فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب التيمم في الحضر، إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الصلاة

باب
التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة
وبه قال عطاء.

وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: تيمم.

وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمربد النعم، فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد.

هذه الآثار الثلاثة التي علقها البخاري تشتمل على ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى:
أن من عدم الماء في الحضر فله أن يتيمم ويصلي، وقد حكاه عن عطاء، وهو قول جمهور العلماء.

وقد سبقت الإشارة إلى الاختلاف في هذه المسألة، وان السفر هل هو شرط لجواز التيمم أم كان ذكره في القران لان السفر مظنة عدم الماء غالبا؟ والأكثرون على الثاني، فلو لم يجد الماء في الحضر تيمم وصلى.

واختلفوا: هل يعيد إذا وجد الماء أم لا؟ فقال الليث وأبو حنيفة والشافعي:
يعيد، وهو وجه لأصحابنا.

ومنهم من فرق بين أن تقصر مدة عدم الماء في الحضر فيعيد، وبين أن تطول فلا يعيد، والصحيح من المذهب: أنه لا يعيد، وهو قول مالك والثوري وإسحاق والمزني وغيرهم.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر، وهو رواية عن أبي
حنيفة، ورواية عن أحمد اختاره الخلال والخرقي وحكي عن زفر وداود.

ومن أصحابنا من قال: إن كان يرجو حصول الماء قريبا لم يصلي حتى يجده، وإن فات الوقت.

المسألة الثانية:
أن المريض إذا كان يجد الماء، ولكن ليس عنده من يناوله إياه، فإنه يتيمم
ويصلي، حكاه عن الحسن، وهو –أيضا - قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأكثر
العلماء.

وعن الشافعي: يعيد، وحكي رواية عن أحمد، وظاهر كلامه أنه لا يعيد، وهو المشهور عند أصحابنا.

ولأصحابنا وجه: أنه إن رجا أن يجد من يناوله الماء بعد الوقت قريبا لم يصل بالتيمم، وأخر حتى يجيء من يناوله.

والصحيح: الأول، وأنه يصلي بالتيمم في الوقت، ولا يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء بعده، كما لا يؤخر المسافر الصلاة إذا رجا الوصول إلى الماء بعد الوقت عقيبه.

وخرج ابن أبي حاتم من رواية قيس، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء:43] ، قَالَ: نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المسألة الثالثة:
أنه يجوز التيمم بقرب المصر إذا لم يجد الماء، وان كان يصل إلى المصر في الوقت، هذا هو المروي عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وقد احتج به الإمام أحمد، وقال: كان ابن عمر يتيمم قبل أن يدخل المدينة، وهو يرى بيوت المدينة.
وهذا الأثر مشهور عن ابن عمر من رواية نافع عنه، وقد رفعه بعضهم، خرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا.
قال البيهقي: وهو غير محفوظ.

ولفظ المرفوع: أن ابن عمر قَالَ: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم بموضع يقال له: مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة.

وخرج الأثرم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه اقبل من أرضه التي بالجرف، حتى إذا كان بمربد النعم حضرت الصلاة صلاة العصر، فتيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة.

وقد روى الشافعي، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، أن ابن عمر أقبل من الجرف حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصَّلاة.

( ( الجرف) ) : بضم الجيم والراء -: موضع بينه وبين المدينة ثلاثة أميال.

و ( ( المربد) ) : مكان بقرب المدينة.

ورواه سفيان الثوري، عن ابن عجلان، عن نافع، أنه تيمم على راس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى العصر، ثم قدم والشمس مرتفعة، فلم يعد.

خرجه حرب الكرماني.

ورواه - أيضا - مالك، عن نافع، قَالَ: أقبلت مع ابن عمر من الجرف حتى إذا بلغ المربد تيمم، ثم صلى.

ورواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه تيمم وصلى ثم دخل المدينة في وقت، فلم يعد، ورواه أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: اقبلنا من الغابة، حتى إذا كنا بمربد النعم جاءت الصلاة، فتيمم، وصلى العصر، ثم دخل المدينة.

وهذا المروي عن ابن عمر يؤخذ منه عدة مسائل:
منها: أنه تجوز الصلاة بالتيمم في أول وقت للمسافر، وان علم أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت، وهذا قول أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، واستدل أحمد لذلك بحديث ابن عمر هذا.
وحكي عن الشافعي قول: أنه لا يجوز.

ومنها: أن المسافر سفرا قصيرا له أن يتيمم فيه كالسفر الطويل، وهو قول جمهور العلماء - أيضا -، وحكي فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي، ومن أصحابه من لم يثبته عنه، وقال: إنما حكاه الشافعي عن غيره، وهو وجه ضعيف لأصحابنا - أيضا.

وقد تقدم: أن عدم الماء في الحضر يبيح التيمم عند الأكثرين، لكن منهم من أوجب الإعادة فيه، فمن قال: يعيد إذا تيمم في الحضر، وقال: لا يتيمم إلا في سفر طويل جعل حكم السفر القصير حكم الحضر في الإعادة إذا صلى فيه بالتيمم.

وحكى ابن عبد البر، عن محمد بن مسلمة المالكي، أنه حمل ما فعله ابن عمر على أنه خاف فوت الوقت، وهذا يدل على أنه يرى أن الحاضر إذا كان عادما للماء لم يتيمم، إلا أن يخاف فوت الوقت.

وسئل ابن المبارك: عن الراعي تكون الماشية منه على الميلين والثلاثة؟ فذكر عن سعيد بن المسيب، قَالَ: يتيمم ويصلي.

وقال أبو داود: قلت لأحمد: الرجل يخرج على الميلين والثلاثة والأكثر، فتحضره الصلاة، أيتيمم؟ قَالَ: إذا خاف يتيمم.
قيل له فيعيد؟ قال: لا.

قال: حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فرجل من المدينة على فرسخ، وليس في سفر، فحضرت الصلاة، وليس له ماء، أيتيمم ويصلي؟ فقل: نعم.
قلت: يعيد؟ قال: لا، وانأ أرى في الحضر التيمم.

قَالَ: وسألته عن رجل في الصيد، وليس هو في سفر، فحضرت الصلاة، ولم يكن معه ماء، فتيمم وصلى؟ قال: إن كان في معصية يعيد، وان كان للكسب على عياله لا يعيد.

وروى حرب بإسناده عن الزهري، في رجل ينتجع الكلأ فلا يجد الماء؟ قال: لا نرى أن يقيم بالأرض ليس فيها ماء.
قال الوليد بن مسلم ذكرته لبعض المشيخة، فقال: سمعت أن معاذ بن جبل ذكر ذلك له، فقال: لو لم يكن لهم ذلك لم يكن لنا أن نتركهم وذلك.

والمنصوص عن أحمد في الحطاب ونحوه: لا يرخص لهم في ترك حمل ماء
الوضوء، وإنه إذا لم يكن معهم ماء فلا يتيممون، وحمله القاضي على أن السفر القصير لا تيمم فيه.

وأجاز طائفة من أصحابنا لمن عدم الماء في الحضر في التيمم في أخر الوقت، وإنهم لا يكلفون طلب الماء مع فوت الوقت مع بعد الماء في الحضر، وأوجب القاضي في ( ( خلافه) ) طلب الماء على الحاضر، وان أدركه بعد الوقت.

وقال صاحب ( ( المغني) ) : من فارق موضع الماء إلى مكان قريب لحرث ونحوه، فحضرت الصلاة، ولا ماء معه، وان رجع إليه فاته غرضه؛ فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، إلا أن يكون مكان الماء ومكان الحاجة من عمل واحد، ففي الإعادة وجهان.

وقد سبق ذكر هذه المسألة في ( ( باب: التماس الماء إذا حانت الصَّلاة) ) في ( ( كتاب: الوضوء) ) .

ومنها: أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فإنه لا إعادة عليه، هذا قول جمهور العلماء، وحكي عن طائفة من السلف وجوب الإعادة.

ولو وجده بعد الوقت، فأجمعوا على أن لا إعادة علية -: حكاه ابن المنذر
وغيره.

وفي ( ( المسند) ) و ( ( سنن أبي داود) ) والنسائي من رواية عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قَالَ: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: ( ( أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك) ) ، وقال للذي توضأ وأعاد: ( ( لك الأجر مرتين) ) .

وقال أبو داود: ذكر أبي سعيد في إسناده وهم ليس بمحفوظ، بل هو مرسل.

واستحب الأوزاعي الإعادة بالوضوء في الوقت من غير إيجاب.
ونقله حرب، عن أحمد.

وقال القاضي أبو يعلي: يجوز ولا يستحب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد؛ فإنه قَالَ في رواية صالح: إن أعاد لم يضره.

وقال الخلال: العمل من قول أبي عبد الله على أنه لا يعيد.

وقال الحسن: أن شاء أعاد، وإن شاء لم يعد.

وصرح أصحاب الشافعي بأن الإعادة غير مستحبة.

وهذا الحديث قد يستدل به على استحباب الإعادة؛ لقوله: ( ( لك الأجر
مرتين)
)
.
وقد يقال: إصابة السنة أفضل من ذَلكَ.

وقد ذكرنا في ( ( كتاب: العلم) ) في شرح حديث: ( ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) ) أنه ليس كل من له أجره مرتين يكون أفضل من غيره.

ومنها: أنه لا يجب طلب الماء لمن عدمه في غير موضعه الذي هو فيه، وقد أخذ بذلك إسحاق، واستنبطه من فعل ابن عمر هذا.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :334 ... غــ :337 ]
- ثنا يحيى بن بُكير: ثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عُميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر جمل، فلقيه رجلٌ فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلام، حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.

هذا الحديث ذكره مسلم في ( ( صحيحه) ) تعليقاً عن الليث بهذا الإسناد، وكذا رواه ابن إسحاق، عن الأعرج.

ورواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن أبي الحويرث عبد الرحمان بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصمة، وزاد، أنه مسح وجهه وذراعيه، وأسقط من إسناده
( ( عُميراً) ) .

ورواه أبو صالح كاتب الليث بن سعد، عنه، وقال في حديثه - أيضا ً -:
( ( فمسح بوجهه وذراعيه) ) .

وأبو صالح تغير بآخرة، وقد اختلف عليه في لفضه، ورواية يحيى بن بُكير أصح.

قال الخطابي: حديث أبي الجهيم في مسح الذراعين لا يصح.

يعني: لا يصح رواية من روى فيه مسح الذراعين.

وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، ولكن التيمم هنا لم يكن لما تجب له الطهارة، بل لما يستحب له، وقد تقدم ذكر هذا في ( ( كتاب: الوضوء) ) في غير موضع منه، وذكرنا أن عمر كان يتيمم في الحضر لذكر الله عز وجل، وهو من رواية علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قَالَ: رأيت عمر بال ثم أتى الحائط فتمسح به، ثم قال: هذا للذكر والتسبيح حتى تلقى الماء.

خرّجه ابن جرير الطبري.

وهذا يدل على أنه إنما تيمم بمكان ليس فيه ماء، وذكرنا فيما تقدم أن من السلف من كان يتيمم لرواية الحديث ونحو ذلك، وعن أبي العالية أنه تيمم لرد السلام.

وفي المسند عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج فيهريق الماء، فيتيمم بالتراب، فأقول: يا رسول الله، الماء منك قريب، فيقول: ( ( ما يدريني، لعلي لا
أبلغه)
)
.

وذكرنا - أيضاً - أن طائفة من أعيان الشافعية كأبي المعالي الجويني - وصاحبه أبي حامد صرحوا بأن من تيمم في الحضر، ثم قرأ القرآن وذكر الله كان جائزاً، استدلالاً بهذا الحديث.

ورد ذلك بعض متأخر يهم، وقال: لم يكن تيمم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، إنما كان ظاهراً حيث لا يوجد الماء، ولكن كان بقرب المدينة، فإن في هذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد أقبل من نحو بئر جمل، وهي خارج المدينة.

وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحو حديث أبي الجهيم.

خرجه أبو داود من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى حاجته ثم أقبل في سكة من سكك المدينة، فسلم عليه رجل، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام.

خرجه أبو داود وغيره.

ورفعه منكر عند أئمة الحفاظ، وإنما هو موقوف عندهم -: كذا قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والبخاري والعقيلي والأثرم.

وتفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي، عن نافع.
والعبدي ضعيف.

وذكر الأثرم أبي الوليد، أنه سأل محمد بن ثاب هذا: من الذي يقول النبي وابن عمر؟ فقال لا أدري.

ففي هذا الحديث: أن تيمم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في بعض سكك المدينة.

وسيأتي في ( ( باب: الشعر في المسجد) ) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم على جدار المسجد، ثم دخل المسجد.

وقال بعض أصحابنا: يجوز التيمم لرد السلام في الحضر، إذا خشي فوته؛ لان الطهارة لرده مشروعة ندبا لا وجوبا؛ فإنه يجوز الرد مع الحدث لكن يفوت فعله بالطهارة؛ لأنه على الفور.

واستدل بعضهم بهذا الحديث: على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوت صلاة الجنازة، كما هو قول كثير من العلماء، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وذكر أحمد أنه قول أكثر العلماء: ابن عباس ومن بعده - وذكر الحسن والنخعي وجماعة.

ومن منع من ذلك كمالك والشافعي وأحمد - في الرواية الأخرى -؛ فإنهم قد يفرقون بأن الطهارة بالماء لصلاة الجنازة شرط، فلا يسقط مع القدرة عليه خشية
الفوات، بخلاف الطهارة لرد السلام ونحوه من الذكر، فأنها ليست بشرط فخف أمرها.

وقد أجاب بهذا طائفة من الفقهاء من الشافعية، منهم: الماوردي وأبو الطيب الطبري ونصر المقدسي وغيرهم.
وهذا موافق لما تقدم حكايته عن أبي المعالي والغزالي.

والعجب أن صاحب ( ( شرح المهذب) ) حكى ذلك كله في موضعين من
( ( كتابه) ) ، وقال فيما حكاه عن أبي المعالي والغزالي: لا نعرف أحدا وافقهما، وهذا الذي حكاه عن الماوردي وغيره يدل على الموافقة.