فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من ترك العصر

باب
من ترك العصر
[ قــ :538 ... غــ :553 ]
- حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا هشام: أبنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".

قد سبق القول مبسوطا في حبوط العمل بترك بعض الفرائض وارتكاب بعض المحارم في " كتاب الايمان"، وبينا أن أكثر السلف والأمة على القول بذلك، وإمرار الاحاديث الواردة فيه على ما جاءت من غير تعسف في تأويلاتها، وبينا أن العمل إذا أطلق لم يدخل فيه الايمان وإنما يراد به أعمال الجوارح، وبهذا فارق قول السلف قول الخوارج؛ فإنهم أحبطوا بالكبيرة الإيمان [والعمل] ، وخلدوا بها في النار، وهذا قول باطل.

وأماالمتأخرون فلم يوافقوا السلف على ما قالوه، فاضطربوا في تأويل هذا الحديث وما أشبهه، وأتوا بأنواع من التكلف والتعسف.

فمنهم من قال: ترك صلاة العصر يحبط عمل ذلك اليوم.

ومنهم من قال: إنما يحبط العمل الذي هو تلك الصلاة التي تركها فيفوته أجرها، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد البر.

وهو من أضعف الاقوال، وليس في الإخبار به فائدة:
ومنهم من حمل هذا الحديث على ان من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فإنه يصير بذلك كافراً مرتداً، كما يقول ذلك من يقوله ممن يرى أن ترك الصلاة كفر.

وهذا يسقط فائدة تخصيص العصر بالذكر، فإن سائر الصلوات عنده كذلك.

وقد روي تقييد تركها بالتعمد:
فروى عباد بن راشد، عن الحسن وأبي قلابة؛ أنهما كانا جالسين، فقال أبو قلابة: قال أبو الدرداء: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من ترك صلاة العصر متعمداً حتى تفوته فقد حبط عمله".

خرجه الإمام أحمد.

وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء.

ورواه أبان بن أبي عياش - وهو متروك -، عن أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وروى راشد أبو محمد، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تترك صلاةً مكتوبةً متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة".

خرجه ابن ماجة.

وخرجه البزار، ولفظه: " فقد كفر".
وهذا مما استدل به على كفر تارك الصلاة المكتوبة متعمداً؛ فإنه لم يفرق بين صلاةٍ وصلاة.

وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره بنحوه، وقال: " فقد برئت منه ذمة الله عز وجل".

خرجه الإمام أحمد.

ورواه - أيضا - عمرو بن واقد - وهو ضعيف -، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ.

خرجه الطبراني ومحمد بن نصر المروزي.

وخرجه المروزي - أيضا - من طريق سيار بن عبد الرحمن، عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، وقال: " فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة".

وقال البخاري في " تاريخه": لا يعرف إسناده.
وروى مكحول عن أم أيمن، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تتركي الصلاة متعمداً؛ فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمةُ الله ورسوله".

خرجه الإمام أحمد.

وهو منقطع؛ مكحول لم يلق أم أيمن.

ورواه غير واحد؛ عن مكحول، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.

ورواه عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال عبد الرزاق: وأبنا شيخ من أهل الشام، عن مكحول، قال: ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر.

ورواه أبو فروة الرهاوي - وفيه ضعف -، عن أبي يحيى الكلاعي، عن جبير بن نفير، عن أميمة مولاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.

خرجه محمد بن نصر المروزي.

وذكر عن محمد بن يحيى الذهلي، أنه قال: هذه هي أم أيمن، فقال أبو فروة: أميمة - يعني: أنه أخطأ في تسميتها.

فأسانيد هذا الحديث كلها غير قوية.

وأماحديث بريدة، فصحيح، وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير: هشام الدستوائي والأوزاعي، فأماهشام فرواه كما خرجه البخاري من طريقه، وأماالأوزاعي فخالفه في إسناده ومتنه.

أماإسناده: فقيل فيه: عن الأوزاعي: حدثني يحيى، وثني أبو قلابة: حدثني أبو المهاجر، عن بريدة.

وخرجه من هذا الوجه الإمام أحمد وابن ماجة.

وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: هو خطأ من الأوزاعي، والصحيح حديث هشام الدستوائي.
وذكر – أيضا - أن أبا المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة، كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأ، وذكره في هذا الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من رواية أبي المليح، وكذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.

وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي الميح، كما رواه هشام، عن يحيى.

وخرجه من هذا الوجه الاسماعيلي في " صحيحه".

وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة.

وقيل: عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن بريدة، بغير واسطة بينهما.

وهذا كله مما يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه.

وأمامتنه، فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقال: " بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله".

كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والإسماعيلي وغيرهم.

فخالف هشأمافي ذلك؛ فإن هشأماقال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".

فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتكبير بصلاة العصر هو بريدة، وهو الصحيح.
واللفظ الذي رواه الأوزاعي لو كان محفوظاً لكان دليلاً على تأخير العصر في غير يوم الغيم، ولكنه وهم.

وقد خرج البخاري حديث بريدة فيما بعد وبوب عليه: " باب: التبكير بالصلاة في يوم غيم "، ثم خرج فيه حديث بريدة، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، فذكره كما خرجه هاهنا، غير أنه لم يذكر: " في غزوة"، وقال فيه: عن بريدة: " بكروا بالصلاة"، ولم يقل: " صلاة العصر".

قال الإسماعيلي: جعل الترجمة لقول بريدة، لا لما رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان حق هذه الترجمة أن يكون الحديث المقرون بها ما فيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الامر بتعجيل العصر في اليوم الغيم.

ثم ذكر حديث الأوزاعي بإسناده ولفظه، ثم قال: فإن كان هذا الإسناد لا يصح عنده كان ترك هذه الترجمة أولى.

وإنما أراد البخاري قول بريدة في يوم غيم: " بكروا بالصلاة"، ولهذا ساق الرواية التي فيها ذكر الصلاة، ولم يسقه كما ساقه في هذا الباب بتخصيص صلاة العصر، يشير إلى أنه يستحب في الغيم التبكير بالصلوات والقول بالتبكير لجميع الصلوات في يوم الغيم مما لا يعرف به قائل من العلماء، ولم يرد بريدة ذلك إنما أراد صلاة العصر خاصة، ولا يقتضي القياس ذلك، فإن التبكير بالصلوات في الغيم مطلقا يخشى منه وقوع الصلاة قبل الوقت، وهو محذور، والأفضل أن لا يصلي الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها.

فإن غلب على ظنه، فهل يجوز له الصلاة حينئذ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه جائز، وهو قول الثوري والشافعي وأكثر أصحابنا.

والثاني: لا يجوز حتى يتيقن، وهو وجه لأصحابنا وأصحاب الشافعي.

واستدل الأولون: بأن جماعة من الصحابة صلوا ثم تبين لهم أنهم صلوا قبل الوقت، فأعادوا، منهم: ابن عمر وأبو موسى، وهذا يدل على أنهم صلوا عن اجتهاد، وغلب على ظنهم دخول الوقت من غير يقين.

وقال الحسن: شكوا في طلوع الفجر في عهد ابن عباس، فأمر مؤذنه فأقام الصلاة.

خرجه ابن أبي شيبة.

وقال ابو داود: " باب: المسافر يصلي ويشك في الوقت"، ثم خرج من حديث المسحاج بن موسى، أن أنسا حدثه، قال: كنا إذا كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فقلنا: زالت الشمس، أو لم تزل، صلى الظهر ثم ارتحل.

والمنصوص عن أحمد: أنه لا يصلي الظهر حتى يتيقن الزوال في حضر ولا سفر، وكذا قال إسحاق في الظهر والمغرب والصبح؛ لأن هذه الصلوات لا تجمع إلى ما قبلها.

ولكن وقع في كلام مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة تسمية الظن الغالب يقينا، ولعل هذا منه.
والله اعلم.

وقد اختلف العلماء في الصلاة في يوم الغيم:
فقال الشافعي: ويحتاط ويتوخى أن يصلي بعد الوقت أو يحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف خروج الوقت.
وقال إسحاق نحوه.

ولا يستحب عند الشافعي التاخير في الغيم مع تحقق دخول الوقت، إلا في حال يستحب التاخير في الصحو كشدة الحر ونحوه.

وحكى بعض أصحابنا مثل ذلك عن الخرقي، وحكاه – أيضا - رواية عن أحمد.

وعن أبي حنيفة رواية باستحباب تاخير الصلوات كلها مع الغيم.

وقالت طائفة: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء مع الغيم، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأحمد، وحكي - أيضا - عن الحسن والأوزاعي، ونقله ابن منصور عن إسحاق.

وقال النخعي: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخر المغرب في يوم الغيم.

قال ابن المنذر: روينا عن عمر، أنه قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا العصر وأخروا الظهر.

قال أصحابنا: يستحب ذلك مع تحقق دخول الوقت.

واختلفوا في تعليل ذلك:
فمنهم من علل بالاحتياط لدخول الوقت، ولو كان الأمر كذلك لاستوت الصلوات كلها في التأخير.

ومنهم من علل بأن يوم الغيم يخشى فيه وقوع المطر، ويكون فيه ريح وبرد غالبا، فيشق الخروج إلى الصلاتين المجموعتين في وقتين، فإذا أخر الأولى وقدم الثانية خرج لهما خروجاً واحداً، فكان ذلك أرفق به، وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه.

واختلفوا: هل يختص ذلك بمن يصلي جماعة، أو تعم الرخصة من يصلي وحده؟ وفيه وجهان:
ومن المتأخرين من قال: المعنى في تأخير الأولى من المجموعتين في يوم الغيم وتعجيل الثانية: أن تعجيل الأولى منهما عن الوقت غير جائز، وتعجيل الثانية جائز في حال الجمع، والجمع يجوز عند أحمد للأعذار، والاشتباه في الوقت نوع عذر؛ فلهذا استحب تأخير الأولى حتى يتيقن دخول الوقت دون الثانية، فهذا احتياط للوقت لكن مع وقع الصلاة في الوقت المشترك فكان اولى.

وقد نص أحمد على ان المسافر حال اشتباه الوقت عليه في الصحو – أيضا - يؤخر الظهر ويعجل العصر؛ لهذا المعنى، وهو يدل على ان التفريق بين المجموعتين في وقت الأولى لا يضر وأن نية الجمع لا تشترط، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول " أبواب المواقيت".

ويدل – أيضا - على أنه يجوز تعجيل الثانية من المجموعتين، وإن لم يتيقن دخول وقتها، ويستحب تأخير الاولى منهما حتى يتيقن دخول وقتها في السفر والغيم، وهذا أشبه بكلام الإمام أحمد.

ومن أصحابنا من استحب تأخير الظهر وتعجيل العصر في الغيم دون المغرب لما في تأخيرها من الكراهة؛ فإن وقتها مضيق عند كثيرٍ من العلماء، والمنصوص عن أحمد خلافه.

وروي عن ابن مسعود، قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا الظهر والعصر، وأخروا المغرب والإفطار.

وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: عجلوا صلاة العصر؛ فإنه بلغنا ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " عجلوا الصلاة" –يعني: صلاة في اليوم الغيم.

وفي رواية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجلوا الصلاة في يوم غيم، وأخروا المغرب".

وكان الربيع بن خثيم إذا كان يوم غيم قال لمؤذنه: أغسق، أغسق - يعني: أخر حتى يظلم الوقت.

وروي استحباب التبكير بالصلاة في اليوم الغيم من وجوه:
فخرج محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة" بإسناد فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري - مرفوعاً -، قال: " أربع من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان" - فذكر منها -: " ابتدار الصلاة في اليوم الدجن".

وخرج ابن وهب في " مسنده" بإسناد ضعيف - أيضا -، عن أبي الدرداء - مرفوعاً -، قال: " تعجيل الصلاة في اليوم الدجن من حقيقة الإيمان".

وروى ابن سعد في " طبقاته" بإسناده، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصى ابنه عند موته بخصال الإيمان، وعد منها: تعجيل الصلاة في يوم الغيم.

وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان، فذكر منها: التبكير بالصلاة في اليوم الغيم.