فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب السجود على الثوب في شدة الحر

باب
السجود على الثوب في شدة الحر
وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه.

روى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن، أن أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته.

فقد تضمن ما قاله الحسن في هذا مسألتين:
إحداهما:
سجود المصلي ويداه في كمه، أو في ثوبه، وقد حكى عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.

وروى أبو نعيم ووكيع في ( ( كتابيهما) ) عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانوا يصلون في برانسهم ومساتقهم وطيالستهم، لا يخرجون أيديهم.

وروى وكيع، عن الأعمش، عن محارب - أبو وبرة -، قَالَ: كان ابن عمر يلتحف بالملحفة، ثُمَّ يسجد فيها، لا يخرج يديه.
والصحيح عن ابن عمر: ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سجد يضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه.
قال: ولقد رايته في يوم شديد البرد ويخرج يديه من تحت برنس له.

وممن كان يسجد ويداه في ثوبه لا يخرجهما: سعيد بن جبير، وعلقمة، ومسروق، والأسود.

وحكى ابن المنذر، عن عمر الرخصة في السجود على الثوب في الحر، وعن عطاء وطاوس.
قال: ورخص فيه للحر والبرد النخعي والشعبي، وبه قال مالك والأوزاعي واحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، ورخص الشافعي في وضع اليدين على الثوب في الحر والبرد.
انتهى.

ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق: لا يسجد ويداه في ثوبه، إلا من برد أو علة، وكذا نقل غير واحد عن أحمد: أنه لا يفعل ذلك إلا من علة، ولا يفعله من غير علة.

وروى عنه جماعة من أصحابه: أنه لا باس بذلك، ولم يقيده بالعلة، فيحتمل أن يكون ذلك رواية عنه بعدم الكراهة مطلقا، ويحتمل أن تحمل رواياته المطلقة على رواياته المقيدة، وكلام أكثر أصحابنا يدل على ذلك، وفيه نظر.

وبكل حال؛ فيجرئ السجود وأن لم يباشر الأرض بيديه رواية واحدة، ولا يصح عن أحمد خلاف ذلك البتة، وإنما اصل نقل الخلاف في ذلك عن أحمد مأخوذ من كتب مجهولة لا يعرف أصحابها، فلا يعتمد عليها.

ومذهب مالك: أنه أن كان حر أو برد جاز له أن يبسط ثوبا يسجد عليه، ويجعل عليه كفيه، مع قوله: يكره السجود على الثياب من غير عذر، كما سبق.

وللشافعي قولان في وجوب السجود على الكفين.

وعلى قوله بالوجوب، فهل يجب كشفهما أو يجوز السجود عليهما وهما في
كمه؟ على قولين له - أيضا -، أصحهما: أنه يجوز.

وعلى القول الآخر، فإنما يجب كشف أدنى جزء منهما، لا كشف جميعهما.

المسألة الثانية:
سجود الرجل على كور عمامته وعلى قلنسوته، وقد حكى الحسن عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.

وممن روي عنه أنه كان يسجد على كور عمامته: عبد الله بن أبي أوفى، لكن من وجه فيه ضعف.

وروى عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يسجد على كور عمامته.

وقد خالفه من هو أحفظ منه كما سيأتي.

وروي عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ومسروق وشريح السجود على كور العمامة والبرنس.

ورخص فيه ابن المسيب والحسن ومكحول والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق.
وكان عبد الرحمن بن يزيد يسجد على كور عمامة له غليظة، تحول بينه وبين الأرض.

وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يفعله، من وجوه كلها باطلة، لا يصح منها شيء -: قاله البيهقي وغيره.

وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عنه، من وجوه مرسلة، وفيها ضعف - أيضا.

وروي عن علي، قال: إذا صلى أحدكم فليحسر العمامة عن جبهته.

وكان عبادة بن الصامت يفعله.

وروى أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يسجد على كور العمامة.

وروى عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان يحسر عن جبهته كور العمامة إذا سجد، ويخرج يديه، ويقول: أن اليدين تسجدان مع الوجه.

وكره ابن سيرين السجود على كور العمامة.

وعن عمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك.

وقال النخعي وميمون بن مهران: أبرز جبيني أحب إلي.

وقال عورة: يمكن جبهته من الأرض.
وقال مالك: من صلى على كور العمامة كرهته، ولا يعيد، وأحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى تمس الأرض بذلك -: نقله صاحب ( ( تهذيب المدونة) ) .

ومذهب الشافعي: لا يجزئه أن يسجد على كور عمامته، ولا على طرف ثوبه وما هو متصل به، حتى يكشف عن بعض محل سجوده فيباشر به المصلي.

وكره أحمد السجود على كور العمامة، إلا لعلة من حر أو برد يؤذيه، فلم يكرهه كذلك.

وقال - في رواية صالح -: لا باس بالسجود على كور العمامة، وأعجب إلي أن يبرز جبهته ويسجد عليها.

وقال - في رواية أبي داود -: لا يسجد على كور العمامة، ولا على القلنسوة.
قيل له: فمن صلى هكذا يعيد؟ قال: لا، ولكن لا يسجد عليها.

ولم يذكر القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير) ) وغيره من كتبه في صحة صلاته على كور العمامة ونحوها خلافا.

وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى: أنه إذا سجد على كور عمامته لغير حر ولا برد أنه لا يجزئه.

ولم نجد بذلك نصا عنه صريحا بالإعادة، إنما النص عنه بكراهته والنهي عنه.

وقد نقل أبو داود النهي عنه مع الإجزاء.

ونهى أحمد ابنه عبد الله عن سجوده في الصلاة على كمه، ولم يأمره بالإعادة.

وأما من نقل رواية عن أحمد بالإعادة مطلقا بذلك فلا يصح نقله.

وقول ابن أبي موسى: أن سجد على قلنسوته لم يجزئه - قولا واحدا -، لا يصح، ورواية أبي داود عن أحمد ترده.

ولو كان جبينه جريحا وعصبه بعصابة، جاز السجود عليها عند الشافعي، ولا إعادة عليه، ومن أصحابه من حكى وجها ضعيفا بالإعادة.

ولم يرخص عبيدة السلماني في السجود على العصابة للجرح، وهذا حرج شديد تأباه السمحة.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :381 ... غــ :385 ]
- ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك - هو: الطيالسي -: ثنا بشر بن المفضل: ثنا غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود.

وقد خرجه في موضع آخر من ( ( كتابه) ) من طريق ابن المبارك، عن خالد بن
عبد الرحمان - وهو: ابن بكير السلمي البصري -: حدثني غالب القطان، عن بكر المزني، عن أنس، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالظهر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر.
وقد خرجه مسلم من طريق بشر بن المفضل، عن غالب، ولفظه: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر، فإذا لم يستطع احدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.

وخرجه البخاري في أواخر ( ( الصلاة) ) كذلك.

وقد خرجه الترمذي من طريق خالد بن عبد الرحمان، وقال: حسن صحيح.

وإنما ذكرت هذا؛ لأن العقيلي قال: حديث أنس في هذا: فيه لين، ولعله ظن تفرد خالد به، وقد قال هو في خالد: يخالف في حديثه، وقد تبين أنه تابعه بشر بن المفضل على جلالته وحفظه.

وقد أدخل بعض الرواة في إسناد هذا الحديث: ( ( الحسن البصري) ) بين بكر وأنس، وهو وهم -: قاله الدارقطني.

ومن تأول هذا الحديث على أنهم كانوا يسجدون على ثياب منفصلة عنهم، فقد أبعد، ولم يكن أكثر الصحابة - أو كثير منهم - يجد ثوبين يصلي فيهما، فكانوا يصلون في ثوب واحد كما سبق، فكيف كانوا يجدون ثيابا كثيرة يصلون في بعضها ويتقون الأرض ببعضها؟!
وقد روي عن أنس حديث يخالف هذا:
خرجه أبو بكر ابن أبي داود في ( ( كتاب الصلاة) ) له: ثنا محمد بن عامر الأصبهاني: حدثني أبي: ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن عثمان الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرمضاء فإذا كان في ثوب أحدنا فضلة فجعلها تحت قدميه ولم يجعل تحت جبينه؛ لأن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت خفيفة في إتمام.

وقال: سنة تفرد بها أهل البصرة.

قلت: يشير إلى تفرد عثمان الطويل به عن أنس، وهما بصريان، وعثمان هذا قد روى عنه شعبة وغيره، وقال أبو حاتم فيه: هو شيخ.

وأما من قبل عثمان فهم ثقات مشهورون، فعنبسة هو: ابن سعيد قاضي الري، أصله كوفي، ثقة مشهور، وثقه أحمد ويحيى.
ويعقوب هو: القمي، ثقة مشهور - أيضا - وعامر هو: ابن إبراهيم الأصبهاني، ثقة مشهور من أعيان أهل أصبهان، وكذلك ابنه محمد بن عامر.

ولكن إسناد حديث بكر أصح، ورواته أشهر؛ ولذلك خرج في ( ( الصحيح) ) دون هذا.
والله أعلم.

واستدل بعض من لم ير السجود على الثوب بما روى أبو إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب، قال: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في الرمضاء، فلم يشكنا.

خرجه مسلم.

وفي رواية له - أيضا -: أتينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا.

قالوا: والمراد بذلك أنهم شكوا إليه مشقة السجود على الحصى في شدة الحر، واستأذنوه أن يسجدوا على ثيابهم، فلم يجبهم إلى ما سألوا، ولا أزال شكواهم.

واستدلوا على ذلك: بما روى محمد بن جحادة، عن سليمان بن أبي هند، عن خباب، قال: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شدة الحر في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا.

ويجاب عن ذلك: بأن حديث خباب اختلف في إسناده على أبي إسحاق: فروي عنه، عن سعيد بن وهب، عن خباب.
وروي عنه، عن حارثة بن مضرب، عن
خباب.

وقد قيل: إنهما من مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لم يرو عنهم غيره، وفي إسناده اختلاف كثير؛ ولذلك لم يخرجه البخاري.

وأما معنى الحديث: فقد فسره جمهور العلماء بأنهم شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في شدة الحر، وطلبوا منه الإبراد بها، فلم يجبهم، وبهذا فسره رواة الحديث، منهم: أبو إسحاق وشريك.

وقد خرجه البزار في ( ( مسنده) ) ، وزاد فيه: وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهجير.

وخرجه ابن المنذر، وزاد في آخره: وقال: ( ( إذا زالت الشمس فصلوا) ) .

وأما رواية من زاد فيه: ( ( في جباهنا واكفنا) ) ، فهي منقطعة.

حكى إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: هي مرسلة.

يعني: أن سليمان بن أبي هند لم يسمع من خباب.

وعلى تقدير صحتها، فقد يكون شكوا إليه ما يلقونه من شدة حر الحصى في سجودهم، وأنه لا يقيهم منه ثوب ونحوه.

وأيضا؛ فلو كانوا قد طلبوا منه السجود على ثوب يقيهم حر الرمضاء لأمرهم بالسجود على ثوب منفصل؛ فإن ذلك لا يكره عند الشافعي ولا عند غيره؛ لشدة الحر كما سبق.

فإن قيل: فحمله على هذا ترده أحاديث الأمر بالإبراد بالظهر في شدة الحر.

قيل: عنه جوابان:
أحدهما: أن ذلك كان قبل أن يشرع الإبراد بها، ثم نسخ، وقد روي من حديث المغيرة ما يدل على ذلك.
والثاني: أن شدة الحر في الصيف لا تزول في المدينة إلا بتأخر الظهر إلى آخر وقتها، وهو الذي طلبوه، فلم يجبهم إلى ذلك، وإنما أمرهم بالإبراد اليسير، ولا تزول به شدة حر الحصى.

وقد قيل: أنهم إنما شكوا إليه أنهم كانوا يعذبون في الله بمكة في حر الرمضاء قبل الهجرة، وطلبوا منه أن يدعو لهم ويستنصر، فأمرهم بالصبر في الله.

وقد روى قيس ابن أبي حازم، عن خباب هذا المعنى صريحا، وبهذا فسره علي بن المديني وغيره.

والصحيح: الأول.
والله أعلم.