فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفوفهم
باب
وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفُوفهم
لما أن تعين ذكر صفة الصلاة، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز، وصفوفهم مع الرجال.
وذكر في الباب أحاديث ستة، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها.
ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ.
وهي نوعان:
أحاديث: ( ( مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ) ) .
وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ، أجودها: من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والترمذي –وقال: حسنٌ صحيحٌ –وابن خزيمة في ( ( صحيحه) ) والحاكمُ –وقال: على شرط مسلم.
وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وقالوا: يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ، ويضرب على تركها لعشرٍ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وتقل ابن منصورٍ، عنهما، أنهما قالا: إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد.
واختلف أصحابنا: هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال، أم لا؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ، وضربه إذا نركها لعشر.
ومنهم من قال: هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً، يضربه على تركها.
وقد قيل: إن الضرب على الترك، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة.
ومن العلماء من قال: يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، روي عن ابن سيرين والزهري، وروي عن الحسن وابن عمر، وفيه حديث مرفوع، خَّرجه أبو داود، وفي إسناده جهالةٌ، وهو اختيار الجوزجاني.
وروي عن عمر، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا، فقال: دعيه لا يعنيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها.
وعن عروة، وميمون بن مهران، قالا: يؤمر بها إذا عقلها.
وعن بعض التابعين: يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين.
وعن النخعي ومالك: يؤمر بها إذا ثغر –يعني: تبدلت اسنانه.
النوع الثاني: أحاديث: ( ( رُفع القلم عن ثلاث) ) ، منهم: ( ( الصبي حتى
يحتلم) ) .
وفي ذلك أحاديث متعددة:
منها: عن عمر وعلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر، وعلى عليّ من قولهما.
وله طرق عن علي.
ومنها: عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ( ( وعن الصبي حتى يكبر) ) .
خَّرجه أبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه) ) من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
وقال النسائي: ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة؛ فإنه حسن.
ونقل الترمذي في ( ( علله) ) عن البخاري، أنه قالَ: ارجو أن يكون محفوظاً.
قيل له: رواه غير حماد؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن معين: ليس يرويه أحد، إلا حماد بن سلمة، عن حمادٍ.
وقال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء، وقالوا: لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ.
والله أعلم.
وقد تقدم: أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث:
الأول:
[ قــ :833 ... غــ :857 ]
- حدثنا محمد بن المثنى: ثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت سليمان الشيباني: سمعت الشعبي، قال: أخبرني من مر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبرٍ منبوذ، فأمهم وصفوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو: من حدثك؟ قالَ: ابن عباس.
مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه على القبر، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ( ( كتاب العلم) ) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال، ويصلي معهم عليها، ويصف معهم.
وقدر خَّرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه) ) هذا بلفظ آخر، وفيه:
( ( فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه) ) .
وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك، عن الشيباني بهذا الإسناد، وقال في حديثه: ( ( فقام فصلى عليه، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه) ) .
وهذه زيادة غريبة، لا أعلم ذكرها غير شريك، وليس بالحافظ، فإن كانت محفوظة استدل بها على صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة.
ومنهم من قال: يصلي على الجنازة الرجل وحده، منفرداً خلف الصفوف، منهم: القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه) ) وابن عقيل.
وقالوا: إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد
صفاً وحده كان أفضل.
واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري، قال: سمعت أم يحيى قالت: سمعت أنس بن مالك يقول: مات ابن أبي طلحة، فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أبو طلحه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ، وأشار بيده.
خَّرجه الإمام أحمد.
وخرج أبو حفص العكبري – من أصحابنا – بإسناده.
عن خير بن نعيم الحضرمي، أن أبا الزبير – أو عطاء بن أبي رباح – أخبره.
أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازةٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ، الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والصف الثالث رجلاً، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أيديهم.
وهذا مرسلٌ.
وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً، واستدل بحديث مالك بن هبيرة، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب) ) .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن.
[ قــ :834 ... غــ :858 ]
- ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: حدثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ) .
مراده بهذا الحديث هاهنا: الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث، كما أن قوله: ( ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ) ) ، إنما أراد به من بلغت المحيض.
وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أم المراد به التأكيد؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: أنه علي ظاهره، وإنه يأثم بتركه، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي، اللهم، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه، ولهم فيه وجهان، أصحهما: لا يجب.
فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه – أيضاً -، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم.
وإن قيل: أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب، فهل يدخل فيه الصبي؟
لا يخلو الصبي، إما أن لا يريد حضور الجمعة، فلا يؤمر بالغسل لها، وإما أن يريد حضورها مع الرجال، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا.
وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث.
ومذهب مالك؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة.
وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ، فيطؤها الرجل، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال – الغسل؟ فيه قولان مشهوران
للفقهاء:
أحدهما: يجب، وهو نص أحمد، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا، وهو قول إسحاق بن راهويه.
وقالت الشافعية: يصير بذلك جنباً، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل.
ولم يقولوا: أن غسله واجبٌ، لئلا يتوهم أنه مكلف به.
لا يجب، بل يستحب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأصحابنا؛ لأن الغسل عبادة بدنية، فلا تلزم الصبي، كالصوم والصلاة.
قال المحققون من أصحابنا: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه، وتمكينه من مس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد، وإلزامه به إذا بلغ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل، وغير ذلك من الأحكام، والصغر لا ينافي ذلك، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى –أيضاً.
ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه، ولو بلغ بعد أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض، ولا نعلم في ذلك خلافاً، إلا وجهاً شاذاً للشافعية، لا تعويل عليه.
ولكن؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب؟ فيه لأصحابنا وجهان.
وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً، على ما سبق.
ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة، على الخلاف في أن الموجب للطهارة، هل هو الحدث، أو إرادة الصلاة؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ.
ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها.
وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة، فمتفقٌ عليه.
نعم؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم.
ووجه عدم اشتراطه: أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ، ويشق منعهم منه بدون طهارة، لتكرره، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً.
وهو - أيضاً – قول الحنفية، وأصح الوجهين للشافعية؛ لهذا المعنى.
وهذا كله في حق الصبي المميز، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً.
وأما المميز إذا توضأ بالماء، فهل يصير مستعملاً؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ويحسن بناؤها على أن وضوءه: هل يوصف بالوجوب، أو بالاستحباب؟
والأظهر: أنه يصير مستعملاً، لأنه قد رفع حدثه، وأزال منعه من الصلاة.
وهو – أيضاً – أصح الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: ليس بمستعمل، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً.
قالوا: والصحيح: أنه مستعمل؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به، لا ما يأثم بتركه.
[ قــ :835 ... غــ :859 ]
- حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ من شنَّ معلقٍ، وضوءا خفيفا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى –وذكر الحديث.
وقد تقدم في أوائل ( ( كتاب الوضوء) ) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب.
والمقصود منه هاهنا: أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قام إلى جانب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي معه، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته، وإئتمامه بالإمام، ومصافته للإمام، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً، كما سبق ذكره.
وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي، وعلى أن من وقف مع صبي، فهل هو فذٌ، أم لا؟
[ قــ :837 ... غــ :861 ]
- حديث ابن عباس: أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ.
قد سبق هذا الحديث في ( ( باب: سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه) ) من طريق مالك، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة –هو: القعنبي -، عن مالكٍ.
والمراد بتخريجه هاهنا: الاستدلال على صحة صلاة النبي، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم.
وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها.
وهو أحد الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال.
وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.
استدلوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ) .
خرَّجه مسلم.
وبما روى شهر بن حوشبٍ: حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، وأراهم كيف يتوضأ، فأحصى الوضوء أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن، وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم اقام الصلاة، فتقدم فصلى – وذكر قصة الصلاة، ثم قال: إنها صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه الإمام أحمد بتمامه، وخرَّجه أبو داود مختصراً.
ولو قام الصبي في وسط الصف، ثم جاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، نص عليه، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ، وروي نحوه عن عمر – أيضاً -، فهذا قول الثوري وأحمد، وقد سبق ذكره في ( ( أبواب الصفوف) ) .
ولو كان الصبي في آخر الصف، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني، فقال أحمد: لا بأس به، هو متصلٌ بالصف.
وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض، على المنصوص لأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا يصاف في الفرض ولا في النفل، ولو قلنا: تصح إمامته في النفل.
وهذه طريقة أبي الخطاب، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته، وان لم تصح إمامته للرجال.
وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى.
وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً: إنهما يقفان خلفه، وعند أحمد: يقفان عن يمينه، أو يقف بينهما، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود، وقال: كان الأسود غلاماً.
وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة.
والله أعلم.
الحديث الخامس:
[ قــ :838 ... غــ :86 ]
- حديث عائشة: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
وقد سبق في ( ( أبواب المواقيت) ) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب، وأنها من وجهين: مسندٍ ومعلقٍ، وبقية الحديث.
والمقصود منه هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث السادس:
[ قــ :839 ... غــ :863 ]
- حدثنا عمرو بن عليَّ: ثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباسٍ، وقال له رجلٌ: شهدت الخروج مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره – وذكر بقية الحديث.
ويأتي في ( ( صلاة العيدين) ) – إن شاء الله.
وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ، عن يحيى، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن عباسٍ: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
والمراد في هذه الرواية بالخروج: الخروج للعيد.
والمقصود من الحديث هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد مع النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله: ( ( لولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره) ) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد، حتى يخرج حاشيته كلهم، صغيرهم وكبيرهم.
ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز، والإ فقد أدرك من حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك مدةً؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام، كما سبق في الحديث الماضي.
* * *
وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفُوفهم
لما أن تعين ذكر صفة الصلاة، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز، وصفوفهم مع الرجال.
وذكر في الباب أحاديث ستة، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها.
ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ.
وهي نوعان:
أحاديث: ( ( مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ) ) .
وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ، أجودها: من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والترمذي –وقال: حسنٌ صحيحٌ –وابن خزيمة في ( ( صحيحه) ) والحاكمُ –وقال: على شرط مسلم.
وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وقالوا: يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ، ويضرب على تركها لعشرٍ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وتقل ابن منصورٍ، عنهما، أنهما قالا: إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد.
واختلف أصحابنا: هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال، أم لا؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ، وضربه إذا نركها لعشر.
ومنهم من قال: هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً، يضربه على تركها.
وقد قيل: إن الضرب على الترك، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة.
ومن العلماء من قال: يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، روي عن ابن سيرين والزهري، وروي عن الحسن وابن عمر، وفيه حديث مرفوع، خَّرجه أبو داود، وفي إسناده جهالةٌ، وهو اختيار الجوزجاني.
وروي عن عمر، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا، فقال: دعيه لا يعنيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها.
وعن عروة، وميمون بن مهران، قالا: يؤمر بها إذا عقلها.
وعن بعض التابعين: يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين.
وعن النخعي ومالك: يؤمر بها إذا ثغر –يعني: تبدلت اسنانه.
النوع الثاني: أحاديث: ( ( رُفع القلم عن ثلاث) ) ، منهم: ( ( الصبي حتى
يحتلم) ) .
وفي ذلك أحاديث متعددة:
منها: عن عمر وعلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر، وعلى عليّ من قولهما.
وله طرق عن علي.
ومنها: عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ( ( وعن الصبي حتى يكبر) ) .
خَّرجه أبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه) ) من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
وقال النسائي: ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة؛ فإنه حسن.
ونقل الترمذي في ( ( علله) ) عن البخاري، أنه قالَ: ارجو أن يكون محفوظاً.
قيل له: رواه غير حماد؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن معين: ليس يرويه أحد، إلا حماد بن سلمة، عن حمادٍ.
وقال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء، وقالوا: لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ.
والله أعلم.
وقد تقدم: أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث:
الأول:
[ قــ :833 ... غــ :857 ]
- حدثنا محمد بن المثنى: ثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت سليمان الشيباني: سمعت الشعبي، قال: أخبرني من مر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبرٍ منبوذ، فأمهم وصفوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو: من حدثك؟ قالَ: ابن عباس.
مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه على القبر، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ( ( كتاب العلم) ) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال، ويصلي معهم عليها، ويصف معهم.
وقدر خَّرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه) ) هذا بلفظ آخر، وفيه:
( ( فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه) ) .
وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك، عن الشيباني بهذا الإسناد، وقال في حديثه: ( ( فقام فصلى عليه، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه) ) .
وهذه زيادة غريبة، لا أعلم ذكرها غير شريك، وليس بالحافظ، فإن كانت محفوظة استدل بها على صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة.
ومنهم من قال: يصلي على الجنازة الرجل وحده، منفرداً خلف الصفوف، منهم: القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه) ) وابن عقيل.
وقالوا: إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد
صفاً وحده كان أفضل.
واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري، قال: سمعت أم يحيى قالت: سمعت أنس بن مالك يقول: مات ابن أبي طلحة، فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أبو طلحه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ، وأشار بيده.
خَّرجه الإمام أحمد.
وخرج أبو حفص العكبري – من أصحابنا – بإسناده.
عن خير بن نعيم الحضرمي، أن أبا الزبير – أو عطاء بن أبي رباح – أخبره.
أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازةٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ، الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والصف الثالث رجلاً، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أيديهم.
وهذا مرسلٌ.
وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً، واستدل بحديث مالك بن هبيرة، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب) ) .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن.
[ قــ :834 ... غــ :858 ]
- ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: حدثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ) .
مراده بهذا الحديث هاهنا: الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث، كما أن قوله: ( ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ) ) ، إنما أراد به من بلغت المحيض.
وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أم المراد به التأكيد؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: أنه علي ظاهره، وإنه يأثم بتركه، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي، اللهم، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه، ولهم فيه وجهان، أصحهما: لا يجب.
فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه – أيضاً -، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم.
وإن قيل: أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب، فهل يدخل فيه الصبي؟
لا يخلو الصبي، إما أن لا يريد حضور الجمعة، فلا يؤمر بالغسل لها، وإما أن يريد حضورها مع الرجال، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا.
وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث.
ومذهب مالك؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة.
وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ، فيطؤها الرجل، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال – الغسل؟ فيه قولان مشهوران
للفقهاء:
أحدهما: يجب، وهو نص أحمد، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا، وهو قول إسحاق بن راهويه.
وقالت الشافعية: يصير بذلك جنباً، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل.
ولم يقولوا: أن غسله واجبٌ، لئلا يتوهم أنه مكلف به.
لا يجب، بل يستحب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأصحابنا؛ لأن الغسل عبادة بدنية، فلا تلزم الصبي، كالصوم والصلاة.
قال المحققون من أصحابنا: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه، وتمكينه من مس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد، وإلزامه به إذا بلغ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل، وغير ذلك من الأحكام، والصغر لا ينافي ذلك، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى –أيضاً.
ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه، ولو بلغ بعد أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض، ولا نعلم في ذلك خلافاً، إلا وجهاً شاذاً للشافعية، لا تعويل عليه.
ولكن؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب؟ فيه لأصحابنا وجهان.
وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً، على ما سبق.
ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة، على الخلاف في أن الموجب للطهارة، هل هو الحدث، أو إرادة الصلاة؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ.
ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها.
وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة، فمتفقٌ عليه.
نعم؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم.
ووجه عدم اشتراطه: أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ، ويشق منعهم منه بدون طهارة، لتكرره، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً.
وهو - أيضاً – قول الحنفية، وأصح الوجهين للشافعية؛ لهذا المعنى.
وهذا كله في حق الصبي المميز، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً.
وأما المميز إذا توضأ بالماء، فهل يصير مستعملاً؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ويحسن بناؤها على أن وضوءه: هل يوصف بالوجوب، أو بالاستحباب؟
والأظهر: أنه يصير مستعملاً، لأنه قد رفع حدثه، وأزال منعه من الصلاة.
وهو – أيضاً – أصح الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: ليس بمستعمل، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً.
قالوا: والصحيح: أنه مستعمل؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به، لا ما يأثم بتركه.
[ قــ :835 ... غــ :859 ]
- حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ من شنَّ معلقٍ، وضوءا خفيفا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى –وذكر الحديث.
وقد تقدم في أوائل ( ( كتاب الوضوء) ) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب.
والمقصود منه هاهنا: أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قام إلى جانب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي معه، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته، وإئتمامه بالإمام، ومصافته للإمام، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً، كما سبق ذكره.
وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي، وعلى أن من وقف مع صبي، فهل هو فذٌ، أم لا؟
[ قــ :837 ... غــ :861 ]
- حديث ابن عباس: أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ.
قد سبق هذا الحديث في ( ( باب: سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه) ) من طريق مالك، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة –هو: القعنبي -، عن مالكٍ.
والمراد بتخريجه هاهنا: الاستدلال على صحة صلاة النبي، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم.
وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها.
وهو أحد الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال.
وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.
استدلوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ) .
خرَّجه مسلم.
وبما روى شهر بن حوشبٍ: حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، وأراهم كيف يتوضأ، فأحصى الوضوء أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن، وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم اقام الصلاة، فتقدم فصلى – وذكر قصة الصلاة، ثم قال: إنها صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه الإمام أحمد بتمامه، وخرَّجه أبو داود مختصراً.
ولو قام الصبي في وسط الصف، ثم جاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، نص عليه، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ، وروي نحوه عن عمر – أيضاً -، فهذا قول الثوري وأحمد، وقد سبق ذكره في ( ( أبواب الصفوف) ) .
ولو كان الصبي في آخر الصف، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني، فقال أحمد: لا بأس به، هو متصلٌ بالصف.
وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض، على المنصوص لأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا يصاف في الفرض ولا في النفل، ولو قلنا: تصح إمامته في النفل.
وهذه طريقة أبي الخطاب، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته، وان لم تصح إمامته للرجال.
وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى.
وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً: إنهما يقفان خلفه، وعند أحمد: يقفان عن يمينه، أو يقف بينهما، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود، وقال: كان الأسود غلاماً.
وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة.
والله أعلم.
الحديث الخامس:
[ قــ :838 ... غــ :86 ]
- حديث عائشة: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
وقد سبق في ( ( أبواب المواقيت) ) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب، وأنها من وجهين: مسندٍ ومعلقٍ، وبقية الحديث.
والمقصود منه هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث السادس:
[ قــ :839 ... غــ :863 ]
- حدثنا عمرو بن عليَّ: ثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباسٍ، وقال له رجلٌ: شهدت الخروج مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره – وذكر بقية الحديث.
ويأتي في ( ( صلاة العيدين) ) – إن شاء الله.
وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ، عن يحيى، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن عباسٍ: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
والمراد في هذه الرواية بالخروج: الخروج للعيد.
والمقصود من الحديث هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد مع النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله: ( ( لولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره) ) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد، حتى يخرج حاشيته كلهم، صغيرهم وكبيرهم.
ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز، والإ فقد أدرك من حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك مدةً؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام، كما سبق في الحديث الماضي.
* * *