فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب حسن إسلام المرء

31 - فصل
خرج البخاري من حديث:
[ قــ :41 ... غــ :41 ]
- زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان أزلفها ، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها؛ إلا أن يتجاوز الله عنها ".



[ قــ :4 ... غــ :4 ]
- همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها ".

إحسان الإسلام تفسر بمعنيين: أحدهما: بإكمال واجتناب محرماته.
ومنه الحديث المشهور المروي في " السنن": " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فكمال حسن إسلامه – حينئذ – بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه.
ومنه حديث ابن مسعود الذي خرجاه في" الصحيحين " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" .
فإن المراد بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية.

وفي حديث ابن مسعود هذا حديث أبي سعيد – الذي علقه البخاري هنا في أول الباب – دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها.

وقد ذكر ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر بن عبد العزيز ابن جعفر وغيره، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وهو اختيار الحليمي.
ثم وجدته منصوصا عن الإمام أحمد؛ فنقل الميموني في " مسائله " عن أحمد قال: بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول: لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، والنبي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في غير حديث: " إنه يؤاخذ "، يعني: حديث شقيق، عن ابن مسعود: أزاد " إذا أحسنت في الإسلام ".
انتهى
وكذلك حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن من أسلم وهو مصر على الكبائر، كفر ( 01 – ب / ف) الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة.
وخالف في ذلك آخرون، وقالوا: بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنب وإن أصر عليها في الإسلام.
وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما واستدلوا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الإسلام يهدم ما كان قبله ".
خرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص .

وأجاب الأولون عنه: بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه جميعا بينه وبين الحديثين المتقدمين.
واستدلوا بقوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
وأجاب الأولون بأن المراد: يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه.
وتأول بعض أهل القول الثاني حديث ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني.
ومنهم من حمله على إسلام المنافق.
وهذا بعيد جدا.
ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقا فلم يبق معه الإسلام حتى يسيء فيه.
والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول:
أحدها: قول جمهور أهل السنة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام احمد لا يثبت.
وقد تأول ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد " وابن عقيل في " فصوله ".
وأما المعتزلة: فخالفوا في ذلك، وقال من قال منهم كالجبائي بناء على هذا: إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره.
وهذا قول باطل لم يوافقهم عليه أحد من العلماء.
الأصل الثاني: أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وقد ذكره ابن حامد من أصحابنا وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء: أن ذلك ليس بشرط.

والأصل الثالث: أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به.
وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر.
وهذا فيه خلاف يذكر في موضع آخر إن شاء الله.
وجعل منه أن النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية.

والأصل الرابع: أن التوبة من الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه، فالكافر إذا أسلم وهو مصر على ذنب آخر صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب منه؛ بل هو مصر عليه.

وخرج النسائي حديث مالك الذي علقه البخاري هنا، وزاد في أوله: " كتب الله كل حسنة كان أزلفها " .
وهذا يشبه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحكيم بن حزام لما قال له: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي منها من شيء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أسلمت على ما أسلفت من خير " خرجه مسلم .

وكلاهما يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها ويكون إسلامه المتأخر كافيا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه ( 0 - أ / ف) .

ورجح هذا القول ابن بطال والقرظي وغيرهما.
وهو مقتضى قول من قال: إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم – كما سبق وحكى مثله عن إبراهيم الحربي.
ويدل عليه - أيضا -: أن عائشة لما سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابن جدعان وما كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك؟ فقال: " إنه لم يقل يوما قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
وهذا يدل على أنه لو قال ذلك يوما من الدهر – ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.
ومما يستدل به – أيضا -: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم: " إنه يؤتى أجره مرتين ؛ مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطا، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله.
وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم وقالوا: الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة، ولذلك من كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته ثم تاب؛ فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات.

وقد ورد في هذا آثار عن السلف، قال ابن مسعود: عبد الله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله، ثم أصابته زمانه وأقعد فرأى رجلا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة.
خرجه ابن المبارك في كتاب: البر والصلة "
بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان مقبولا، وإنما طرأ عليه ما يحبطه بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه.
ومن كان مسلما وعمل صالحا في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور، ولا يبعد أن يقال: إنه إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه، والله أعلم.

وقد وردت نصوص أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات، وهذا أبلغ مما قبله، ويدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا.
ولا يستبعد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات؛ فإنه لابد أن يثاب عليها في الدنيا.
وفي إثابته عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نزاع مشهور.
فإذا لم يكن بد من إثابته فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة؛ لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر، وقد زال.
وقد يستدل لهذا – أيضا – بقول الله عز وجل في قصة أسارى بدر { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] وقد كان العباس بن عبد المطلب – وهو من جملة هؤلاء الأسارى – يقول: أما أنا فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ووعدني المغفرة .
فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته، فلأن يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى؛ فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضى بها، وأما نفس المصيبة ( 0 – ب / ف) فقد قيل: إنه يثاب عليها، وقيل: إنه لا يثاب عليها؛ وإنما يكفر عنه ذنوبه.
وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة.

والمعنى الثاني – مما يفسر به إحسان الإسلام -: أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه.
وهذا هو الذي فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام.

وقد دل حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه.

وخرج ابن أبي حاتم من رواية عطية العوفي، عن ابن عمر قال: نزلت { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] في الأعراب فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن! فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر ثم تلا قوله { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] .
ويشهد لهذا المعنى: ما ذكره الله عز وجل في حق أزواج نبيه فقال { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة} إلى قوله { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 30 – 3] فدل على أن من عظمت منزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره.

وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المعنى لدخول أزواجه؛ فلذلك من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه والله أعلم.

ويشهد لذلك: أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أخرجت للناس أجرها مرتين، قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 8] .

وفي الحديث الصحيح: " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قيراط قيراط، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا؟ ! فقال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء .

وأما من أحسن عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة.
ولهذا روي في حديث عمار المرفوع: " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى بلغ العشر ؛ فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله، والله أعلم