فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت

باب
الجهر في المغرب
[ قــ :735 ... غــ :756 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، قالَ: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور.

وخرجه في ( ( المغازي) ) من طريق معمر، عن الزهري، وزاد فيهِ: وذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي.

وهذا كانَ قبل أن يسلم جبير بن مطعم، وكان قدم المدينة لفداء أسارى بدر.

وخرج الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم: سمعت بعض إخوتي يحدث، عن أبي، عن جبير بن مطعم، أنه أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فداء المشركين _ وفي رواية: في فداء أهل بدراً _ وما أسلم يومئذ، قالَ: فانتهيت إليه وهو يصلي المغرب، وهو يقرأ فيها بالطور، قالَ: فكانما صدع قلبي حين سمعت القرآن.

وفي هذا: دليل على قبول رواية المسلم لما تحمله من العلم قبل إسلامه.

وقد روي أنه سمع صوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خارج من المسجد.
وفيه: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع صوته بالقراءة في صلاة الليل.

والأحاديث المذكورة في الباب الماضي تدل على الجهر بالقراءة في المغرب؛ فإن عامة من روى عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القراءة في [المغرب] بسورة ذكر أنه سمعه يقرأ بها، وفي ذَلِكَ دليل الجهر.

والجهر بالقراءة في المغرب إجماع [المسلمين] رأياً وعملا به لم يزل المسلمون يتداولونه بينهم، من عهد نيبهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى الآن.

[وأدنى] الجهر: أن يسمع من يليه، هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم.

وقد سبق عن ابن مسعود، قالَ: من أسمع أذنيه فلم يخافت، وهو يدل على أدنى الجهر: أن يسمع نفسه.

روى وكيع، عن سفيان، عن أشعت بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود، قالَ: لم يخافت من أسمع أذنيه.

ومنتهى الجهر: أن يسمع من خلفه إن أمكن ذَلِكَ من غير مشقة، وقد كانَ عمر بن الخطاب يسمع قراءته في المسجد من خارجه.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] قالَ: نزلت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوار بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، سمع ذَلِكَ المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقالَ الله لنبيه: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون قراءتك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك، أسمعهم القرآن لا تجهر ذَلِكَ الجهر { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، يقول: بين الجهر والمخافتة.

خرجاه في ( ( الصحيحين) ) ولفظه لمسلم.

والجهر فيما يجهر فيهِ سنة، لا تبطل الصلاة بتركه عندَ جمهور العلماء.

وحكى عن ابن أبي ليلى أنه تبطل الصلاة بتركه.
وهو وجه ضعيف لأصحابنا إذا تعمد ذَلِكَ.

وإنما يجهر الإمام إذا صلى من يأتم به، فأما المنفرد، فاختلفوا: هل يسن لهُ
الجهر، أم لا؟
فقالَ الشافعي وأصحابه: يسن لهُ الجهر.
وحكاه بعضهم عن الجمهور.

ومذهب أبي حنيفة وأحمد: إنما يسن الجهر لإسماع من خلفه؛ ولهذا أمر من خلفه بالإنصات لهُ، كما قالَ تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وقد سبق أنها نزلت في الصلاة وأما المنفرد فيجوز لهُ الجهر ولا يسن.

قالَ أحمد: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر؛ إنما الجهر للجماعة.

وكذا قالَ طاوس: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر.
ومن أصحابنا من كرهه للمنفرد.

ونص أحمد على أن المنفرد إذا صلى الكسوف جهر فيها بالقراءة، فخرج القاضي أبو يعلى من ذَلِكَ رواية باستحباب الجهر للمنفرد في الفرائض.

وبينهما فرق؛ فإن صلاة الكسوف تطول فيها القراءة، فيحتاج المنفرد إلى الجهر فيها؛ كقيام الليل، بخلاف الفرائض.


باب
القراءة في الظهر
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
[ قــ :737 ... غــ :758 ]
- حدثنا أبو النعمان: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر ابن سمرة، قال: قال سعد: قد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صلاة العشي، لا أخرم عنها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
قال عمر: ذلك الظن بك.

صلاة العشي: هي صلاة الظهر والعصر، لأن العشي هو ما بعد الزوال.

وركودهُ في الأوليين وتطويله، إنما هو لطول القراءة، وقد خالف ابن عباس في ذلك.

وقد خرج البخاري فيما بعد من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر، وسكت فيما أمر { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] و { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 1] .
فهذا يدل على أن ابن عباس كان يرى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقرأ في صلاة الظهر والعصر شيئاً.

وقد تأوله الإسماعيلي وغيره على أنه لم يكن يجهر بالقراءة، بل يقرأ سراً وهذا لا يصح؛ فإن قراءة السر لا تسمى سكوتا.

وقد روي عن ابن عباس التصريح بخلاف بذلك.

وخرج الإمام أحمد حديث أيوب، عن عكرمة بزيادة في أوله، وهي لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر – وذكر الحديث.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث موسى بن سالم: ثنا عبد الله بن
عبيد الله، قال: دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا لشباب منا: سل ابن عباس: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا.
قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه فقال: خمشاً، هذه شر من الأولى، وكان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به – وذكر الحديث.

وخرج الإمام أحمد من رواية أبي يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس نحو حديث أيوب، وزاد: قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فغضب منهم وقال: أيتهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! وروى ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أنه سئل أفي الظهر والعصر قراءة؟ قال: لا قيل له عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا؟ قال: لا، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو قرأ علم ذلك الناس.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود - أيضاً - من طريق حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا أدري أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر
والعصر، أم لا؟
وهذه الرواية تقتضي أنه شك في ذلك، ولم يجزم فيه بشيء.

وخرج الإمام أحمد من رواية الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: ما أدري أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر، أم لا، ولكنا نقرأ.

الحسن العرني، لم يسمع من ابن عباس.

وروى موسى بن عبد العزيز القنباري، عن الحكم - هو ابن أبان - عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: لم أسمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الظهر والعصر، ولم يأمرنا به، وقد بلغ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قد روي عن ابن عباس من وجه آخر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ، ولكن في إسناده ضعف.

خرجه أبو داود في ( ( كتاب الصلاة) ) من طريق سفيان، عن زيد العمي، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال رمق أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحزروا قراءته في الظهر والعصر، بقدر ( تَنْزِيلُ) [السجدة: ] ،
وقال: لم يسنده عن سفيان إلاّ يزيد بن هارون، ولم نسمعه من أحد إلاّ من الحسن بن منصور، وذكرته لأبي: فأعجب به، وقال: حديث غريب.

وزيد العمي، متكلم فيهِ.