فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا ركع دون الصف

باب
إذا ركع دون الصف
[ قــ :762 ... غــ :783 ]
- حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا همام، عن الأعلم - وهو: زياد -، عن الحسن، عن أبي بكرة، أنه انتهى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ( ( زادك الله حرصاً ولا تعد) ) .

في إسناد هذا الحديث شيئأن:
أحدهما: أنه اختلف فيه على الحسن:
فرواه زياد الأعلم وهشام، عن الحسن، عن أبي بكرة.

وفي رواية: عن زياد، عن الحسن، أن أبا بكرة حدثه - فذكره.

خرَّجه أبو داود.

ورواه يونس وقتادة، واختلف عنهما:
فقيل: عنهما كذلك.

وقيل: عنهما، عن الحسن - مرسلاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكرة.
وكذا روي، عن حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم - أيضاً.

خرَّجه من طريقه أبو داود.

الثاني: أنه اختلف في سماع الحسن من أبي بكرة، فأثبته ابن المديني والبخاري وغيرهما، وكذلك خرج حديثه هذا، ونفاه يحيى بن معين -: نقله عنه ابن أبي خيثمة.

ويؤيده: أنه روي عن الحسن مرسلاً، وأن الحسن روى عن الأحنف، عن أبي بكرة حديث: ( ( إذا التقى المسلمأن بسيفيهما) ) .

وهذا مما يستدل به على عدم سماعه منه، حيث أَدخل بينه وبينه في حديث آخر واسطةً.

وقد روى هشام بن حسأن، عن الحسن، أنه دخل مع أنس بن مالك ٍعلى أبي بكرة وهو مريض.
وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أخبرني أبو بكرة - فذكر حديث صلاة الكسوف.

إلا أن مبارك بن فضاله ليس بالحافظ المتقن.

وقال الشافعي في حديث أبي بكرة هذا: إسناده حسن.

وقد استدل بهذا الحديث على مسألتين.

المسألة الأولى:
من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة، وإن فاته معه القيام وقراءة
الفاتحة.

وهذا قول جمهور العلماء، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعا من
العلماء.
وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام، هذا مع كثرة اطلاعه وشدة ورعه في العلم وتحريه.

وقد روي هذا عن عليٍ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابتٍ وأبي هريرة - في رواية عنه رواها عبد الرحمن بن إسحاق المديني، عن المقبري، عنه.

وذكر مالك في ( ( الموطأ) ) أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه قال: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة.

وهو قول عامة علماء الأمصار.

ثم من رأى أن القراءة لا تجب على المأموم استدل به على أن القراءة غير لازمة للمأموم بالكلية، ومن رأى لزوم القراءة له كالشافعي قال: إنها تسقط ها هنا للضرورة وعدم التمكين منها.

وجعله إسحاق دليلاً على أن القراءة لا تجب إلا في ثلاث ركعاتٍ من الصلاة.

ولازم هذا: أنه لو أدرك الركوع في ركعةٍ من الصبح أنه لا يعتد بها؛ لأنه فاتته القراءة في نصف الصلاة.

وهذا التفصيل محدث مخالف الإجماع.

وقد روي أن الصلاة التي ركع فيها أبو بكرة هي صلاة الصبح، وسيأتي - إن شاء الله.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام، لأنه فاته مع الإمام القيام وقراءة الفاتحة، وإلى هذا المذهب ذهب البخاري في ( ( كتاب القراءة خلف الإمام) ) ، وذكر فيه عن شيخه علي بن المديني أن الذين قالوا بإدراك الركعة بإدراك الركوع من الصحابة كانوا ممن لا يوجب القراءة خلف الإمام، فأما من رأى وجوب القراءة خلف الإمام، فأنه قال: لا يدرك الركعة بذلك، كأبي هريرة، فأنه قال: للمأموم: أقرأ بها في نفسك.
وقال: لا تدرك الركعة بإدراك الركوع.

وخرَّج البخاري في ( ( كتاب القراءة) ) من طريق ابن إسحاق: أخبرني الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام: قائماً قبل أن تركع.

ثم ذكر أنه رأى ابن المديني يحتج بحديث ابن إسحاق، ثم أخذ يضَّعف عبد الرحمن بن إسحاق المديني الذي روى عن المقبري، عن أبي هريرة خلاف رواية ابن إسحاق، ووهَّن أمره جداً.

وقد وافقه على قوله هذا، وأن من أدرك الركوع لا يدرك به الركعة، قليل من المتأخرين من أهل الحديث، منهم: ابن خزيمة وغيره من الظاهرية وغيرهم وصَّنف فيه أبو بكر الصبغي من أصحاب ابن خزيمة مُصنفاً.
وهذا شذوذٌ عن أهل العلم ومخالفةٌ لجماعتهم.

وقد روي عن زيد بن وهب، أنه أدرك الركوع وقضى تلك الركعة، وهذا يحتمل أنه شك في إدراكها إدراكاً يعتد به، فلا ينسب به إليه مذهب.

وقد روي عن ابن عمر، أنه إذا امترى: هل ركع قبل رفع إمامه أم لا، لم يعتد بتلك الركعة، وهو قول جمهور العلماء.

وأيضا؛ فقد قال زيد بن وهب: إنه كان وابن مسعودٍ، وإنهما ركعا دون الصف، قال: فلما فرغ الإمام قمت أقضي، وأنا أرى أني لم أدرك.

فقال ابن مسعودٍ: قد أدركته.

فتمام الرواية يدل على أن ما فعله قد أنكره عليه ابن مسعود، ولم يكن أحد من التابعين يصر على فعله مع إنكار الصحابة عليه.

والمروي عن أبي هريرة قد اختلف عنه فيه، وليس عبد الرحمن بن إسحاق المديني عند العلماء بدون ابن إسحاق، بل الأمر بالعكس؛ ولهذا ضَّعف ابن عبد البر وغيره رواية ابن إسحاق، ولم يثبتوها، وجعلوا رواية عبد الرحمن مقدمة على روايته.

قال ابن عبد البر في المروي عن أبي هريرة: في إسناده نظر.
قال: ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به.
وقد روي معناه عن أشهب.

وعبد الرحمن بن إسحاق هذا يقال له: عباد.
وثَّقه ابن معين.
وقال أحمد: صالح الحديث.

وقال ابن المديني: هو عندنا صالح وسط -: نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة، وأنه قال في محمد بن إسحاق كذلك: إنه صالح وسط.

وهذا تصريح منه بالتسوية بينهما.

ونقل الميموني، عن يحيى بن معين، أنه قال في محمد بن إسحاق:
ضعيف.
وفي عبد الرحمن بن إسحاق الذي يري عن الزهري: ليس به بأس.
فصرح بتقديمه على ابن إسحاق.

وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال أبو داود: محمد بن إسحاق قدري معتزلي، وعبد الرحمن بن إسحاق قدري، إلا أنه ثقة.

وهذا تصريح من أبي داود بتقديمه على ابن إسحاق، فأنة وثقه دون ابن إسحاق، ونسبه إلى القدر فقط، ونسب ابن إسحاق إلى القدر مع الاعتزال.

وعامة ما أنكر عليه هو القدر، وابن إسحاق يشاركه في ذلك ويزيد عليه ببدع أخر كالتشيع والاعتزال؛ ولهذا خرَّج مسلم في ( ( صحيحه) ) لعبد الرحمن بن إسحاق ولم يخّرج لمحمد بن إسحاق إلا متابعة.

وأيضاً؛ فأبو هريرة لم يقل: إن من أدرك الركوع فاتته الركعة؛ لأنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما يقوله هؤلاء، إنما قال: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائماً قبل أن يركع، فعلل بفوات لحوق القيام مع الإمام.

وهذا يقتضي أنه لوكبر قبل أن يركع الإمام، ولم يتمكن من القراءة فركع معه كان مدركاً للركعة، وهذا لا يقوله هؤلاء، فتبين أن قول هؤلاء محدث لا سلف لهم
به.

وقد روي عن أبي سعيد وعائشة: لا يركع أحدكم حتى يقرأ بام القرآن.

هذا - إن صح - محمول على من قدر على ذلك وتمكن منه.

وقد أجاب البخاري في ( ( كتاب القراءة) ) عن حديث أبي بكرة بجوأبين:
أحدهما: أنه ليس فيه تصريح بأنه اعتد بتلك الركعة.
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه عن العود إلى ما فعله.

فأما الأول، فظاهر البطلان، ولم يكن حرص أبي بكرة على الركوع دون الصف إلا لإدراك الركعة، وكذلك كل من أمر بالركوع دون الصف من الصحابة ومن بعدهم أنما أمر به لإدراك الركعة، ولو لم تكن الركعة تدرك به لم يكن فيه فائدة بالكلية، ولذلك لم يقل منهم أحد: أن من ادركه ساجداً فأنه يسجد حيث أدركته السجدة، ثم يمشي بعد قيام الإمام حتى يدخل الصف، ولو كان الركوع دون الصف للمسارعة إلى متابعة الإمام فيما لا يعتد به من الصلاة، لم يكن فرق بين الركوع والسجود في ذلك.

وهذا أمر يفهمه كل أحد من هذه الأحاديث والآثار الواردة في الركوع خلف الصف، فقول القائل: لم يصرحوا بالاعتداد بتلك الركعة هو من التعنت والتشكيك في الواضحات، ومثل هذا إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والأنفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم.

فقد أنكر ابن مسعود على من خالف في ذلك، واتفق الصحابة على موافقته، ولم يخالف منهم أحدٌ، إلا ما روي عن أبي هريرة، وقد روي عنه من وجه أصح منه أنه يعتد بتلك الركعة.

واما الثاني، فإنما نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكرة عن الإسراع إلى الصلاة، كما قال: ( ( لا تأتوها وأنتم تسعون) ) ، كذلك قاله الشافعي وغيره من الأئمة، وسيأتي الكلام على ذلك فيما بعد – إن شاء الله تعإلى.

وكان الحامل للبخاري على ما فعله شدة إنكاره على فقهاء الكوفيين أن سورة الفاتحة تصح الصلاة بدونها في حق كل أحدٍ، فبالغ في الرد عليهم ومخالفتهم، حتى التزم ما التزمه مما شذ فيه عن العلماء، واتبع فيه شيخه ابن المديني، ولم يكن ابن المديني من فقهاء أهل الحديث، وأنما كان بارعا في العلل والأسانيد.

وقد روي عن النبي، أن ( ( من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) ) ، من حديث أبي هريرة، وله طرق متعددة عنه.
ومن حديث معاذ وعبد الرحمن بن الأزهر وغيرهم.
وقد ذكرناها مستوفاة في ( ( كتاب شرح الترمذي) ) .

وأكثر العلماء على أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا كبر وركع قبل أن يرفع إمامه، ولم يشترط أكثرهم أن يدرك الطمأنينة مع الإمام قبل رفعه.

ولأصحابنا وجه باشتراط ذلك.

ومن العلماء من قال: إذا كَّبر قبل أن يرفع إمامه فقد أدرك الركعة، وإن لم يركع قبل رفعه، منهم: ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر، وجعلوه بمنزلة من تخَّلف عن إمامه بنومٍ ونحوه.

ولكن الجمهور إنما قالوا بالمتخلف بالنوم ونحوه أنه يركع ثم يلحقه؛ لأنه كان متابعاً له قبل الركوع فيغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.

وروي عن هؤلاء الثلاثة – أيضاً.

وعن الحسن بن زياد –أيضاً -: أنه إذا كبر بعد رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد اعتد له بالركعة.

وقد تقدم عن الشعبي، أنه قال: إذا أنتهيت إلى الصف المؤخر، ولم يرفعوا رءوسهم، وقد رفع الإمام رأسه، فركعت معهم، فقد أدركت، لأن بعضهم أئمة لبعض.

المسألة الثانية:
أن من صلى خلف الصف وحده، فإنه يعتد بصلاته، ولا إعادة عليه، فإن أبا بكرة ركع خلف الصف وحده، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعادة صلاته.

وقد استدل بذلك الشافعي وغيره من الأئمة.

وممن روي عنه الركوع دون الصف والمشي راكعاً: ابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وابن الزبير، وكان يعلّم الناس ذلك على المنبر.

وروي عنه أنه قال: هو السنة.

وورد – أيضاً – أنه فعله، ولم يصححه الإمام أحمد عنه، وذكر أن الصحيح عنه النهي عنه.

وروي –أيضاً – فعله عن أبي بكر الصديق.

خرَّجه البيهقي بإسنادٍ منقطعٍ.

وهو قول سعيد بن جبير وعطاء، وقالا: يركع وإن لم يصل إلى صف النساء، ثم يمشي.

قال عطاء: ويرفع مع إمامه، ويسجد حين تدركه السجدة، فإن تشهد إمامه عقب ذلك تشهد معه، ثم قام إذا قام إلى الثالثة، فدخل في الصف حينئذٍ.
وممن رأي الركوع دون الصف والمشي راكعاً: زيد بن ثابت وعروة ومجاهد وأبو سلمة وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن جريج ومعمر.

وقاله القاسم والحسن: بشرط أن يظن أنه يدرك الصف.

ووجه هذا: أن المشي في الصلاة عملٌ فيها، فيغتفر فيه اليسير دون الكثير؛ فأنه منافٍ الصَّلاة فيبطلها، وهذا مخالف لقول سعيد بن جبير وعطاء: أنه يركع من حين دخوله المسجد خلف صفوف النساء.

وحكى ابن عبد البر عن مالكٍ والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً قدر ما يلحق.

وذكر عن القاضي إسماعيل، أن ابن القاسم روى عن مالكٍ: أنه لا يركع دون الصف، إلا أن يطمع أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه.

قال: وقال غيره: له أن يركع خلف الصف، ويتم ركعته، كما له أن يصلي خلف الصف وحده.
قال: وهو قول مالكٍ وأصل مذهبه قبل أن يرفعوا رءوسهم.
وقال الزهري والأوزاعي: إن كان قريباً من الصفوف فعل، وإلا لم يفعل.

وكذلك قاله الإمام أحمد -: نقله عنه ابن منصور.

وقالت طائفة: لا يركع حتى يقوم في الصف.

رواه محمد بن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إذا دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف.

وروي مرفوعاً، ووقفه أصح.

وروي - أيضاً - النهي عن ذلك عن الحسن والنخعي.

وهو رواية عن أحمد -: نقلها عنه أبو طالبٍ والحسن بن ثوابٍ والاثرم وغيرهم.

وقالت طائفة: أن كان منفرداً لم يركع حتى يدخل الصف، وإن كان مع غيره ركعوا دون الصف، وهو قول إسحاق وأبي بكر بن أبي شيبة، ونقله إسحاق بن هأنئ، عن أحمد، وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة.

ومن العجائب: أن البخاري ذكر في ( ( كتاب القراءة خلف الإمام) ) أن المروي عن زيد بن ثابت لا يقول به من خالفه في هذه المسألة، فإنه قال: روى الأعرج، عن أبي أمامة بن سهلٍ، قال: رأيت زيد بن ثابت ركع وهو بالبلاط لغير القبلة، حتى دخل في الصف.

ثم قال: وقال هؤلاء: إذا ركع لغير القبلة لم يجزئه.
أنتهى.

وهذه رواية منكرة لا تصح، وإنما ركع زيد للقبلة؛ كذلك رواه الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع، فاستقبل فكبر، ثم ركع، ثم دب راكعاً حتى وصل الصف.

خرَّجه عبد الرزاق، عن معمرٍ، عنه.
ورواه ابن وهب، عن يونس وابن أبي ذئب، عن ابن شهابٍ: أخبرني أبو أمامة بن سهل، أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكعٌ.
فمشى حتى إذا أمكنه أن يصل الصف وهو راكعٌ كبر، فركع، ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف.

وهذه الرواية تدل –أيضاً - على أنه كبر مستقبل القبلة، ولا يمكن غير ذلك
البتة.
فأما من قال: تصح صلاة المنفرد خلف الصف وحده و [ ... ] حديث أبي بكرة على ذلك.

والقول بصحة الصلاة فذاً خلف الصف: قول مالك وأبي حنيفة والثوري – في أشهر الروايتين عنه – والشافعي وابن المبارك والليث بن سعد.
وروي عن أبي جعفر محمد بن عليٍ.

وأما القائلون بأنه لا تصح صلاة الفذ خلف الصف: الحسن بن صالح والأوزعي – فيما حكاه ابن عبد البر، وخَّرجه حرب بإسناده، عنه – وقول أحمد وإسحاق ووكيع ويحيى بن معينٍ وابن المنذر، وأكثر أهل الظاهر، ورواية عن الثوري، رواها عصام،
عنه.

وروي –أيضاً - عن النخعي وحمادٍ والحكم وابن أبي ليلى.
وقيل: أنه لم يصح عن النخعي، وأنه إنما قال: يعتد بها، فصحفها من قرأها فقال: يعيدها.

وروي ذلك عن شريك، أنه قاله.

فهؤلاء لهم في الجواب عن حديث أبي بكرة طريقأن:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه عن ذلك، فلا تصح الصلاة بعد النهي عنه، وتصح إذا لم يعلم النهي.

قال أحمد، في رواية أبي طالب في الرجل يركع دون الصف، وهو جاهلٌ:
أجزأه.
وقيل له: لا يعيد، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة: ( ( لا تعد) ) فأجاز له صلاته لما لم يعلم، ونهاه أن يصلي بعد ذلك، فقال: ( ( زادك الله حرصا ولا تعد) ) .
قيل له: فإن كان لا يعلم، يقول: صلى فلأن وصلى فلأن؟
قال: لا تجزئه صلاته، يعيد الصلاة، قال أبو هريرة: لا يركع أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف.

ففرق بين الجاهل والمتأول، فأمر بالاعادة دون الجاهل.

وهذه الرواية إختيار الخرقي وابن أبي موسى وجماعة من متقدمي الأصحاب.

وقال بعض الأصحاب: أن هذا مطرد فيمن لم يتم الركعة وهو فذ، منهم: القاضي في ( ( شرح المذهب) ) .

ومنهم من قال: بل يطرد، ولو أتم الركعة فذاً.

ولم يذكر أكثرهم أنه مطرد فيما لو صلى –فذاً –الصلاة كلها جاهلاً بالنهي.

فظاهر كلام أحمد وتعليله يدل على أنه مطرد فيه – أيضاً -، وقد حكاه بعضهم رواية عن أحمد.

وقد حكى أبو حفص وغيره من أصحابنا فيمن فعل كفعل أبي بكرة – مع العلم بالنهي – هل تبطل صلاته؟ روايتين عن أحمد.

فادخلوا في ذلك من كبرَّ ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام.

وفي هذا الطريق نظر؛ فأن الذي أمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاعادة في حديث وابصة ابن معبد الظاهر أنه لم يكن عالماً بالنهي، ولم يسأله: هل علم النهي أم لا.

والطريق الثاني: أن أبا بكرة دخل في الصف قبل رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه.

وقد خرَّج حديثه أبو داود، وقال فيه: ثم مشى حتى دخل في الصف.

وخَّرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من وجه أخر، عن الحسن، عن أبي بكرة.

وحينئذٍ، فقد زالت فذوذيته قبل أن تفوته الركعة، فيعتد له بذلك.

وعلى هذا يحمل ما روي عن الصحابة في ذلك –أيضاً.

وقد اشار أحمد إلى هذا –أيضاً - في رواية أبي الحارث، وسأله عن رجل كَّبر قبل أن يدخل في الصف وركع دون الصف؟ فقال: قد كبر أبو بكرة، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( زادك الله حرصاً، ولا تعد) ) ولم يأمره أن يعيد –أيضاً.

وقد روي، عن ابن مسعودٍ وزيدٍ، أنهما ركعا دون الصف.

وهذه الرواية تخالف ما رواه الأثرم وغيره، أنه قال: لا يعجبني فعل زيد وابن مسعود، ورده بحديث أبي بكرة.

ولكن هذه الرواية توافق رواية ابن منصور المتقدمة بجواز الركوع خلف الصف، إذا ظن أنه يصل إليه قبل رفع الإمام.

وقد استدل طائفة من أصحابنا، منهم: أبو حفص البرمكي لهذه الرواية بحديث أبي بكرة، وحملوا قوله: ( ( ولا تعد) ) على شدة السعي إلى الصلاة، كما قاله
الشافعي.

وذكر ابن عبد البر أن معنى قوله: ( ( ولا تعد) ) عند العلماء: لا تعد إلى الإبطاء عن الصلاة حتى يفوتك منها شيء.

وهذا بعيد جداً، ولا يعرف هذا عن أحد من العلماء من المتقدمين.

وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، أنه جاء والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، فسمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوت نعلي أبي بكرة وهو يحضر؛ يريد أن يدرك الركعة، فلما أنصرف قال: ( ( من الساعي؟) ) قال أبو بكرة: أنا.
قال: ( ( زادك الله حرصا، ولا تعد) ) .

وفي رواية عبد العزيز: بشار الخياط، وهو غير معروف.
وخَّرجه ابن عبد البر من بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده، أنه دخل المسجد –ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، وهم ركوع -، فسعى إلى الصف، فلما أنصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من الساعي؟) ) قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله.
قال: ( ( زادك الله حرصاً، ولا تعد) ) .

وبكار، فيه ضَّعف.

وخَّرجه البخاري في "كتاب القراءة خلف الإمام " بإسناد ضعيف، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح، فسمع نفساً شديداً – أو بهراً – من خلفه، فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة: ( ( أنت صاحب هذا النفس؟) ) قال: نعم يا رسول الله، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فاسرعت المشي.
فقال له: ( ( زادك الله حرصاً، ولا تعد، صل ما أدركت، وأقض ما سُبقت) ) .

وفي إسناده: عبد الله بن عيسى الخزاز، ضعفوه.

وفي هاتين الروايتين: ما يدل على اعتداده بتلك الركعة، وهذا أمر غير مشكوكٍ فيه، وأنما يحتاج إليه لتعنت من يتعنت.

ومن أغرب ما روي في حديث أبي بكرة: ما خرَّجه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن رجل، عن الحسن، قال: التفت إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ( ( زادك الله حرصاً، ولا تعد) ) قال: فثبت مكانه.

وهذا يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له ذلك في الصلاة، وأنه لم يدخل الصف، فيستدل به على أن كلام الإمام لمصلحة الصلاة عمداً غير مبطل، ويستدل به –أيضاً - على صحة صلاة الفذ وحده، ولكنها مرسلة، في إسنادها مجهول، وابن جريج كان يدلس عن الضعفاء ومن لا يعتمد عليه كثيراً.

وعلى هذه الطريقة: فهل يختص جواز الركوع دون الصف بمن أدرك الركوع في الصف، أو لا يختص بذلك؟
ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور أنه يختص بمن أدرك الركوع في الصف؛ لأنه إنما أجاز الركوع خلفه لمن ظن أنه يدركه، فأنه إذا زالت فذوذيته في حال
الركوع، فلم يصل ركعة فذاً، والمنهي عنه أن يصلي فذاً ركعةً فأكثر، وأما إذا زالت فذوذيته قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة في الصف، فلا يكون بذلك فذاً؛ ولهذا لو قام خلف الإمام اثنأن فأحرم أحدهما قبل إحرام الآخر، لم يكن في تلك الحالة فذاً بالاتفاق.

وقد حكي عن جماعة من أصحابنا الاتفاق على تكبيرة الإحرام فذاً، لكن منهم من قال: كان القياس بطلأنها، وإنما ترك لحديث أبي بكرة.

وحكى ابن حامد –من أصحابنا – أنه تبطل تكبيرة الفذ خلف الإمام كالركوع.
وهذا إذا لم يكن لغرض إدراك الركعة، فأما أن كان لغرض إدراك الركعة، فهي المسألة التي سبق ذكرها.

وقد نص أحمد على التفريق بين أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه وبعده.

وفي رواية حرب، قال: لا بأس أن يركع دون الصف إذا أدرك الإمام راكعاً.

قلت: فأن رفع الإمام رأسه قبل أن يصل هو إلى الصف، فكانه أحب أن لا يعتد بهذه الركعة.

ومن الأصحاب من حكى فيما إذا زالت فذوذيته بعد الركوع وقبل السجود، فهل تصح صلاته؟ على روايتين.

كذلك حكى ابن أبي موسى في ( ( كتابه) ) ، وحكاه –أيضاً - جماعة بعده.

وحكاها –أيضاً - من المتقدمين أبو حفص، وقال: روى أبو داود، عن أحمد – فيمن ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف، وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف -: تجزئه ركعة، فإن صلى خلف الصف وحده، أعاد الصلاة.

وظاهر هذه الرواية أنه يجزئه، ولو دخل في الصف بعد رفع إمامه، ما لم يصل ركعة كاملة وحده، وليس في حديث أبي بكرة أنه دخل في الصف قبل رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ووجه ذلك: أنه أدرك معظم الركعة في الصف، وهو السجدتان، فاكتفى بذلك في المصافة.

وقد قال بعض التابعين: أنه يكتفي بذلك في ادراك الركعة – أيضاً.
وإنما أبطل أحمد ومن وافقه صلاة الفذ خلف الصف؛ لحديث وابصة، وله طرق، من أجودها: رواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يسافٍ، عن عمرو بن راشدٍ، عن وابصة بن معبدٍ، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعيد الصلاة.

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.

وخَّرجه ابن حبان –أيضاً - من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد.

وخَّرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حصين، عن هلال بن يسافٍ، عن
زياد بن أبي الجعد، عن وابصة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وحسَّنه الترمذي.

ورواه –أيضاً – منصور، عن هلال بن يساف.

كذلك خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه ".

وأشار إلى ترجيح رواية حصين بمتابعة منصور له.
ورجح أحمد وأبو حاتم الرازي رواية عمرو بن مرة.

ورجح عبد الله الدارمي والترمذي رواية حصين؛ لأن الحديث معروف عن
زياد بن أبي الجعد، عن وابصة من غير طريق هلال بن يساف، فإنه رواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عبيد بن أبي الجعد، عن وابصة.

وقد خرَّجه من هذه الطريق ابن حبان في ( ( صحيحه) ) –أيضاً -، وذكر أن هلال بن يساف سمعه من زياد بن أبي الجعد، ومن عمرو بن راشد، كلاهما عن وابصة من غير واسطة بينهما.

ورجح الترمذي صحة ذلك، وأن هلالاً سمعه من وابصة مع زياد بن أبي الجعد.

وقد روي من وجوه متعدده ما يدل لذلك.

وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف اضطراباً في الحديث يوجب التوقف، وإلى ذلك يميل الشافعي في الجديد، وحكاه عن بعض أهل الحديث، بعد أن قال في القديم: لو صح قلت به.
فتوقف في صحته.

وممن رجح ذلك: البزار وابن عبد البر.
وأنكر الإمام أحمد على من قال ذلك، وقال: إنما اختلف عمرو بن مرة
وحصين.
وقال: عمرو بن راشد معروف.

وكذلك يحيى بن معين أخذ بهذا الحديث، وعمل به، حكاه عنه عباس الدوري، وهو دليل على ثبوته عنده.

وقد روي هذا الحديث عن وابصة من وجوه أخر.

وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه أخر، من أجودها: رواية ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبأن، عن أبيه علي بن شيبأن، قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبايعناه وصلينا خلفه.
قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أنصرف، قال: ( ( استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف) ) .

خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.

وفي رواية للامام أحمد: ( ( فلا صلاة لفرد خلف الصف) ) .

وكذلك خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما) ) .
وقال الإمام أحمد: حديث ملازم في هذا –أيضاً - حسن.

ورواته كلهم ثقات من أهل اليمامة، فأن عبد الله بن بدر ثقة مشهور، وثقه يحيى بن معينٍ وأبو زرعة والعجلي وغيرهم.

وملازم، قال الإمام أحمد: كان يحيى القطان يختاره على عكرمة بن عمار، ويقول: هو أثبت حديثاً.
وقال ابن معين: هو ثبت، وهو من أثبت أهل اليمامة.

وعبد الرحمن بن علي بن شيبأن، مشهور، وروى عنه جماعة من أهل اليمامة، وذكره ابن حبان في ( ( الثقات) ) .

وقد قال الإمام أحمد: لا اعرف لحديث وابصة مخالفاً.

يعني: لا يعرف له حديثاً يخالفه، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض، واطرادها واطراحها بعضها، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول.

وقد تأول بعضهم قوله: ( ( لا صلاة لفذ خلف الصف) ) على نفي الكمال دون الصحة: ويرد هذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالإعادة.

واختلف أصحابنا: هل تقع صلاة الفذ باطلة غير منعقدة، أو تنقلب نفلا؟ لهم فيه وجهان.

وأختار ابن حمادٍ وغيره أنها تنقلب نفلاً، وظاهر كلام الخرقي أنها تبطل بالكلية.

وتظهر فائدتها لو صلى ركعة فذاً خلف الصف، ثم جاء آخر فصف معه في الركعة الثانية، فإن قلنا: صلاته باطلة، فالثاني فذ – أيضاً – وإن قلنا: هو متنفل صحت مصافته.

ولأصحابنا وجه آخر: أن جماعته تبطل وتصح صلاته منفرداً.

وهو مروري عن النخعي، قال: صلاته تامةٌ وليس له تضعيفٌ.

خرَّجه البيهقي.

وعلى هذا، فيكون أمره بالإعادة في الجماعة ليحصل ثوابها ومضاعفتها، وليس ذلك في الحديث.

وقد يستدل به أن على من صلى منفرداً فعلية الإعادة، كما يقوله من يجعل الجماعة شرطاً لصحة الصلاة.

وهذا الوجه –أعني: بطلأن جماعته وصحة صلاته منفرداً – جزم به ابن عقيل من أصحابنا في موضع من كتابه ( ( الأصول) ) .

وحكى في موضع آخر منه وجهين: أحدهما: كذلك، وعلله بأن البطلأن يختص بالجماعة، فيصح فرضه ويكون منفرداً.
والثاني: يبطل فرضه وتصير صلاته نفلاً.

الوجهأن مطردأن في كل صلاة وجد فيها خلل يعود إلى الجماعة خاصة؛ كمن صلى فذاً قدام الإمام، أو أنتقل من الجماعة إلى الإنفراد لغير عذر، أو عكسه، أو أئتم بمن لا يجوز الإئتمام به.

ومن أصحابنا من قال: أن لم يعلم امتناع ذلك أنقلبت الصلاة نفلاً، وإن علم ففي البطلأن وأنقلابها نفلاً وجهأن، والأظهر الأول.

وإن صلى الفذ خلف الصف لا يسقط فرضه، وعليه إعادتها كما نص عليه أحمد وأكثر أصحابه.

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤكد أمر الصفوف وتعديلها وتسويتها، وهي من خصائص هذه الأمة كما سبق ذكره، فالمصلي في جماعة من غير مخل بما يلزم من القيام في الصف، فعليه الإعادة إذا تركه عمداً، وهو عالم بالنهي، قادر على الصلاة في الصف.
فأما إن كان جاهلاً ففيه خلاف سبق ذكره.
وإن كان عاجزاً ففيه خلاف يأتي ذكره – إن شاء الله تعإلى.

وقد عارض بعضهم حديث وابصة بحديث ابن عباس، لما صلى عن يسار النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأداره من ورائه إلى يمينه، قال: فهو في حال إدارته فذ.

وهذا ليس بشيء، فإن المصلي في صف إذا زال اصطفافه ثم عاد سريعا على وجه أكمل من الأول لم يضره ذلك، كما أن الإمام في صلاة الخوف تفارقه طائفة، ويبقى منتظراً لطائفة أخرى، ولا يضره ذلك.
والله أعلم.

ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن صلى الصلاة كلها خلف الصف أعاد صلاته، فأن صلى ركعة فذاً، ثم جاء أخر فقام إلى جنبه، فإنه يعيد تلك الركعة، فلم تبطل سوى ركعته التي كان فيها فذاً، وأمره أن يبني على تكبيرة الإحرام ومذهب أحمد: أنه إذا صلى ركعةً تامةً في أول صلاته فذاً أنه يعيد صلاته كلها واختلفت الرواية عنه: إذا صلى ركعة في الصف ثم صار فذاً.

ونقل مهنا عن أحمد في رجل صلى يوم الجمعة ركعة وسجدتين في الصف، ثم زحموه، فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده: يعيد تلك الركعة التي صلاها وحده.

ونقل عنه بعض أصحابه: أنه يعيد الصلاة كلها في هذه المسألة، منهم: ابناه صالح وعبد الله والأثرم وغيرهم.

وحمل القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه الكبير) ) رواية حنبلٍ على أحد وجهين:
أحدهما: ما أومأ إليه أبو بكر: أن الصلاة في هذه الحال أنعقدت في الصف، وإنما صار فذاً في أثنائها، ولا يمتنع أن ينافي الابتداء في الاستدامة، كالعدة والردة والإحرام في عقد النكاح.
أنه في هذه الحال صار فذاً بغير اختياره، فهي حال ضرورة.

هكذا حكى القاضي أبو يعلى وأصحابه مذهب أحمد.

وحكى أبو حفص الخلاف عن أحمد فيمن صلى ركعة فذاً: هل تبطل ركعته
فقط، أم صلاته كلها؟ وحكى في ذلك روايتين، وسوَّى بين الركعة الأولى وغيرها، ولم يفرق بين حال ضرورة وغيرها.

وذكر أن الحسن بن محمد روى عن أحمد، قال: إذا ركع ركعة سجد، ثم دخل في الصف، يعيد التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها.

قال أبو حفصٍ: والأصح عندي أنه يعيد ما صلى دون الصف حسب، فيعيد الركعة أو الركعتين، ولا يعيد ما صلى مع غيره، قال: لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة.

فصرح أبو حفص بأنه لو صلى ركعتين فذاً، ثم دخل في الصف، أو وقف مع غيره أنه يعيد ما صلى فذاً وحده.

ورد القاضي أبو يعلى قوله – فيما قرأته بخطه – بأن القياس يقتضي بطلان الصلاة فذاً في تكبيره والركوع، لأن ما أبطل جميع الصلاة يفسد بعضها، كالحدث.
قال: إنما أجاز ذلك القدر لحديث أبي بكرة.

يعني: أن أحمد اجاز صلاة الفذ إذا لم يتم الركعة فذاً، لحديث أبي بكرة.

فإن دخل في الصف، أو قام معه آخر قبل رفع الإمام، فمن الأصحاب من قال: يصح له ركعة بغير خلافٍ، لإدراكه الركعة في الصف، ومنهم من حكى فيه روايتين أيضاً.

وأن كان ذلك بعد أن رفع وقبل السجود ففيه روايتأن:
أصحهما: أنه لا يعتد بتلك الركعة، لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به
الركعة.

والثانية: لأنه أدرك في الصف السجدتين، وهما معظم الركعة.

وفي بطلأن صلاته من أصلها وبنائه على تكبيرته روايتأن – أيضاً -، على ما حكاه أبو حفص.

وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: تبطل صلاته روايةً واحدةً.

وأكثر النصوص عن أحمد تدل على البطلأن.
والله أعلم.

* * *