فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟

باب
هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟
[ قــ :308 ... غــ :312 ]
- حدثنا أبو نعيم: نا إبراهيم بن نافع، عَن ابن أبي نجيح، عَن مجاهد، قالَ: قالت عائشة: ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ، فإذا أصابه شيء مِن الدم قالت بريقها، فمصعته بظفرها.

وقد خرجه أبو داود، عَن محمد بنِ كثير: نا إبراهيم - يعني: ابن نافع -، قالَ: سمعت الحسن يذكر عَن مجاهد، قالَ: قالت عائشة: ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد فيهِ
تحيض، فإن أصابه شيء مِن دم بلته بريقها، ثُمَّ قصعته بريقها.

فخالف في إسناده: حيث جعل: ( ( الحسن) ) - وَهوَ: ابن مسلم - بدل: ( ( ابن أبي نجيح) ) ، وفي متنه: حيث قالَ: ( ( قصعته) ) بالقاف.

وكذا خرجه الإسماعيلي مِن حديث أبي حذيفة، عن إبراهيم، إلا أنَّهُ قالَ:
( ( قصعته بظفرها) ) .

وكأنه يشير إلى أن هَذهِ الرواية أصح مِن رواية البخاري.

قالَ الخطابي: مصعته بظرفها، أي: بالغت في حكه.
وأصل المصع: الضرب الشديد.

قالَ: وروي ( ( قصعته) ) أي: دلكته بالظفر، وعالجته بهِ، ومنه قصع القملة.

وقد سبق الحديث الذِي خرجه البخاري مِن رواية عمرو بنِ الحارث، عَن
عبد الرحمن بنِ القاسم.
، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت إحدانا تحيض، ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح على سائره، ثُمَّ تصلي فيهِ.

ولكن؛ هَذا فيهِ غسل الدم.

ورواه الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بن القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة، أنها أفتت بذلك، ولم يذكر حكاية فعلها مِن قبل.

وخرج أبو داود مِن رواية ابن عيينة، عَن ابن أبي نجيح، [عَن عطاء] ، عَن
عائشة، قالت: قَد كانَ يكون لإحدانا الدرع، فيهِ تحيض، وفيه تصيبها الجنابة، ثُمَّ ترى فيهِ قطرة مِن دم فتقصعه بريقها.

فهذا - أيضاً - فيهِ ذكر القصع بالريق كحديث مجاهد، عَن عائشة، ولكن فيهِ أن ذَلِكَ كانت تفعله بالقطرة مِن الدم، فيحمل ذَلِكَ على أنها كانت ترى ذَلِكَ يسيراً فيعفى عَن أثره، ويحتمل أنها كانت ترى الريق مطهراً، فيكون فيهِ دلالة على طهارة النجاسة بغير الماء.

وروى محمد بنِ سعد في ( ( طبقاته) ) : أنا الواقدي: ثنا ابن أبي ذئب، عَن صفية بنت زياد، قالت: رأتني ميمونة وأنا أغسل ثوبي مِن الحيضة، فقالت: ما كنا نفعل
هَذا، إنما كنا نحته حتاً.
الواقدي، ضعيف.

ويحمل [على] أنَّهُ كانَ دماً يسيراً.

وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين في ( ( كِتابِ الصلاة) ) : نا حبيب بنِ أبي
، قالَ: حدثتني أختي، عَن أم جرير، أنها كانت في نسوة عند عائشة، فقالت إحداهن: [يا] أم المؤمنين، المرأة تحيض في الثوب ثُمَّ تطهر، أتصلي فيهِ؟ قالت: إن رأت دماً فلتغسلهُ، وإن [لَم] تر دماً فلتنضحه سبع مرات بالماء، ثُمَّ لتصلي فيهِ.

إسناد مجهول.

وخرج أبو داود بإسناد فيهِ جهالة - أيضاً -، عَن عائشة، أنها قالت - في الحائض يصيب ثوبها الدم: تغسله، فإن لَم يذهب أثره فلتغيره بشيء مِن صفرة.
قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيض جميعاً، لا أغسل لي ثوباً.

وبإسنادٍ فيهِ جهالة - أيضاً - عَن أم سلمة، قالت: قَد كانَ يصيبنا الحيض عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتلبث إحدانا أيام حيضها، ثُمَّ تطهر، فتطهر الثوب الذِي كانت تلبث فيهِ، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيهِ، وإن لَم يكن أصابه شيء تركناه، ولم يمنعنا ذَلِكَ أن نصلي فيهِ.

وخرج الطبراني مِن حديث أم سلمة، قالت: كانت إحدانا تحيض في الثوب، فإذا كانَ يوم طهرها غسلت ما أصابه، ثُمَّ صلت فيهِ، وإن إحداكن اليوم تفرغ خادمها ليغسل ثيابها يوم طهرها.

وفي إسناده: المنهال بنِ خليفة، ضعفوه.

وخرجه وكيع عَنهُ في ( ( كتابه) ) .

وروى وكيع - أيضاً - عَن سفيان، عَن أبي هاشم، عَن سعيد بنِ جبير، قالَ: إن كانَ بعض أمهات المؤمنين لتقرص الدم مِن ثوبها بريقها.
وعن أبي العوام الباهلي، عَن عطاء، قالَ: لقد كانت المرأة وما لها إلا الثوب الواحد، فيهِ تحيض، وفيه تصلي.

وعن الفضل بنِ دلهم، قالَ: سألت الحسن عَن المرأة تحيض في الثوب فتعرق فيهِ؟ قالَ: لا بأس، إلا أن ترى دماً تغسله.

فأما ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود مِن حديث ابن لهيعة، عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن عيسى بنِ طلحة، عَن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، ليسَ لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيهِ، فكيف أصنع؟ قالَ: ( ( إذا طهرت فاغسليه، ثُمَّ صلي فيهِ) ) .
فقالت: فإن لَم يخرج الدم؟ قالَ: ( ( يكفيك الماء، ولا يضرك أثره) ) .

فابن لهيعة، ولا يحتج برواياته في مخالفة روايات الثقات.

وقد اضطرب في إسناده: فرواه: تارة كذلك.
وتارة رواه: عَن عبيد الله ابن أبي جعفر، عَن موسى بنِ طلحة، عَن أبي هريرة.

وخرجه الإمام أحمد مِن هَذا الوجه - أيضاً.

وهذا يدل على أنَّهُ لَم يحفظه.

وقد يحمل على أنَّهُ أمرها بغسل دم الحيض منهُ.

وقد حكى بعض أصحابنا في كراهة الصلاة في ثوب الحائض والمرضع روايتين عَن أحمد.

وقد روي عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي في [لحف] نسائه.

وخرجه النسائي والترمذي وصححه.

وخرجه أبو داود، وعنده: لا يصلي في شعرنا أو لحفنا - بالشك.

وفي رواية للإمام أحمد: لا يصلي في شعرنا - مِن غير شك.

و ( ( الشعار) ) : هوَ الثوب الذِي يلبس على الجسد.

وقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً.

وفي إسناده اختلاف على ابن سيرين.

وقد روي عَنهُ، أنَّهُ قالَ: سمعته منذ زمان، ولا أدري ممن سمعته، ولا أدري أسمعه مِن ثبت أو لا؟ فاسألوا عَنهُ.

ذكره أبو داود في ( ( سننه) ) ، والبخاري في ( ( تاريخه) ) .

وقال أبو بكر الأثرم: أحاديث الرخصة أكثر وأشهر.
قالَ: ولو فسد على الرجال الصلاة في شعر النساء لفسدت الصَّلاة فيها على النساء.

وهذا الكلام يدل على أن النساء لا يكره لهن الصلاة في ثياب الحيض بغير خلاف، إنما الخلاف في الرجال.

والأحاديث التي أشار إليها في الرخصة متعددة:
ففي ( ( صحيح مسلم) ) ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مِن الليل وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، على مرط، وعليه بعضه.

وخرج النسائي، عَن عائشة، قالت: كنت أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[نبيت] في الشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسلت ما أصابه، لَم يعده إلى غيره، ثُمَّ صلى فيهِ.

وخرج أبو داود وابن ماجه، عَن ميمونة، قالت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلي وعليه مرط، وعلى بعض أزواجه منهُ، وهي حائض، وَهوَ يصلي، وَهوَ عليهِ.

وخرج الإمام أحمد مِن حديث حذيفة، قالَ: قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وعليه طرف لحاف، وعلى عائشة طرفه، وهي حائض لا تصلي.

قالَ أبو عبيد في ( ( غريبة) ) : الناس على هَذا - يعني: على عدم كراهته.

واعلم؛ أن الصَّلاة في ثوب الحائض ليست كراهته مِن أجل عرقها؛ [فإن] عرق الحائض طاهر، نص عليهِ أحمد وغيره مِن الأئمة، ولا يعرف فيهِ [خلاف] -: قاله أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما، حتى قالَ حماد: إنما يغسل الثوب مِن عرق الحائض المجوس.

وروى محمد بنِ عبد الله الأنصاري، عَن هشام بنِ حسان، عَن حفصة بنت
سيرين، قالت: سألت امرأة عائشة، قالت: يكون علي الثوب أعرق فيهِ أيام تحيضي، أصلي فيهِ؟ قالت: نعم.
قالت: وربما أصابه مِن دم المحيض؟ قالت: فاغسليه.
قالت: فإن لَم يذهب أثره؟ قالت: فلطخيه بشيء مِن زعفران.

وإنما كره مِن كره ذَلِكَ لاحتمال أن يكون أصابه شيء مِن دم الحيض لَم يطهر -: كذا قاله أبو عبيد وغيره.

والصواب: أنَّهُ لا تكره الصلاة فيهِ، وأنه يغسل ما رئي فيهِ مِن الدم وينضح، ما لَم ير فيهِ شيء، ثُمَّ تصلي فيهِ، كَما دلت عليهِ هَذهِ السنن والآثار.
قالَ سفيان الثوري: الحائض لا تغسل ثوبها الذي حاضت فيهِ، إلا أن ترى دماً فتغسله.

وأما نضح ما لَم تر فيهِ دماً ,، فَهوَ مبني على أن النضح تطهير لما شك في نجاسته، وهذا قول مالك وجماعة مِن أهل العلم، وفيه خلاف سبق ذكره مستوفى في ( ( أبواب الوضوء) ) .