فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب


[ قــ :541 ... غــ :556 ]
- حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".

وقد خرجه فيما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولفظه: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".

ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ ولهذا جعله مدركا لها بإدراك ركعة منها قبل غروب الشمس، فإدراكها كلها قبل الغروب أولى أن يكون مدركاً لها.

وقد سبق قول من قال: إن وقت العصر إلى غروب الشمس، منهم: ابن عباس وعكرمة، وهو رواية عن مالك والثوري وهو قول إسحاق.

قال إسحاق: آخر وقتها للمفرط، وصاحب عذر هو قدر ما يبقى إلى غروب الشمس ركعة -: نقله عنه ابن منصور.

وحكي مثله عن داود.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي ما يشبهه.

وهو وجه ضعيف للشافعية مبني على قولهم: إن الصلاة كلها تقع أداء كما سيأتي.

والصحيح عندهم: أنه لا يجوز التاخير حتى يبقى من الوقت ركعة.

وإن قيل: إنها أداء - كمذهبنا ومذهب الأكثرين وأكثر العلماء - على ان تأخيرها إلى أن يبقى قدر ركعة قبل الغروب لا يجوز لغير أهل الأعذار، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي ثور وحكاه عن العلماء.

وقد دل على ذلك ما خرجه مسلم في " صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " وقت العصر ما لم تصفر الشمس".

ومن حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً".
وخرجه أبو داود - بمعناه، وزاد: "حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان - أو على قرني الشيطان" - وذكر باقيه.

فهذا يدل على [أن] تأخيرها إلى بعد اصفرار الشمس وتضيقها للمغرب غير جائز لمن لا عذر له.

وأجمع العلماء على ان من صلى بعض العصر ثم غربت الشمس أنه يتم صلاته، ولا إعادة عليه.

وأجمعوا على أن عليه إتمام ما بقي منها، وهو يدل على أن المراد بإدراكها إدراك وقتها.

واختلفوا في الواقع منها بعد غروب الشمس: هل هو أداء، أو قضاء؟ وفيه وجهان لأصحابنا والشافعية:
أحدهما: أنه قضاء، وهو قول الحنفية؛ لوقوعه خارج الوقت.

والثاني: أنه أداء، وهو أصح عند أصحابنا والشافعية؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فقد أردكها".

وللشافعية وجه آخر: أنها كلها تكون قضاء، وهو ضعيف.

هذا كله إذا أدرك في الوقت ركعة فصاعداً، فإن أدرك دون ركعة ففيه للشافعية طريقان:
أحدهما: أنه على هذا الخلاف - أيضا.

والثاني: أن الجميع قضاء، وبه قطع أكثرهم.

وأمامذهب أصحابنا:
فقال أكثرهم: لا فرق بين أن يدرك في الوقت ركعة أو ما دونها، حتى لو أدرك تكبيرة الإحرام كان كإدراك ركعة.

واستدلوا بحديث " من أدرك سجدة"، وقالوا: المراد به قدر سجدة.

وفيه نظر؛ فإن السجدة يراد بها الركعة، وهو المراد من هذا الحديث والله اعلم.

وحكى بعضهم رواية عن أحمد، أنه لا يكون مدركا لها في الوقت بدون إدراك ركعة كاملة، وبذلك جزم ابن أبي موسى في " إرشاده"، وجعله مذهب أحمد ولم يحك عنه فيه خلافاً، فعلى هذا ينبغي أن يكون الجميع قضاء إذا لم يدرك في الوقت ركعة، وهو ظاهر قول الأوزاعي.



قال:


[ قــ :54 ... غــ :557 ]
- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أنه أخبره، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين.
فقال أهل الكتأبين: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً؟ قال الله: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا.
قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".

قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم" إنما أراد به - والله أعلم -: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وقد سمى الله بني إسرائيل بانفرادهم أمما، فقال:
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} ? [الأعراف: 168] ؛ ولهذا فسر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بعمل أهل التوارة بها إلى انتصاف النهار، وعمل أهل الإنجيل به إلى العصر، وعمل المسلمين بالقرآن إلى غروب الشمس.

ويدل على ذلك - أيضا -: حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري بعد هذا، ولفظه: " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل أستأجر قوما يعملون له إلى الليل" - وذكر الحديث، كما سيأتي - إن شاء الله.

وإنما قلنا: إن هذا هو المراد من الحديث؛ لأن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا يبلغ قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس بالنسبة إلى ما مضى من النهار، بل هو أقل من ذلك بكثير.

ويدل عليه صريحا: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة العصر يوماً بنهار، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".

وقال الترمذي: حديث حسن.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، قال: كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والشمس على قعيقعان بعد العصر، فقال: " ما أعماركم في أعمار من مضى إلى كما بقي من النهار فيما مضى منه".

ومن حديث ابن عمر، أنه كان واقفا بعرفات ينظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، فبكى، وقال: ذكرت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بمكاني هذا، فقال: " أيها الناس، لم يبق من دنياكم فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".

ويشهد لذلك من الأحاديث الصحيحة: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين"، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.

خرجاه في " الصحيحين" من حديث أنس، وخرجاه - أيضا - بمعناه من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد.

وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر.
وخرج الترمذي من حديث المستورد بن شداد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه" - لأصبعيه: السبابة والوسطى.

وفي " مسند الإمام أحمد" عن بريدة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت أنا والساعة جميعاً، إن كادت لتسبقني".

وروى الإمام أحمد –أيضا: ثنا أبو ضمرة: حدثني أبو حازم، لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " مثلي ومثل الساعة كهاتين" - وفرق كذا بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال: " مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان"، ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق الاح بثوبه أتيتم أتيتم".
ثم يقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا ذاك".

وكل هذا النصوص تدل على شدة اقتراب الساعة، كما دل عليه قوله تعالى:
{ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وقوله تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] .

وقد فسر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين" - وقرن بين السبابة والوسطى بقرب زمانه من الساعة، كقرب السبابة من الوسطى، وبأن زمن بعثته تعقبه السعة من غير تخلل نبي آخر بينه وبين الساعة، كما قال في الحديث الصحيح: " أنا الحاشر، يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".

فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه - يعني: ان بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.

والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء كلهم، وليس بعده نبي، فكان إرساله من علأماالساعة.

وفي " المسند"، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت بالسيف بني يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له".

وفسر قتادة وغيره قوله: " كهاتين" - وأشار بالسبابة والوسطى، بأن المراد: كفضل إحداهما على الأخرى – يعني: كفضل الوسطى على السبابة.

وقد ذكر ابن جرير الطبري: أن فضل ما بين السبابة والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريباً، فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سنة.

وقد روي في ذلك حديث ابن زمل - مرفوعاً - أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً.
وإسناده لا يصح.

ويشهد لهذا الذي ذكره ابن جرير: ما خرجه أبو داود من حديث أبي ثعلبة الخشني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم".

وروي موقوفاً، ووقفه أصح عند البخاري وغيره.

وخرج أبو داود –أيضا - بإسناد منقطع عن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إني لأرجو أن لا يعجز امتي عند ربهم أن يؤخرهم نصف يوم".
قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.

وإن صح هذا، فإنما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجا لأمته تاخير نصف يوم، فأعطاه الله رجاءه وزاده عليه، فإنا الآن في قريب رأس الثمانمائة من الهجرة، وما ذكره ابن جرير من تقدير ذلك بنصف سبع يوم على التحديد لا يصلح، وقد ذكر غيره أن المسبحة ستة أسباع الوسطى طولاً، فيكون بينهما من الفضل سبع كامل، وذلك ألف سنة، على تقدير أن تكون الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن بعثة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً، وهذا – أيضا - لا يصح، ولا يبلغ الفضل بينهما سبعاً كاملاً.

وقيل: إن قدر الفضل بينهما نحو من ثمن، كما سنذكره - ان شاء الله.
وفي " صحيح مسلم" عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين".
قال: وضم السبابة والوسطى.

وقد سبق في رواية الإمام أحمد، أنه فرق بينهما، وقد ذكر بعضهم على تقدير صحة رواية التفريق ان فرج ما بين الأصابع الخمسة ستة امثال فرجة ما بين السبابة والوسطى، وحجم الأصابع الخمس ضعف ما بين المسبحة والوسطى، فيكون حجم الأصابع الخمس مع الفرج الأربع الواقعة بينهم ثمانية أجزاء فرجة ما بين السبابة والوسطى جزء منها.

ويئول المعنى إلى أن ما بينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الساعة قدر ثمن الدنيا، وهو ثمانمائة وخمس وسبعون سنة على تقدير ما تقدم ذكره.

قال: ويعتضد ذلك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب) ) ، فإن ما بين العصر والغرب قريب من ثُمن زمان دورة الفلك التامة مرةً واحدة، وهي أربعة وعشرون ساعة.
انتهى ما ذكره.

وأخذ بقاء ما بقي من الدنيا على التحديد من هذه النصوص لا يصح؛ فإن الله استأثر بعلم الساعة، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، وهو من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) ) .
وإنما خرج هذا من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على وجه التقريب للساعة من غير تحديد لوقتها.
وقد قدمنا أن المراد بهذا الحديث مدةُ أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع مدة أمة موسى وعيسى عليهم السلام، فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة هذا اليوم؛ فإن الليل سابق للنهار، وقد خلق قبله على أصح القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجومُ تضيء ويهتدى بها، وهم الأبيياء المبعوثون فيها، وقد كان –أيضا - فيهم قمرٌ منير، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام، إمام الحنفاء ووالدُ الأنبياء، وكان بين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى عليه السلام ألف سنة.
قال ذلك غير واحد من المتقدمين، حكاه عنهم الواقدي.

وذكر بعض علماء أهل الكتاب أن من آدم إلى إبراهيم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، ومن إبراهيم إلى خروج موسى من مصر خمسمائة وسبع وستون سنة، وذكر إن من آدم إلى مولد المسيح خمسة آلاف وخمسمائة سنة، ومن مولد المسيح إلى هجرة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستمائة وأربع عشر سنة، ومن آدم إلى الهجرة ستة آلاف سنة ومائة وأربع عشرة سنة، ومن خروج بني أسرائيل إلى الهجرة ألفان ومائتان وتسع وسبعون سنة، ولكن إنما يؤرخون بالسنة الشمسية لا القمرية.

وأماابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أصحاب الشرائع والكتب المتبعة والأمم العظيمة.

وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله: { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ*} .
[التين: 1 - 3]
وفي التوراة: ( ( جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران) ) .

ولهذا سمي محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سراجاً منيراً؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم وأنفع، فكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى كما بين الظهر والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار.

ولهذا كانت الصلاة الوسطى هي العصر على الصحيح؛ وأفضل ساعات يوم الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس، فلهذا كان خيرُ قرون بني آدم القرن الذي بعث فيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد خرج البخاري ذلك من حديث أبي هريرة – مرفوعاً.

وقد أعطى الله تعالى من عمل بالتوراة والإنجيل قيراطاً قيراطاً، وأعطى هذه الامة لعملهم قيراطين.

فقال الخطأبي: كان كل من الأمم الثلاثة قد استؤجر ليعمل تمام النهار بقيراطين، فلما عجز كل واحد من الأمتين قبلها، وانقطع عن عمله في وسط المدة أعطى قيراطاً واحداً، وهذه الأمة قد أتمت مدة عملها فكمل لها أجرها.

وقد جاء في رواية أخرى من حديث ابن عمر، أن كل طائفة منهم استؤجرت لتعمل إلى مدة انتهاء عملها على ما حصل لها من الأجر.

فقال الخطأبي: لفظه مختصر، وإنما أخبر الراوي بما آل إليه الأمر فقط.
وفيما قال نظر، وسيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث – إن شاء الله.

وعجز اليهود والنصارى عن إتمام المدة هو بما حصل لهم مما لا ينفع معه عمل، مع البقاء على ما هم عليه من النسخ والتبديل، مع تمكنهم من إتمام العمل بالإيمان بالكتاب الذي أنزل بعد كتابهم.

وقولهم: ( ( نحن أكثر عملاً وأقل أجراً) ) .

أماكثرة عمل اليهود فظاهر؛ فإنهم عملوا إلى انتصاف النهار، وأماالنصارى فإنهم عملوا من الظهر إلى العصر، وهو نظير مدة عمل المسلمين.

فاستدل بذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير كل شيء مثليه، وهم أصحاب أبي حنفية، قالوا: لأنه لو كان أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله لكان مدة عملهم ومدة عمل المسلمين سواء.

وأجاب عن ذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله من أصحابنا والشافعية وغيرهم بوجوه:
منها: أن أحاديث المواقيت مصرحة بأن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله، وهذا الحديثُ إنما ساقه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها، فكان الأخذ بأحاديث توقيت العصر المسوقة لبيان الوقت أولى.

ومنها: أن المراد بقولهم: ( ( أكثر عملاً) ) ، أن عمل مجموع الفريقين أكثر.

فإن قيل: فقد قالوا: ( ( وأقل أجراً) ) ومجموع الفريقين لهم قيراطان كأجر هذه الأمة.

قيل: لكن القيراطان في مقابلة عمل كثير، فإنهما عملا ثلاثة أرباع النهار بقيراطين، وعمل المسلمون ربع النهار بقيراطين، فلذلك كان أولئك أقل أجراً.

ومنها: أن وقت العصر إذا سقط من أوله مدة التأهب للصلاة بالأذان والإقامة والطهارة والستارة وصلاة أربع ركعات والمشي إلى المساجد، صار الباقي منه إلى غروب الشمس أقل مما بين الظهر والعصر.

وحقيقةُ هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد أن أمته عملت من زمن فعل صلاة العصر المعتاد لا من أول دخول وقتها.

ومنها: أن كثرة العمل لا يلزم منه طول المدة، فقد يعمل الأنسان في مدة قصيرة أكثر مما يعمل غيره في مدة طويلة.

وقد ضعف هذا؛ بأن ظاهر الحديث يرده، ويدل على اعتبار طول المدة وقصرها، إلا أن يقال: كنى عن كثرة العلم وقلته بطول المدة وقصرها، وفيه بعد.

وقد روى هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألف سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثمانون سنة.
هذا إسناد ضعيف، لا يعتمد عليه.

وإنما يصح ذلك على تقدير أن يكون بين عيسى ومحمد أنبياء، والحديث الصحيح يدل على أنه ليس بينهما نبي، ففي ( ( صحيح البخاري) ) عن سلمان، أن مدة الفترة كانت ستمائة سنة.

وقد ذكر قوم: أن من لدن خلق آدم إلى وقت هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة آلاف سنة، تنقص ثمان سنين.

وقال آخرون: بينهما أربعة آلاف وستمائة واثنان وأربعون سنة وأشهر.

واختلفوا في مدة بقاء الدنيا جميعها:
فروي عن ابن عباس، أنها جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة.

وعن كعب ووهب، أنها ستة آلاف سنة.

وعن مجاهد وعكرمة، قالا: مقدار الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة، ولا يعلم ما مضى منه وما بقي إلا الله عز وجل، وأن ذلك هو اليوم الذي قال الله فيه:
{ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
[المعارج: 4]
خرجه ابن أبي حاتم في ( ( تفسيره) ) .

وقد قدمنا: أن حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري هاهنا يدل على أن مدة الدنيا كلها كيوم وليلة، وأن مدة الأمم الثلاث أصحاب الشرائع المتبعة قريب من نصف ذلك، وهو قدر يوم تام، وأن مدة اليهود منه إلى ظهور عيسى حيث كانت أعمالهم صالحة تنفعهم عند الله كما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، ومدة النصارى إلى ظهور محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كانت أعمالهم صالحة مقبولة كما بين صلاةِ الظهر والعصر، ومدة المسلمين منه من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وذلك في الزمان المعتدل قدر ربع النهار، وهو قدر ثمن الليل والنهار كما سبق ذكره وتقديره.

لكن مدة الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومدة الباقي منها إلى يوم القيامة، لا يعلمه على الحقيقة إلا الله عز وجل، وما يذكر في ذلك فأنما هو ظنون لا تفيد علماً.

وكان مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ لأنه جعل عمل المسلمين مستمراً من وقت العصر إلى غروب الشمس، وإنما ضرب المثل لهم بوقت صلاة العصر، واستمرار العمل إلى آخر النهار لاستمرار مدة وقت العصر إلى غروب الشمس، وأن ذلك كله وقت لعملهم، وهو صلاة العصر، فكما أن مدة صلاتهم تستمر إلى غروب الشمس، فكذلك مدة عملهم بالقرآن في الدنيا مستمر من حين بعث محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تقوم عليهم الساعة ويأتي أمر الله وهم على ذلك.


قال:


[ قــ :543 ... غــ :558 ]
- حدثنا أبو كريب: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين) ) .

ظاهر هذه الرواية: يدل على أن كلاً من الفريقين اليهود والنصارى أبطلوا عملهم ولم يسقطوا أجرهم فلم يستحقوا شيئاً، وهذا بخلاف ما في حديث ابن عمر الماضي أنهم أعطوا قيراطاً قيراطاً.

وقد يحمل حديث ابن عمر على من مات قبل نسخ دينه وتبديله، وكان عمله على دين حق، وحديث أبي موسى هذا على من أدركه التبديل والنسخ، فاستمر على عمله، فإنه قد أحبط عمله وأبطل أجره، فلم يستحق شيئاً من الأجر.

فإن قيل: فمن مات قبل التبديل والنسخ مؤمن، له أجره عند الله، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 6] .

قيل: هو كذلك، وإنما لهم أجر واحد على عملهم؛ لأنه شرط لهم ذلك، كما جاء في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وهذه الأمة شرط لها على اتمام عمل بقية اليوم أجران.

وقوله: ( ( فاستكملوا أجر الفريقين) ) ؛ لأنه لما بطل عملهما وسقط أجرهما، وعمل المسلمون بقيةَ النهار على قيراطين، فكأنهم أخذوا القيراطين منهما واستحقوا ما كان لهما على عملهما وحازوه دونهما، ولهذا قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لئلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 8، 9] ؛ ولهذا اعترف أهل الكتاب أنهم لم يظلموا من أجرهم شيئاً.

وفي حديث أيوب: ( ( أن اليهود استؤجرت لتعمل إلى الظهر على قيراط، والنصارى إلى العصر على قيراط) ) ، وهذا صحيح؛ فإن كلاً من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته، وانه يعمل عليه إلى أن يأتي نبي آخر بكتاب آخر مصدق له، وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معيناً.

وقد تنازع أهل الأصول فيمن أمر أن يعمل عملاً إلى وقت غير معين، ثم أمر بترك ذلك العمل، والعمل بغيره: هل هو نسخ في حقه، أم لا؟ مثل قوله تعالى: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .

وفي الجملة، فاستحقاق اليهود والنصارى قيراطاً واحداً على عملهم وإحباط أجرهم وإبطاله هو بالنسبة إلى طائفتين منهم، لا إلى طائفة واحدة.

وقد استدل أصحابنا بحديث أبي موسى على أن من استؤجر لعمل في مدة معينة، فعمل بعضه في بعض المدة، ثم ترك العمل في باقي المدة باختياره من غير عذر، أنه قد أسقط حقه من الأجرة، ولا يستحق منها شيئاً.
ومقصود البخاري بهذا الحديث – أيضا -: أن ضرب المثل لعمل المسلمين من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس يؤخذ منه بقاء وقت صلاة العصر وامتداده إلى غروب الشمس، كما سبق.