فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا طول الإمام، وكان للرجل حاجة، فخرج فصلى

بَاب
إذا طَوَّلَ الإمامُ وَكَانَ للرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرجَ وَلمْ يُصَلِّ
[ قــ :679 ... غــ :700 ]
- حَدَّثَنَا مُسْلِم بن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو، عَن جابر بن عَبْد الله، أن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه.
701 – حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه، فيصلي العشاء، فقرأ بالبقرة فانصرف رَجُل، فكأن معاذاً تناول مِنْهُ، فبلغ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( فتان) ) – ثلاث مرار -، أو قَالَ: ( ( فاتن) ) – ثلاث مرار -، وأمره بسورتين من أوسط المفضل.

قَالَ عَمْرِو: لا أحفظهما.

خرجه عالياً مختصراً، ثُمَّ خرجه بتمامه نازلاً، وفي سياقه موضع الاستدلال بِهِ عَلَى مَا بوب عَلِيهِ، وَهُوَ: انصراف الرَّجُلُ لما قرأ معاذ بسورة البقرة.
وفيه: دليل عَلَى أن الصَّحَابَة لَمْ يكن من عادتهم قراءة بعض سورة فِي الفرض؛ فإن معاذاً لما افتتح سورة البقرة علم الرَّجُلُ أَنَّهُ يكملها فِي صلاته، فلذلك انصرف.

وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث سُفْيَان – هُوَ: ابن عُيَيْنَة -، عَن عَمْرِو، عَن جابر،.

     وَقَالَ  فِي حديثه: فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رَجُل فسلم، ثُمَّ صلى وحده وانصرف، فقالوا لَهُ: أنافقت يَا فلان؟ قَالَ: لا، والله، ولآتين رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأخبرنه، فأتى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنا أصْحَاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثُمَّ أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ، فَقَالَ: ( ( يَا معاذ، أفتان أنت؟) ) – وذكر الحَدِيْث.

ففي هذه الرواية: أَنَّهُ انصرف بمجرد افتتاح معاذ للبقرة.

وفيها: أَنَّهُ سلم ثُمَّ صلى وحده وانصرف، ولم ينكر عَلِيهِ النببي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ.

وذكر البيهقي فِي ( ( كِتَاب المعرفة) ) : أن هذه الزيادة – يعني: سلام الرَّجُلُ – تفرد بِهَا مُحَمَّد بن عباد، عَن سُفْيَان.
قَالَ: لا أدري هَلْ حفظها عَن سُفْيَان، أم لا؛ لكثرة من رواه عَن سُفْيَان بدونها؟
وقد خرجه النسائي من طريق سُفْيَان – أَيْضاً -، وزاد فِيهِ بعد قوله: ( ( فاستفتح بسورة البقرة) ) : ( ( فلما سَمِعْت ذَلِكَ تأخرت فصليت) ) .

وخرجه – أَيْضاً – من طريق الأعمش، عَن محارب بن دثار وأبي صالح، عَن جابر، وفي حديثه: أن معاذاً أمر الرَّجُلُ للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( مَا حملك عَلَى الَّذِي صنعت؟) ) فَقَالَ: يَا رَسُول الله، علمت عَلَى ناضح من النهار، فجئت وقد أقيمت الصلاة، فدخلت المسجد فدخلت مَعَهُ فِي الصلاة، وقرأ سورة كذا وكذا وطول، فانصرفت فصليت فِي ناحية المسجد.
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أفتان يَا معاذ؟) ) .

فيستدل بهذا: عَلَى أن الإمام إذا طول عَلَى المأموم وشق عَلِيهِ إتمام الصلاة مَعَهُ؛ لتعبه أو غلبه النعاس عَلِيهِ أن لَهُ أن يقطع صلاته مَعَهُ، ويكون ذَلِكَ عذراً فِي قطع الصلاة المفروضة، وفي سقوط الجماعة فِي هذه الحال، وأنه يجوز أن يصلي لنفسه منفرداً فِي المسجد ثُمَّ يذهب، وإن كان الإمام يصلي فِيهِ بالناس.

قَالَ سُفْيَان: إذا خشي عَلَى غنمه الذئب، أو عَلَى دابته أن تؤخذ، أو عَلَى صبيه أن يأكله الذئب، فلا بأس أن يقطع صلاته ويذهب إليه.

وَقَالَ الْحَسَن وقتادة، فِي رَجُل كَانَ يصلي فأشفق أن تذهب دابته، أو أغار عَلَيْهَا السبع؟ قَالا: ينصرف.
قيلَ لقتادة: يرى سارقاً يريد أن يأخذ نعليه؟ قَالَ: ينصرف.

ولو طول الإمام تطويلاً فاحشاً، أو حدث للمأموم عذر، مثل حدوث مرض، أو سماع حريق وقع فِي داره، أو خاف فساد طعام لَهُ عَلَى النار، أو ذهاب دابة لَهُ عَلَى بَاب المسجد ونحو ذَلِكَ، فنوى مفارقة إمامه، وأتم صلاته منفرداً، وانصرف جاز ذَلِكَ عِنْدَ أصحابنا – أَيْضاً – وحكوه عَن الشَّافِعِيّ وأبي يوسف ومحمد.

وعن مَالِك وأبي حنيفة: تبطل صلاته بذلك.

واستدل أصحابنا بما رَوَى الإمام أحمد فِي ( ( مسنده) ) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - هُوَ: ابن علية -: ثنا عَبْد العزيز بن صهيب، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يؤم قومه، فدخل حرام وَهُوَ يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد مَعَ القوم، فلما رأى معاذاً طول تجوز فِي صلاته ولحق بنخلة يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيلَ لَهُ: إن حراماً دَخَلَ المسجد، فلما رآك طويت تجوز فِي صلاته ولحق نخلة يسقيه.
قَالَ: إنه لمنافق، أيعجل عَن الصلاة من أجل سقي نخلة؟! قَالَ: فجاء حرام إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذ عنده، فَقَالَ: يَا بني الله؛ إني أردت أن أسقي نخلاً لِي، فدخلت المسجد لأصلي مَعَ القوم، فلما طول تجوزت فِي صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أنى منافق، فأقبل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ، فَقَالَ: ( ( أفتان أنت؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لا تطول بهم؛ أقرأ ب { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ونحوهما) ) .

وخرج – أَيْضاً – من طريق حسين بن واقد، عَن عَبْد الله بن بريدة، عَن أَبِيه، أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء، فقرأ فيها { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فقام رَجُل من قَبْلَ أن يفرغ، فصلى وذهب، فَقَالَ لَهُ معاذ قولاً شديداً، فأتى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعتذر إليه،.

     وَقَالَ : إني كُنْتُ أعمل فِي نخل، وخفت عَلَى الماء، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني لمعاذ -: ( ( صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور) ) .
وروى مُحَمَّد بن عجلان، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم، عَن جابر هذه القصة بطولها، وفيها: فصلى خلفه فتى من قومه، فلما طال عَلَى الفتى صلى وخرج.
وفي هَذَا الحَدِيْث: أن معاذاً أخبر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما صنع الفتى، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، يطيل المكث عندك، ثُمَّ يرجع فيطول علينا.
فَقَالَ: ( ( أفتان أنت يَا معاذ؟) ) – وذكر الحَدِيْث.

خرجه أبو داود، مختصراً لَمْ يتمه.

وَقَالَ أصحابنا: هذه قصة أخرى غير قصة الَّذِي سلم من صلاته وصلى لنفسه وانصرف.

وقد روي أن الرَّجُلُ صلى قَبْلَ أن يجيء معاذ، وانصرف لما أبطأ معاذ، وأن اسمه: سليم.

وهذا يدل عَلَى أن هذه قصة أخرى غير قصة حرام.

فروى أسامة بن زيد: سَمِعْت معاذ بن عَبْد الله بن خبيب، قَالَ: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ معاذ يتخلف عِنْدَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا جَاءَ أم بقومه، وكان رَجُل من بني سَلَمَة – يقال لَهُ: سليم – يصلي مَعَ معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلة، فصلى سليم ثُمَّ انصرف – وذكر الحَدِيْث، وفيه: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل سليماً: كَيْفَ صلى؟ فَقَالَ: قرأت بفاتحة الكتاب سورة، ثُمَّ قعدت وتشهدت، وسألت الجن وتعوذت من النار، وصليت عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ انصرفت، وليس أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ.
فضحك النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: ( ( هَلْ أدندن أنا أو معاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار؟) ) ثُمَّ أرسل إلى معاذ: ( ( لا تكن فتاناً تفتن النَّاس، ارجع إليهم فصل بهم قَبْلَ أن يناموا) ) .

خرجه البزار.

وقد روي أن اسم الرَّجُلُ حزم بن [أَبِي] كعب.

وقد خرج أبو داود حديثه مختصراً.

وهذا يستدل بِهِ عَلَى أنها وقائع متعددة.

ولم نقف فِي شيء من الروايات عَلَى أن الرجل قطع صلاته وخرج من المسجد ولم يصل، كما بوب عَلِيهِ البخاري.
وفي بعض النسخ: ( ( فخرج فصلى) ) ، وَهُوَ أصح.

ولو فارق المأموم لغير عذر، لَمْ يجز فِي أصح الروايتين عَن أحمد، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك.
والثانية: يجوز، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف ومحمد.

وللشافعي قولان.
واستدلوا عَلَى أَنَّهُ لا يجوز، وأن الصلاة تبطل بِهِ بقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ) ) ، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عَلِيهِ.

وأيضاً؛ فَقَدْ سبق الاستدلال عَلَى وجوب الجماعة، والواجب إذا مَا شرع فِيهِ لَمْ يجز إبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.