فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم

بَابُ
الرَّجُلِ يَأتَمُّ بِالإِمَامِ، وَيأتَمُّ النَّاسُ بالْمَأمُومِ
ويذكر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ( ( ائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ) .

هذا الحديث، خرجه مسلم من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أصحابه تأخرا، فقالَ: ( ( تقدموا، فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ) .

والبخاري لا يخرج لأبي نضرة، فذلك علق حديثه هذا على هذا الوجه.

قالَ البخاري:
[ قــ :692 ... غــ :713 ]
- حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقالَ: ( ( مروا أبا بكر يصلي بالناس) ) .
فقلت: يا رسول الله، أبو بكر رجل أسيف، وأنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر؟ فقالَ: ( ( مروا أبا بكر يصلي
بالناس)
)
.
فقلت لحفصة: قولي لهُ: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر.
قالَ: ( ( إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس) ) .
فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى جلس عن يسار أبو بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي قاعدا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.

قد تقدم ذكر هذا الحديث والإشارة إلى ما قيل في هذه اللفظة، وهي: ( ( عن يسار أبي بكر) ) ؛ فأن أبا معاوية تفرد بها، وما قيل فيما بعدها، وأنه مدرج، واختلاف الناس: هل كانَ أبو بكر إماما أو مأموما.

فإن قوله: ( ( يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ) قد قيل أن المراد به:
أنه كانَ يراعي في صلاته التخفيف على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويفعل ما كانَ أسهل عليهِ وأخف وأيسر، فكان ذَلِكَ اقتداؤه به، من غير أن يكن مؤتما به، كما قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن أبي العاص لما استعمله على الطائف، وأمره بتخفيف الصلاة بالناس، وقال لهُ: ( ( اقتد بأضعفهم) ) – أي: راع حال الضعفاء ممن يصلي وراءك، فص صلاة لا تشق عليهم.

والأكثرون فسروا اقتداء أبي بكر بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأنه كانَ مؤتما بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر.

وأما قوله: ( ( والناس يقتدون بصلاة أبي بكر) ) فاختلف الناس في تأوياه – أيضا.

فقالت طائفة: المعنى أن أبا بكر كانَ يسمعهم التكبير لضعف صوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ، فكان اقتداؤهم بصوت أبي بكر، وكان مبلغا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن إماما
للناس، فاقتداء أبي بكر والناس كلهم إنما كانَ بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما كانَ أبو بكر يبلغ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التكبير؛ ليتمكنوا من الاقتداء.

ومما يتفرع على ذَلِكَ: أن الشعبي قالَ: إذا انتهيت إلى الصف الآخر، ولم يرفعوا رؤسهم، وقد رفع الإمام، فاركع؛ فإن بعضكم أئمة بعض.

وهذا قول غريب، والجمهور على خلافه، وأن الاعتبار بالإمام وحده في إدراك الركعة بإدراك ركوعه.

وهذا هوَ المعنى الذي بوب عليهِ البخاري هاهنا، وكذلك عليهِ النسائي وغيره.

وهو قول أصحاب الشافعي، على قولهم: إن أبا بكر كانَ مؤتما بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنهم اختلفوا: هل كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر، أو مأموما به؟ على وجهين.

وقال الإمام أحمد: بل كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر، وكان أبو بكر إماما للناس الذين وراءه، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الصلاة بإمامين: هل هي من خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو هوَ حكم عام يستوي فيهِ جميع الأمة؟ على ثلاث روايات عنه.
وأختار أبو بكر ابن جعفر وغيره من أصحابنا رواية اختصاص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك.

وروى حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ وجعا، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ووجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفة، فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وهو قاعد وأم الناس أبو بكر وهو قائم.

خرجه الدارقطني وغيره.

والصحيح: أن قوله: ( ( فوجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفة) ) إلى آخر الحديث مدرج من قول عروة، كما رواه مالك وابن نمير وغيرهما، عن هشام بغير هذا اللفظ، وقد سبق ذَلِكَ.