فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه

32 - فصل
خرج البخاري ومسلم من حديث:
[ قــ :43 ... غــ :43 ]
- عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها وعندها امرأة فقال: " من هذه " فقالت : فلانة – تذكر من صلاتها – فقال : " مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ".
وكان أحب الدين إليه: مادام عليه صاحبه.

وقد ورد في رواية أخرى مخرجة في غير هذا الموضع أن هذه المرأة اسمها: الحولاء بنت تويت ( 203 – أ / ف) وأن عائشة قالت عنها: زعموا أنها لا تنام الليل " .
وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مه " زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها وأنها لا تنام الليل وأمر لها بالكف عما قالته في حقها؛ فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح في وجهها؛ حيث كانت المرأة حاضرة، ويحتمل – وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث – أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع وعلى هذا فكثيرا ما يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله، وقد سبق شرح هذا المعنى في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدين يسر " .

فإن المراد بهذا الحديث: الاقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله مادام صاحبه عليه وإن قل.
وقد روي ذلك في حديث آخر.
وكذلك كان حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عمله ديمة، وكان إذا عمل عملا أثبته.
وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قال لعبد الله بن عمرو " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل " .
وقوله " إن الله لا يمل حتى تملوا " .
وفي رواية: " لا يسأم حتى تسأموا " .
الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم.

كما قال الحسن: إن دور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن صاحبي فتر، قال الحسن: أمدوهم – رحمكم الله – بالنفقة.
وأيضا – فإن دوام العمل وإيصاله ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه؛ فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه.

وقد صح هذا المعنى في الدعاء وأن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدع الدعاء، فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء وألح فيه أجيب وإن قطعه واستحسر منع إجابته وسمي هذا المنع من الله مللا وسآمة مقابلة للعبد على ملله وسآمته، كما قال تعالى { نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانا مقابلة لنسيانهم له.
هذا أظهر ماقيل في هذا.
ويشهد له: أنه قد روي من حديث عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ".
خرجه بقي بن مخلد؛ وفي إسناده: موسى بن عبيدة.
وقد قيل: إن " حتى " هاهنا بمعنى واو العطف؛ ولكن لا يصح دعوى كون " حتى " عاطفة؛ لأنها إنما تعطف المفردات لا الجمل، هذا هو المعروف عند النحويين، وخالف فيه بعضهم.
وقيل: إن " حتى " فيه بمعنى " حين "، وهذا غير معروف.
وزعم ابن قتيبة أن المعنى: " لا يمل إذا مللتم "، وزعم أن هذا الاستعمال معروف في كلام العرب، وقد يقال: إن " حتى " بمعنى لام التعليل، وأن المراد أن الله لا يمل لكي تملوا أنتم من العمل.
وفيه بعد – أيضا.
ولو كان كذلك لقال: حتى لا تملوا، ويكون التعليل – حينئذ – بإعلامهم بأن الله لا يمل من العطاء، فيكون إخبارهم بذلك مقتضيا ( 203 – ب / ف) لمدوامتهم على العمل وعدم مللهم وسآمتهم.

وقد يقال: إنما يدل هذا الكلام عل نسبة الملل والسآمة إلى الله بطريق مفهوم الغاية.
ومن يقول: إنه لا مفهوم لها فإنه يمنع من دلالة الكلام على ذلك بالكلية.
ومن يقول ذلك بالمفهوم فإنه يقول: متى دل الدليل على انتقائه لم يكن مرادا من الكلام.
وقد دلت الأدلة عل انتفاء النقائص والعيوب عن الله تعالى، ومن جملة ذلك: لحوق السآمة والملل له.

ولكن بعض أصحابنا ذكر أن دلالة مفهوم الغاية كالمنطوق؛ بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ما يعد الغاية موافقا لما قبلها بمفهوم الموافقة أو غيره.
فعلى قوله يتعين في هذا الحديث أحد الأجوبة المتقدمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.