فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب: المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
باب
المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي
صلى فيها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:
[ قــ :471 ... غــ :483 ]
- ثنا محمد بن بكر المقدمي: ثنا فضيل بن سليمان: ثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة.
وسألت سالما، ولا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قد ذكرنا فيما سبق في ( ( باب: اتخاذ المساجد في البيوت) ) حكم أتباع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصلاة في مواضع صلاته، وأن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكذلك ابنه سالم.
وقد رخص أحمد في ذلك على ما فعله ابن عمر، وكره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة.
وقد كان ابن عمر مشهورا بتتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ذلك صلاته في المواضع التي كان يصلي فيها.
وهي على نوعين:
أحدهما: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصده للصلاة فيه، كمسجد قباء، ويأتي ذكره في موضعه من ( ( الكتاب) ) - إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفاقا لإدراك الصلاة له عنده، فهذا هو الذي اختص ابن عمر بأتباعه.
وقد روى ابن سعد: أنا معن بن عيسى: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منازله، كما كان ابن عمر يتبعه.
وروى أبو نعيم من رواية خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقلت: هذا مجنون.
ومن طريق عاصم الأحول، عمن حدثه، قال: كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن طريق أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفا يقع على خف - يعني: خف راحلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمسجد الذي وقع فيه الاختلاف بشرف الروحاء، والروحاء من الفرع، بينها وبين المدينة مرحلتان، يقال: بينهما أربعون ميلا، وقيل ثلاثون ميلا.
وفي ( ( صحيح مسلم) ) : بينهما ستة وثلاثون ميلا.
يقال: أنه نزل بها تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح، فسماها: الروحاء.
وقيل: إن بها قبر مضر بن نزار.
وقد روى الزبير بن بكار بإسناد له، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلى بشرف الروحاء، عن يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وعن يسارها وأنت مقبل من مكة.
ودون هذا الشرف الذي به هذا المسجد موضع يقال له: ( ( السيالة) ) ، ضبطها صاحب ( ( معجم البلدان) ) بتخفيف الياء، كان قرية مسكونة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبها آثار البناء والأسواق، وآخرها شرف الروحاء، والمسجد المذكور عنده قبور عتيقة، كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط منه في وادي الروحاء، ويعرف اليوم بوادي بني سالم.
هو حديث طويل، فنذكره قطعا قطعا، ونشرح كل قطعة منه بانفرادها:
قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :47 ... غــ :484 ]
- حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا أنس بن عياض: ثنا موسى بن
عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزوة، وكان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب، كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي، فدحا فيه السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتسمى - أيضا -: الشجرة، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل بها حين يعتمر وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه هذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بها تحت سمرة في موضع المسجد الذي بني بها، وهذا يدل على أن المسجد لم يكن حينئذ مبنيا، إنما بني بعد ذلك في مكان منزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد.
وقد روي أنه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أن يجعل مسجدا، حتى يجمع بذلك بين الحديثين.
وقد خرج البخاري في ( ( الحج) ) عن إبراهيم بن المنذر - أيضا -، عن أنس ابن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة
وخرج مسلم من حديث الزهري، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
ومن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
وفي ( ( الصحيحين) ) من حديث مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: ما أهل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة.
وفي رواية لمسلم من رواية حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة: إلا من عند الشجرة.
وخرج البخاري - أيضا - في ( ( الحج) ) من حديث عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: ( ( أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك؛ وقل: عمرة في حجة) ) .
ووادي العقيق متصل بذي الحليفة.
فهذا كان حال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفره إلى مكة.
فأما حاله في رجوعه إلى المدينة إذا رجع على ذي الحليفة من حج أو عمرة، أو من غزاة في تلك الجهة، فإنه كان يهبط بطن واد هنالك، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فيعرس هناك حتى يصبح.
قال الخطابي: التعريس: نزول استراحة بغير إقامة، وفي الأكثر يكون آخر الليل، ينْزلون فينامون نومة خفيفة، ثم يرتحلون.
قال: والبطحاء: حجارة ورمل.
قلت: المراد بالتعريس هنا: نومة حتى يصبح.
وقد خرجه البخاري في ( ( الحج) ) عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
وخرج فيه - أيضا - من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله يفعل ذلك.
ومن طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رئي وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة.
وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
وقد خرجه مسلم مع حديث مالك الذي قبله، وخرج حديث أنس بن عياض بلفظ أخر.
فظهر من هذه الأحاديث كلها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبيت بالمعرس، وهو ببطحاء ذي الحليفة حتى يصبح، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي هناك، وأنه كان هناك مسجد قد بني ولم يكن في موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كان قريباً منه.
وفي حديث سالم: أن المسجد كان ببطن الوادي، وفي حديث موسى بن عقبة بن نافع - الطويل الذي خرجه البخاري هنا -، أنه كان مبنياً بحجارة على أكمة، وفي حديثه: أنه كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم
يصلي.
قال الخطابي: الخليج: واد له عمق، ينشق من آخر أعظم منه.
والكثب: جمع كثيب، وهو ما غلظ وأرتفع عن وجه الأرض.
وقوله: ( ( فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه) ) .
قال الخطابي: معنى ( ( دحا السيل) ) : سواه بما حمل من البطحاء.
والبطحاء: حجارة ورمل.
وهذه الصلاة التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في هذا الموضع قد جاء في رواية إنها كانت صلاة الصبح إذا أصبح.
وقد خرجه الأمام أحمد عن موسى بن قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن
عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرس بها حتى يصلي صلاة الصبح.
قال ابن عبد البر في كلامه على حديث مالك الذي ذكرناه من قبل: هذه البطحاء المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس.
قال مالك في ( ( الموطإ) ) : لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي
فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس به، وأن ابن عمر أناخ به.
قال ابن عبد البر: واستحبه الشافعي، ولم يأمر به.
وقال أبو حنيفة: من مر بالمعرس من ذي الحليفة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل، وليس ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: وهو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتبع آثاره، فلذلك كان ينزل بالمعرس، لا أنه كان يراه واجباً ولا سنة على الناس.
قال ولو كان واجباً أو سنه من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفون وينزلون ويصلون، ولم يكن ابن عمر ينفرد بذلك دونهم.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعرس كسائر نزوله بطريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرس إنما كان يصلي فيه نافلة.
قال: ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخره عنه.
وذكر حديث موسى بن عقبه، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه، فقال له: ما حسبك؟ فذكر عذراً، قال: ما ظننت انك أخذت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضرباً.
انتهى.
وفي قوله: ( ( أنه صلى بالمعرس نافلة) ) نظر، وقد قدمنا أنه إنما صلى به الصبح لما أصبح.
وظاهر كلام أحمد: استحباب الصلاة بالمعرس، فإنه قال في رواية صالح: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وإنما أخرج أحمد ذلك مخرج الاحتجاج به؛ فإنه في أول هذه الرواية استحب ما كان ابن عمر يفعله من مسح منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومقعده منه.
وقد تبين بهذه النصوص المذكورة في هذا الموضع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من المدينة إلى مكة في طريق ويرجع في غيره، كما كان يفعل ذلك في العيدين، وكما كان يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها.
وقد خرج البخاري في ( ( الحج) ) من حديث ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس.
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن موضع الشجرة - وهو مسجد ذي الحليفة - غير طريق المعرس، والذي كان يرجع منه.
وخرج البزار نحوه من حديث أبي هريرة.
ثم رجعنا إلى بقية حديث موسى بن عقبة عن نافع الذي خرجه البخاري هاهنا:
[ قــ :473 ... غــ :485 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر، أو نحو ذلك.
هذا هو المسجد الذي اختلف فيه سالم ونافع، كما ذكرناه في شرح الحديث الأول.
وهذا الحديث: يدل على أن بالروحاء مسجدين: كبير وصغير، فالكبير بشرف الروحاء، ولم يصل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده، إنما صلى موضع الصغير عن يمين ذلك المسجد، وأن بين المسجدين رمية بحجر.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث.
[ قــ :473 ... غــ :486 ]
- وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
قال الخطابي: العرق: جبيل صغير.
ومنصرف الروحاء: المنصرف - بفتح الراء -، ويقال: أن بينه وبين بدر أربعة برد، والمسجد المبني هناك، قيل: أنه في آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل على يسار الذاهب إلى مكة.
وقيل: أنه لم يبق منه زمان إلا آثار يسيرة، وأنه كان يعرف حينئذ بمسجد الغزالة.
وذكروا: أن عن يمين الطريق لمن كان بهذا المسجد وهو مستقبل النازية موضع كان ابن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ثم شجرة، كان ابن عمر إذا نزل وتوضأ صب فضل وضوئه في أصلها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
والنازية: قال صاحب ( ( معجم البلدان) ) : - بالزاي وتخفيف الياء -: عين على طريق لآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.
ولم يصرح ابن عمر في صلاته إلى هذا العرق بأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليه، ولكن محافظته على الصلاة في هذا المكان ذاهبا وراجعا وتعريسه به حتى يصلي به يدل على أنه إنما فعل ذلك إقتداء بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :474 ... غــ :487 ]
- وأن عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
السرحة: شجرة، وتجمع على سرح كتمرة وتمر، وهو ضرب من الشجر له ثمر، وقيل: هي شجرة بيضاء.
وقيل: كل شجرة طويلة سرحة.
وقال إبراهيم الحربي: السرح شجر كبار طوال لا ترعى، يستظل به، لا ينبت في رمل أبدا، ولا جبل، ولا تأكله الماشية إلا قليلا، له غصن اصفر.
وقد وصفها بأنها ضخمة - أي: عظيمة -، وأنه انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق، وفي كثب كثيرة.
وقد سبق أن الكثب جمع كثيب، وهو ما غلظ وارتفع عن وجه الأرض.
والبطح: الواسع.
والرويثة مكان معروف بين مكة والمدينة.
وأما مكان هذه السرحة، فلا يعرف منذ زمان، وقد ذكر ذلك بعض من صنف في أخبار المدينة بعد السبعمائة، وذكر أنه لا يعرف في يومه ذاك من هذه المساجد المذكورة في هذا الحديث سوى مسجد الروحاء ومسجد الغزالة، وذكر معهما مسجدا ثالثا، وزعم أنه معروف - أيضا - بالروحاء، عند عرق الظبية، عند جبل ورقان، وذكر فيه حديثا رواه الزبير بن بكار بإسناد ضعيف جدا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا) ) .
وهذا لا يثبت، ولعله أحد المسجدين بالروحاء، وقد تقدم ذكرهما.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :475 ... غــ :488 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في طرف تلعة من وراء العرج كبيرة، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة، عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان
عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث زيادة في هذا بعد قوله: ( ( وأنت ذاهب على راس خمسة أميال من العرج فِي مسجد إلى هضبة) ) - وذكر باقيه.
والتلعة: المكان المرتفع من الأرض.
قال الخطابي: التلعة مسيل الماء من فوق لأسفل.
قال: والهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل.
والرضم: حجارة كبار واحدتها رضمة.
والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم.
وقيل: السلم يشبه القرظ وليس به.
انتهى ما ذكره.
وحكى غيره أن الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة وكل صخرة راسية تسمى هضبة، وجمعها هضاب -: قاله الخليل.
وقال الأصمعي: الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض.
والسلمات - بالفتح -: شجر، والسلمات بالكسر -: حجارة.
والرضم والرضام: دون الهضاب -: قاله أبو عمرو.
والوحدة منها رضمة.
والعرج: مكان معروف بين مكة والمدينة؛ يقال: أنه عقبة.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :476 ... غــ :489 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي اقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
قال الخطابي: هرشي: ثنية معروفة، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها.
وقال غيره: الغلوة - بفتح الغين المعجمة -: قدر رمية بعيدة بسهم أو حجر.
وعند الإمام أحمد في حديث ابن عمر هذا، في هذا الموضع زيادة: ( ( غلوة
سهم) ) .
وقال صاحب ( ( معجم البلدان) ) هرشي: ثنية في طريق مكة، قريبة من
الجحفة، يرى منها البحر ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بوادي الأزرق، فقال: ( ( أي واد هذا؟) ) قالوا: وادي الأزرق.
قال: ( ( كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية) ) ، ثم أتى على ثنية هرشي، فقال: ( ( أي ثنية هذا؟) ) قالوا: هرشي.
قال: ( ( كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي) ) .
قال هشيم: يعني: ليفا.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :477 ... غــ :490 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الطريق إلا رمية بحجر.
مر الظهران: معروف قريب من مكة ويسمى بطن مر.
والصفراوات: موضع قريب منه بينه وبين عسفان.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :478 ... غــ :491 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح، يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
هذه القطعة من هذا الحديث خرجها مسلم في ( ( صحيحه) ) عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبي ضمرة أنس بن عياض، بإسناد البخاري.
وذو طوى: يروى بضم الطاء وكسرها وفتحها، وهو واد معروف بمكة بين الثنيتين، وتسمى أحداهما: ثنية المدنيين، تشرف على مقبرة مكة، وثنية تهبط على جبل يسمى: الحصحاص، بحاء مهملة وصادين مهملين.
وكان بذي طوى مسجد بني بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه، وإنما صلى أسفل منه على أكمة غليظة.
وذكر الأزرقي في ( ( أخبار مكة) ) أن المسجد بنته زبيدة.
وخرج من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عم موسى بن عقبة، أن نافعا حدثه، أن ابن عمر اخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى حين يعتمر وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد.
قال ابن جريج: وحدثني نافع، أن ابن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل ذا طوى فيبيت به حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة الذي بالمسجد الذي بني ثم، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل مكة، تجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة اذرع ونحوها بيمين، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة.
كذا ذكره الأزرقي.
ومسلم بن خالد، لم يكن بالحافظ.
وهذا إنما يعرف عن موسى بن عقبة عن نافع، فجعله عن ابن جريج، عنه.
وبقي من الحديث الذي خرجه البخاري:
[ قــ :479 ... غــ :49 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
وهذه القطعة خرجها - أيضا - مسلم عن المسيبي، عن أبي ضمرة، وأعاد إسنادها بعد تخريج القطعة التي قبلها.
وهذا كله يوهم أن هذه صفة موضع آخر صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل دخوله مكة، وليس كذلك، وإنما هو من تمام صفة موضع صلاته بذي طوى كما ساقه الأزرقي في رواية.
والظاهر: أنه هناك مسجدان مبنيان بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يعرف منهما اليوم شيء.
وفرضة الجبل - بضم الفاء - مدخل الطريق إليه؛ وأصله مأخوذ من الفرض وهو القطع غير البليغ -: قاله الخطابي.
وفي مبيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي طوى، وصلاته الصبح في هذا المكان: دليل على أن من كان قادرا على الدخول إلى مكة معاينة الكعبة فله أن يصلي خارجا منها بغير معاينة، وأن من كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فله أن يصلي بالاجتهاد إلى الكعبة، ولا يلزمه أن يعلو فوق الجبال حتى يشهد الكعبة؛ لما في ذلك من الحرج والمشقة.
وهذا قول أصحابنا والشافعية، ولا نعلم فيه خلافا.
وهذا ( ( أخر أبواب المساجد) ) ، وبعدها ( ( أبواب السترة) ) ، وما يصلى إليه، والمرور بين يدي المصلي، ونحو ذلك.
المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي
صلى فيها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:
[ قــ :471 ... غــ :483 ]
- ثنا محمد بن بكر المقدمي: ثنا فضيل بن سليمان: ثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة.
وسألت سالما، ولا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قد ذكرنا فيما سبق في ( ( باب: اتخاذ المساجد في البيوت) ) حكم أتباع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصلاة في مواضع صلاته، وأن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكذلك ابنه سالم.
وقد رخص أحمد في ذلك على ما فعله ابن عمر، وكره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة.
وقد كان ابن عمر مشهورا بتتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ذلك صلاته في المواضع التي كان يصلي فيها.
وهي على نوعين:
أحدهما: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصده للصلاة فيه، كمسجد قباء، ويأتي ذكره في موضعه من ( ( الكتاب) ) - إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفاقا لإدراك الصلاة له عنده، فهذا هو الذي اختص ابن عمر بأتباعه.
وقد روى ابن سعد: أنا معن بن عيسى: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منازله، كما كان ابن عمر يتبعه.
وروى أبو نعيم من رواية خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقلت: هذا مجنون.
ومن طريق عاصم الأحول، عمن حدثه، قال: كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن طريق أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفا يقع على خف - يعني: خف راحلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمسجد الذي وقع فيه الاختلاف بشرف الروحاء، والروحاء من الفرع، بينها وبين المدينة مرحلتان، يقال: بينهما أربعون ميلا، وقيل ثلاثون ميلا.
وفي ( ( صحيح مسلم) ) : بينهما ستة وثلاثون ميلا.
يقال: أنه نزل بها تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح، فسماها: الروحاء.
وقيل: إن بها قبر مضر بن نزار.
وقد روى الزبير بن بكار بإسناد له، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلى بشرف الروحاء، عن يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وعن يسارها وأنت مقبل من مكة.
ودون هذا الشرف الذي به هذا المسجد موضع يقال له: ( ( السيالة) ) ، ضبطها صاحب ( ( معجم البلدان) ) بتخفيف الياء، كان قرية مسكونة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبها آثار البناء والأسواق، وآخرها شرف الروحاء، والمسجد المذكور عنده قبور عتيقة، كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط منه في وادي الروحاء، ويعرف اليوم بوادي بني سالم.
هو حديث طويل، فنذكره قطعا قطعا، ونشرح كل قطعة منه بانفرادها:
قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :47 ... غــ :484 ]
- حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا أنس بن عياض: ثنا موسى بن
عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزوة، وكان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب، كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي، فدحا فيه السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتسمى - أيضا -: الشجرة، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل بها حين يعتمر وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه هذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بها تحت سمرة في موضع المسجد الذي بني بها، وهذا يدل على أن المسجد لم يكن حينئذ مبنيا، إنما بني بعد ذلك في مكان منزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد.
وقد روي أنه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أن يجعل مسجدا، حتى يجمع بذلك بين الحديثين.
وقد خرج البخاري في ( ( الحج) ) عن إبراهيم بن المنذر - أيضا -، عن أنس ابن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة
وخرج مسلم من حديث الزهري، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
ومن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
وفي ( ( الصحيحين) ) من حديث مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: ما أهل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة.
وفي رواية لمسلم من رواية حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة: إلا من عند الشجرة.
وخرج البخاري - أيضا - في ( ( الحج) ) من حديث عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: ( ( أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك؛ وقل: عمرة في حجة) ) .
ووادي العقيق متصل بذي الحليفة.
فهذا كان حال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفره إلى مكة.
فأما حاله في رجوعه إلى المدينة إذا رجع على ذي الحليفة من حج أو عمرة، أو من غزاة في تلك الجهة، فإنه كان يهبط بطن واد هنالك، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فيعرس هناك حتى يصبح.
قال الخطابي: التعريس: نزول استراحة بغير إقامة، وفي الأكثر يكون آخر الليل، ينْزلون فينامون نومة خفيفة، ثم يرتحلون.
قال: والبطحاء: حجارة ورمل.
قلت: المراد بالتعريس هنا: نومة حتى يصبح.
وقد خرجه البخاري في ( ( الحج) ) عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
وخرج فيه - أيضا - من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله يفعل ذلك.
ومن طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رئي وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة.
وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
وقد خرجه مسلم مع حديث مالك الذي قبله، وخرج حديث أنس بن عياض بلفظ أخر.
فظهر من هذه الأحاديث كلها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبيت بالمعرس، وهو ببطحاء ذي الحليفة حتى يصبح، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي هناك، وأنه كان هناك مسجد قد بني ولم يكن في موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كان قريباً منه.
وفي حديث سالم: أن المسجد كان ببطن الوادي، وفي حديث موسى بن عقبة بن نافع - الطويل الذي خرجه البخاري هنا -، أنه كان مبنياً بحجارة على أكمة، وفي حديثه: أنه كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم
يصلي.
قال الخطابي: الخليج: واد له عمق، ينشق من آخر أعظم منه.
والكثب: جمع كثيب، وهو ما غلظ وأرتفع عن وجه الأرض.
وقوله: ( ( فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه) ) .
قال الخطابي: معنى ( ( دحا السيل) ) : سواه بما حمل من البطحاء.
والبطحاء: حجارة ورمل.
وهذه الصلاة التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في هذا الموضع قد جاء في رواية إنها كانت صلاة الصبح إذا أصبح.
وقد خرجه الأمام أحمد عن موسى بن قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن
عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرس بها حتى يصلي صلاة الصبح.
قال ابن عبد البر في كلامه على حديث مالك الذي ذكرناه من قبل: هذه البطحاء المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس.
قال مالك في ( ( الموطإ) ) : لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي
فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس به، وأن ابن عمر أناخ به.
قال ابن عبد البر: واستحبه الشافعي، ولم يأمر به.
وقال أبو حنيفة: من مر بالمعرس من ذي الحليفة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل، وليس ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: وهو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتبع آثاره، فلذلك كان ينزل بالمعرس، لا أنه كان يراه واجباً ولا سنة على الناس.
قال ولو كان واجباً أو سنه من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفون وينزلون ويصلون، ولم يكن ابن عمر ينفرد بذلك دونهم.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعرس كسائر نزوله بطريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرس إنما كان يصلي فيه نافلة.
قال: ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخره عنه.
وذكر حديث موسى بن عقبه، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه، فقال له: ما حسبك؟ فذكر عذراً، قال: ما ظننت انك أخذت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضرباً.
انتهى.
وفي قوله: ( ( أنه صلى بالمعرس نافلة) ) نظر، وقد قدمنا أنه إنما صلى به الصبح لما أصبح.
وظاهر كلام أحمد: استحباب الصلاة بالمعرس، فإنه قال في رواية صالح: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وإنما أخرج أحمد ذلك مخرج الاحتجاج به؛ فإنه في أول هذه الرواية استحب ما كان ابن عمر يفعله من مسح منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومقعده منه.
وقد تبين بهذه النصوص المذكورة في هذا الموضع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من المدينة إلى مكة في طريق ويرجع في غيره، كما كان يفعل ذلك في العيدين، وكما كان يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها.
وقد خرج البخاري في ( ( الحج) ) من حديث ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس.
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن موضع الشجرة - وهو مسجد ذي الحليفة - غير طريق المعرس، والذي كان يرجع منه.
وخرج البزار نحوه من حديث أبي هريرة.
ثم رجعنا إلى بقية حديث موسى بن عقبة عن نافع الذي خرجه البخاري هاهنا:
[ قــ :473 ... غــ :485 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر، أو نحو ذلك.
هذا هو المسجد الذي اختلف فيه سالم ونافع، كما ذكرناه في شرح الحديث الأول.
وهذا الحديث: يدل على أن بالروحاء مسجدين: كبير وصغير، فالكبير بشرف الروحاء، ولم يصل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده، إنما صلى موضع الصغير عن يمين ذلك المسجد، وأن بين المسجدين رمية بحجر.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث.
[ قــ :473 ... غــ :486 ]
- وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
قال الخطابي: العرق: جبيل صغير.
ومنصرف الروحاء: المنصرف - بفتح الراء -، ويقال: أن بينه وبين بدر أربعة برد، والمسجد المبني هناك، قيل: أنه في آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل على يسار الذاهب إلى مكة.
وقيل: أنه لم يبق منه زمان إلا آثار يسيرة، وأنه كان يعرف حينئذ بمسجد الغزالة.
وذكروا: أن عن يمين الطريق لمن كان بهذا المسجد وهو مستقبل النازية موضع كان ابن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ثم شجرة، كان ابن عمر إذا نزل وتوضأ صب فضل وضوئه في أصلها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
والنازية: قال صاحب ( ( معجم البلدان) ) : - بالزاي وتخفيف الياء -: عين على طريق لآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.
ولم يصرح ابن عمر في صلاته إلى هذا العرق بأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليه، ولكن محافظته على الصلاة في هذا المكان ذاهبا وراجعا وتعريسه به حتى يصلي به يدل على أنه إنما فعل ذلك إقتداء بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :474 ... غــ :487 ]
- وأن عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
السرحة: شجرة، وتجمع على سرح كتمرة وتمر، وهو ضرب من الشجر له ثمر، وقيل: هي شجرة بيضاء.
وقيل: كل شجرة طويلة سرحة.
وقال إبراهيم الحربي: السرح شجر كبار طوال لا ترعى، يستظل به، لا ينبت في رمل أبدا، ولا جبل، ولا تأكله الماشية إلا قليلا، له غصن اصفر.
وقد وصفها بأنها ضخمة - أي: عظيمة -، وأنه انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق، وفي كثب كثيرة.
وقد سبق أن الكثب جمع كثيب، وهو ما غلظ وارتفع عن وجه الأرض.
والبطح: الواسع.
والرويثة مكان معروف بين مكة والمدينة.
وأما مكان هذه السرحة، فلا يعرف منذ زمان، وقد ذكر ذلك بعض من صنف في أخبار المدينة بعد السبعمائة، وذكر أنه لا يعرف في يومه ذاك من هذه المساجد المذكورة في هذا الحديث سوى مسجد الروحاء ومسجد الغزالة، وذكر معهما مسجدا ثالثا، وزعم أنه معروف - أيضا - بالروحاء، عند عرق الظبية، عند جبل ورقان، وذكر فيه حديثا رواه الزبير بن بكار بإسناد ضعيف جدا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا) ) .
وهذا لا يثبت، ولعله أحد المسجدين بالروحاء، وقد تقدم ذكرهما.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :475 ... غــ :488 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في طرف تلعة من وراء العرج كبيرة، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة، عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان
عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث زيادة في هذا بعد قوله: ( ( وأنت ذاهب على راس خمسة أميال من العرج فِي مسجد إلى هضبة) ) - وذكر باقيه.
والتلعة: المكان المرتفع من الأرض.
قال الخطابي: التلعة مسيل الماء من فوق لأسفل.
قال: والهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل.
والرضم: حجارة كبار واحدتها رضمة.
والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم.
وقيل: السلم يشبه القرظ وليس به.
انتهى ما ذكره.
وحكى غيره أن الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة وكل صخرة راسية تسمى هضبة، وجمعها هضاب -: قاله الخليل.
وقال الأصمعي: الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض.
والسلمات - بالفتح -: شجر، والسلمات بالكسر -: حجارة.
والرضم والرضام: دون الهضاب -: قاله أبو عمرو.
والوحدة منها رضمة.
والعرج: مكان معروف بين مكة والمدينة؛ يقال: أنه عقبة.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :476 ... غــ :489 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي اقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
قال الخطابي: هرشي: ثنية معروفة، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها.
وقال غيره: الغلوة - بفتح الغين المعجمة -: قدر رمية بعيدة بسهم أو حجر.
وعند الإمام أحمد في حديث ابن عمر هذا، في هذا الموضع زيادة: ( ( غلوة
سهم) ) .
وقال صاحب ( ( معجم البلدان) ) هرشي: ثنية في طريق مكة، قريبة من
الجحفة، يرى منها البحر ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بوادي الأزرق، فقال: ( ( أي واد هذا؟) ) قالوا: وادي الأزرق.
قال: ( ( كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية) ) ، ثم أتى على ثنية هرشي، فقال: ( ( أي ثنية هذا؟) ) قالوا: هرشي.
قال: ( ( كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي) ) .
قال هشيم: يعني: ليفا.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :477 ... غــ :490 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الطريق إلا رمية بحجر.
مر الظهران: معروف قريب من مكة ويسمى بطن مر.
والصفراوات: موضع قريب منه بينه وبين عسفان.
رجعنا إلى بقية الحديث:
[ قــ :478 ... غــ :491 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح، يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
هذه القطعة من هذا الحديث خرجها مسلم في ( ( صحيحه) ) عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبي ضمرة أنس بن عياض، بإسناد البخاري.
وذو طوى: يروى بضم الطاء وكسرها وفتحها، وهو واد معروف بمكة بين الثنيتين، وتسمى أحداهما: ثنية المدنيين، تشرف على مقبرة مكة، وثنية تهبط على جبل يسمى: الحصحاص، بحاء مهملة وصادين مهملين.
وكان بذي طوى مسجد بني بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه، وإنما صلى أسفل منه على أكمة غليظة.
وذكر الأزرقي في ( ( أخبار مكة) ) أن المسجد بنته زبيدة.
وخرج من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عم موسى بن عقبة، أن نافعا حدثه، أن ابن عمر اخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى حين يعتمر وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد.
قال ابن جريج: وحدثني نافع، أن ابن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل ذا طوى فيبيت به حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة الذي بالمسجد الذي بني ثم، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل مكة، تجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة اذرع ونحوها بيمين، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة.
كذا ذكره الأزرقي.
ومسلم بن خالد، لم يكن بالحافظ.
وهذا إنما يعرف عن موسى بن عقبة عن نافع، فجعله عن ابن جريج، عنه.
وبقي من الحديث الذي خرجه البخاري:
[ قــ :479 ... غــ :49 ]
- وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
وهذه القطعة خرجها - أيضا - مسلم عن المسيبي، عن أبي ضمرة، وأعاد إسنادها بعد تخريج القطعة التي قبلها.
وهذا كله يوهم أن هذه صفة موضع آخر صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل دخوله مكة، وليس كذلك، وإنما هو من تمام صفة موضع صلاته بذي طوى كما ساقه الأزرقي في رواية.
والظاهر: أنه هناك مسجدان مبنيان بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يعرف منهما اليوم شيء.
وفرضة الجبل - بضم الفاء - مدخل الطريق إليه؛ وأصله مأخوذ من الفرض وهو القطع غير البليغ -: قاله الخطابي.
وفي مبيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي طوى، وصلاته الصبح في هذا المكان: دليل على أن من كان قادرا على الدخول إلى مكة معاينة الكعبة فله أن يصلي خارجا منها بغير معاينة، وأن من كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فله أن يصلي بالاجتهاد إلى الكعبة، ولا يلزمه أن يعلو فوق الجبال حتى يشهد الكعبة؛ لما في ذلك من الحرج والمشقة.
وهذا قول أصحابنا والشافعية، ولا نعلم فيه خلافا.
وهذا ( ( أخر أبواب المساجد) ) ، وبعدها ( ( أبواب السترة) ) ، وما يصلى إليه، والمرور بين يدي المصلي، ونحو ذلك.