدل على مثل ذلك – أيضا.

وخرج ابن خزيمة في ( صحيحه) وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر مواقيت الصلاة، وقال: ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس.

ومما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخرها دائماً قليلاً، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها: ما خرجه مسلم من رواية سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث النعمان بن بشير، قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة – يعني: العشاء -، كان رسو الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها لسقوط القمر لثالثة.

وفي رواية الإمام أحمد: كان يصليها بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة من أول الشهر.

وفي رواية له: كان يصليها مقدار ما يغيب القمر ليلة ثالثة – أو ليلة رابعة.

وهذا الشك من شعبة، ولم يذكر الرابعة غيره.

قال أحمد: وهم فيه – يعني: في ذكر الرابعة.

ومما يدل على اعتبار حال المأمومين، وأنه لا يشق عليهم: ما روى أسامة ابن زيد، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ يتخلف عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا جاء أم قومه، فاحتبس عنهم معاذ ليلة فصلى سليم وحده وانصرف، فأخبر معاذ ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل إلى سليم، فسأله عن ذلك، فقال: إني رجل أعمل نهاري، حتى إذا أمسيت أمسيت ناعساً، فيأتينا معاذ وقد أبطأ علينا، فلما أبطأ عليّ أمسيت، ثم انقلبت إلى أهلي.
قال: فأرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى معاذ: ( لا تكن فاتنا تفتن الناس، ارجع إليهم فصل بهم قبل أن يناموا) .

خرجه البزار.

وخرجه الخرائطي من حديث عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ما بال رجال ينفرون عن هذا الدين، يمسون بعشاء الآخرة) .

وإسناده ضعيف.

وقال سويد بن غفلة: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل، وينام المريض.

فقد تبين بهذا أن هذا القول الثالث، وهو مراعاة حال المأمومين في التأخير الكثير دون اليسير، هو الأرجح في هذا المسألة.

وقد عقد له البخاري باباً منفرداً، سبق ذكره والكلام عليه.

المسألة الثانية:
في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال: أحدها: ربع الليل، حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق.

والقول الثاني: إلى ثلث الليل، روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.

والقول الثالث: إلى نصف الليل، وروي عن عمر بن الخطاب – أيضا -، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور – أيضا.

وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه.

وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا.

والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر.

رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر.

وهو قول داود.

ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار.

وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتداً إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء.

وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف: أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس – أيضا - وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.

وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب.

وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين.

واختلفوا في تأخير العشاء اختياراً إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة.

ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه.

وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز.

واستدل من لم يحرمه بما في ( صحيح مسلم) من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: ( إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) .

وهذا إن كان محفوظاً دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد.

وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله: ( الوقت ما بين هذين) .

ومثل حديث بريدة الذي فيه أن سائلاً سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال: ( ما بين هذين وقت) .

وقد خرجه مسلم.

وخرج نحوه من حديث أبي موسى.

وخرج – أيضا – من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( وقت العشاء إلى نصف الليل) .

وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة.

وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء.

وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة.

وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة.
والله أعلم.