فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة

37 - فصل
سؤال جبريل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ثم قال: " جاء جبريل يعلمكم دينكم "، فجعل ذلك كله دينا، وما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد عبد القيس من الإيمان.
وقول الله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه} ُ.

تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل عل أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد؛ فإنه قرر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، ثم قال: " هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم " فجعله كله دينا، والدين هو الإسلام لقوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه} [آل عمران: 85] وكذلك قوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] وأكد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام ؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد.
وهذا قول محمد بن نصر المروزي ( 210 - أ / ف) وابن عبد البر وغيرهما.

وأما من فرق بين الإسلام والإيمان – وهم أكثر العلماء من السلف ومن بعدهم – حتى قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري: أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران؛ فإن أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وفلذلك فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان المسئول عنه مفردا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل الذي قرن فيه الإسلام بالإيمان.
وإن اقترنا كان هذا له معنى وهذا له معنى.
وبكل حال: فالأعمال داخلة في مسمى الإيمان، لا يختلفون في ذلك.
وممن ذكر هذا التفصيل: الخطابي ، وأبو بكر الإسماعيلي، وحكاه الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة، وحكى أبو بكر ابن السمعاني عن أهل السنة والجماعة التفريق بين الإسلام والإيمان وممن روي عنه التفريق بينهما من السلف: الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وداود بن أبي هند، وأبو جعفر محمد بن علي، والزهري، وحماد بن زيد، وشريك، وابن أبي ذئب، وابن مهدي، وأحمد، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وغيرهم – على اختلاف بينهم في صفة التفريق.
وروي التسوية بينهما عن الثوري من وجه فيه نظر.
وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى بما فيه كفاية، والله أعلم.

ثم خرج البخاري حديث :
[ قــ :50 ... غــ :50 ]
- أبي زرعة ‘ عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال: متى الساعة؟ قال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَام} ِ الآية [لقمان: 34] ثم أدبر فقال " ردوه " فلم يروا شيئا فقال ": " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.

" قال البخاري : جعل ذلك كله من الإيمان.
فمراده بهذا الكلام: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينا، والدين هو الإسلام، كما أخبر الله بذلك.
وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤال عن الإسلام؛ فدل علي أن الإيمان هو الإسلام وأنه يدخل في مسماه ما يدخل في مسمى الإسلام.
هذا تقرير ما ذكره البخاري هاهنا.

وأما المفرقون بين الإسلام والإيمان: فقد تقدم أن المختار عندهم في ذلك: أن الإسلام والإيمان إذا قرن بينهما كان لكل منهما معنى فإذا أفرد أحدهما دخل فيه ما يدخل في الآخر.
والتحقيق في التفريق بينهما عند اقترانهما: ما دل عليه هذا الحديث المذكور هاهنا؛ وهو أن الإيمان هو الاعتقادات القائمة بالقلوب، وأصله: الإيمان بالأصول الخمسة التي ذكرها الله في قوله تعالى { آمَنَ الرَّسُول ُ ( 210 – ب / ف) بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285] ، فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه – وهو اليوم الآخر – وهو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص.
وفي رواية البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث.
فأما الإيمان بالبعث: فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور.
والإيمان بلقاء الله معناه: الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها.
وخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب ولفظه: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .
وخرجه ابن حبان، وزاد فيه: " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " .
وأما الإسلام المقرون بالإيمان: ففسره بالأعمال الظاهرة من الأقوال والأعمال وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان.
وزاد مسلم في رواية من حديث عمر: " وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".
وزاد ابن حبان: " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ".
وفي رواية البخاري هذه: " أن تعبد الله ولا تشرك به ".
والمراد: الإقرار بتوحيده باللسان.
وقد يراد به مع ذلك: فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح.
وأما الإحسان: ففسره بنفوذ .
البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه.
ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان، وقد أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك هاهنا بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
قيل: المراد: أن نهاية مقام الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره.

وقد وصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم: ابن عمر، وأبو ذر، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله .
قال بعض السلف: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص.
فهذان مقامان: أحدهما: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين.
وحديث حارثه هو من هذا المعنى؛ فإنه قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عرفت فالزم: عبد نور الله الإيمان في قلبه ".
وهو حديث مرسل، وقد روي مسندا ( 211 - أ / ف) بإسناد ضعيف .
وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف تتخايل الله بين أعيننا.

ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله: ما أنا مطلع على أحبائي إذا جهنم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري.

وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [الروم: 27] ومثله قوله تعالى { الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [النور: 35] ، قال ابن كعب وغيره من السلف: مثل نوره في قلب المؤمن.
ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه، كما قال بعضهم: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك.
وقيل لآخر: أما تستوحش؟! قال: كيف استوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني ؟ وقيل لآخر: أما تستوحش وحدك؟ قال: ويستوحش مع الله أحد؟ ! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس.
وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه .

وقال معروف لرجل: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك .
وقال ذو النون: علامة المحبين لله: أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه، ثم قال: إذا سكن القلب حب الله أنس بالله؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه.
وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة – كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية – فهو زعم باطل؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما، وروي عن عائشة – أيضا – أنه حصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين.
وروي في ذلك أحاديث مرفوعة – أيضا.

وكذا قال جماعة من التابعين: إنه يراه بقلبه، منهم الحسن، وأبو العالية، ومجاهد ووعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإبراهيم التيمي وغيرهم.
فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا: إنها حصلت له مرتين؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم.

فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه، ومن استقام ( 211 – ب / ف) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل، وقال تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة} [يونس: 26] وقد فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزيادة بالنظر إلى وجه الله.
خرجه مسلم من حديث صهيب .

وأما قول جبريل: " أخبرني عن الساعة " فقال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " فمعناه: إن الناس كلهم في وقت الساعة سواء، وكلهم غير عالمين به على الحقيقة؛ ولهذا قال: " في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا { إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] وهذه مفاتيح الغيب الذي لا يعلمها إلا الله.
وقد جاء عن ابن مسعود أن نبينا أوتي علم كل شيء سوى هذه الخمس .

وروي ذلك مرفوعا من حديث ابن عمر .
وكلاهما في " مسند الإمام أحمد ".
وذكر عند عمرو بن العاص العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكره بعض من حضره فقال عمرو:: إنما الغيب خمس، ثم تلا هذه الآية قال: وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله قوم.
خرجه حميد بن زنجوية.

وقد زعم بعضهم – كالقرطبي – أن هذه الخمس لا سبيل لمخلوق على علم بها قاطع، وأما الظن بشيء منها بأمارة قد يخطيء ويصيب فليس ذلك بممتنع ولا نفيه مراد من هذه النصوص.
وقوله: " وسأخبرك عن أشراطها " لما كان العلم بوقت الساعة المسئول عنه غير ممكن انتقل منه إلى ذكر أشراطها وهي علامتها الدالة على اقترانها، وهذا كما سأله الأعرابي: متى الساعة؟ فقال: " ما أعددت لها؟ " فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها؛ لأنه هو المأمور به وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به.
وأما جبريل: فالظاهر – والله أعلم – أنه أراد بسؤاله عن الساعة إظهار انفراد الله بعلمها دون خلقه حتى ينقطع السؤال عنها، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرا يسأل عنها حتى نزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات: 42 - 44] ونزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] .

وفي رواية عمر بن الخطاب لهذا الحديث: إن جبريل قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أخبرني عن أمارتها "، وقد ذكر لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث علامتين:
إحداهما: أن تلد الأمة ربها، والمقصود بالرب: السيد.
واختلف في معنى ذلك، فقيل: المراد أن يكثر فتوح البلاد الكفر والسبي فيكثر السراري فتلد الإماء الأولاد من سادتهن، وولد السيد بمنزلة السيد فتصير الأمة ولدت ربها بهذا الاعتبار.
ومن هؤلاء من قال: أريد أن الملوك يتخذون السراري فتلد الإماء الملوك وهم كالأرباب للناس.
ومنهم من قال: إن العجم تلد العرب، والعرب كالأرباب للعجم قاله وكيع بن الجراح.
وعلى هذا القول قد استدل بالحديث من يرى بيع أمهات الأولاد ومن يمنعه.

أما من يرى بيعهن: فاستدل بقوله: " تلد الأمة ربها " على أن ولد أم الولد رب لها فيدل على أن أمه رقيقة تنتقل إلى ملكه بوفاة أبيه فيرثها فتعتق عليه فيكون حينئذ ربها حقيقة وتكون قبل انتقالها إلى ولدها رقيقة حكمها كأحكام الفيء من البيع وغيره، ولولا ذلك لم تورث.
ومن منع بيعهن: قال: قد جعل ولد الأمة ربها، وهذا يدل على أنه ربها ( 212 - أ / ف) بكل حال سواء مات الأب أو كان حيا، فيدل على أن عتقها مضاف إلى الولد فكان الولد هو الذي أعتق أمه حيث كان هو سبب عتقها، كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في مارية لما ولدت إبراهيم " أعتقها ولدها " وممن استدل بهذا على منع بيعهن: الإمام أحمد.
وقيل: المراد بقوله " تلد الأمة ربها " كثرة الفتوح في بلاد الكفار، وجلب الرقيق حتى تجلب المرأة من بلد الكفر صغيرة فتعتق في بلد الإسلام، ثم تجلب أمها بعدها فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بكونها أمها، وقد وقع ذلك في الإسلام.
وهذا القول مثل الذي قبله في أن أشراط الساعة كثرة الفتوح وجلب الرقيق من بلاد الكفر.

وقيل: المراد بقوله" أن تلد الأمة ربها " أن يكثر العقوق من الأولاد حتى يعامل الولد أمه معاملة أمته بالسب والإهانة، ويشهد لهذا: أنه جاء في رواية " أن تلد المرأة ربها " فلم يخص بالأمة.

وقيل: المراد بقوله " أن تلد الأمة ربها " أن يكثر الجهل ويقل العلم حتى تباع أمهات الأولاد ولهن أولاد فربما تداولها أيدي الملاك وتطاولت المدد حتى يشتريها بعض أولادها ويستخدمها جاهلا بأنها أمه، وفي هذا القول نظر وبعد.
وعلى هذا القول والذي قبله: فالذي من أشراط الساعة هو كثرة الجهل وقلة العلم وفساد الأعمال بظهور العقوق والاستهانة بببيع ما لا يجوز بيعه.

وقيل: بل أراد بولادة الأمة ربها أنه يكثر عدول الناس عند النكاح إلى التسري فقط، والله أعلم.

والعلامة الثانية: أن يتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان.
والبهم هما بضم الباء، وهو جمع بهيم، ثم قيل: إن المراد به المجهول الذي لا يعرف.
قاله الخطابي .
فعلى هذا تكون الرواية " البهم " – بضم الميم – صفة الرعاة.

وقيل: بل المراد به: الذي لاشيء لهم، كما قال: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهما ".
وقيل: إن " البهم " – بكسر الميم – صفة للإبل، وأن الإبل هي السود وتطاولهم في البنيان: هو بمصيرهم مملوكا ذا ثروة وأموال.
وفي رواية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عنهم فقال: " هم العريب " .
وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس ويستعينون بهم على أعمالهم، ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك.
وفي هذا إشاره إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم، ويشهد لهذا: الحديث الآخر: " إذا وكل الأمر على غير أهله فانتظر الساعة " .
والتطاول في البنيان من أشراط الساعة – أيضا.

وقد خرج البخاري .
ومسلم من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان "، وقد كان بناء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمساجد والبيوت قصيرا.

وقد روي عن الحسن قال: لما بنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد قال: " ابنوه عريشا كعريش موسى " قيل للحسين: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش – يعني السقف .
وعن الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي.
وروي عن ( 212 - ب / ف) عن عمر أنه كتب إلى أهل البصرة ينهاهم أن لا يرفع أحد بناءه فوق سبع أذرع .

قال عمار بن أبي عمار: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ناداه مناد: يا أفسق الفاسقين! إلى أين؟ ! وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعا: " كل بناء - وأشار بيده هكذا على رأسه - أكثر من هذا فهو وبال .
وفي " سنن أبي داود " عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى قبة مشرفة فقال: " ما هذه؟ " فقالوا " لفلان، فجاء صاحبها فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعرض عنه فعل ذلك مرارا حتى هدمها الرجل .

وفي " سنن ابن ماجه " عن ابن عباس مرفوعا: " أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها والنصارى بيعها .
فهذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده ويدخل فيه الإعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة، فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والإعتقادات ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب والجوارح ومن علوم الإحسان ونفوذ البصائر في الملكوت.
وقد قيل: إنه يصلح أن يسمى " أم السنة " لرجوعها كلها إليه كما تسمى الفاتحة " أم الكتاب " و" أم القرآن " لمرجعه إليها.



ثم خرج البخاري بعد هذا: حديث :
[ قــ :51 ... غــ :51 ]
- ابن عباس: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد منهم لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حيت تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

ومقصود بإيراد هذه الجملة من حديث هرقل: أن الإيمان يزيد حتى يتم، وأن الدين هو الإيمان؛ فإنه سأله: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ ثم أجاب بأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

والبشاشة: الفرح والاستبشار، ومنه حديث: " لا يوطن أحد المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم " .
فدل على أن الإسلام والدين واحد؛ ولك لم يرد بزيادة الإيمان هنا إلا زيادة أهله، وبتمامه قوة أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه.
وكلام هرقل - وإن كان لا يحتج به في مثل هذه المسائل العظيمة من أصول الديانات التي وقع الاضطراب فيها - فإن ابن عباس روى هذا الكلام مقررا له مستحسنا وتلقاه عنه التابعون، وعن التابعين أتباعهم كالزهري.
فالاستدلال إنما بتداول الصحابة ومن بعدهم لهذا الكلام وروايته واستحسانه، والله سبحانه وتعالى أعلم.