فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من توضأ في الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى

بَابُ
مَنْ توضَأ في الْجَنَابِةِ، ثُمَّ غَسَلَ سائرَ جَسَدهِ
وَلَمْ يعدْ غَسلْ مَواضِع الْوضُوءِ منْهُ مَرَّة أخرى

خرج فيهِ:
[ قــ :270 ... غــ :274 ]
- حديث ميمونة: قالت: وضع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءاً للجنابة، فكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم افاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيده.

خرجه من طريق الفضل بن موسى، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.

ووجه دلالة الحديث على ما بوب عليهِ: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ولم يعد غسل وجهه وذراعيه، وإنما غسل رجليه اخيراً؛ لأنه لم يكن غسلهما أولاً.

وقد خرج مسلم هذا الحديث، من رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، وفي حديثه: ( ( ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ أفرغ على راسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثُمَّ غسل سائر جسده) ) .
وقوله: ( ( غسل سائر جسده) ) يدل على أنه لم يعد غسل ما كانَ غسله منه قبل ذَلِكَ؛ لأن: ( ( سائر) ) إنما تستعمل بمعنى: ( ( الباقي) ) ، لا بمعنى:
( ( الكل) ) ، على الأصح الأشهر عندَ أهل اللغة.

وكذلك خرج مسلم حديث عائشة، من حديث أبي معاوية، عنة هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة - فذكرت الحديث، وفي آخره -: ( ( ثم أفاض على سائر جسده) ) .

وهو - أيضاَ -: دليل على أنه لم يعد غسل ما مضى غسله منه.

والعجب من البخاري - رحمه الله -، كيف ذكر في تبويبه ( ( من توضأ للجنابة ثم غسل سائر جسده) ) ، ولم يسق الحديث بهذا اللفظ، وإنما تتم الدلالة به.

ومقصوده بهذا الباب: أن الجنب إذا توضأ، فإنه يجب عليهِ غسل بقية بدنه، ولا يلزمه إعادة غسل ما غسله من أعضاء الوضوء.

والجنب حالتان:
إحداهما: أنه لا يلزمه سوى الغسل، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر - على قول من يقول: إن الجنابة المجردة لا توجب سوى الغسل، كما هوَ قول الشافعي وابن حامد من أصحابنا -، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل.

فإن بدأ بأعضاء الوضوء، فغسلهما، لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه، بغير
تردد.

وينوي بوضوئه الغسل، لا رفع الحدث الأصغر -: صرح به الشافعية، وهو ظاهر.
الحالة الثانية: أن يجتمع عليهِ حدث أصغر وجنابة، إما بأن يحدث، ثم يجنب، أو على قول من يقول: إن الجنابة بمجردها تنقض الوضوء وتوجب الغسل، كما هوَ ظاهر مذهب أحمد وغيره.

فهذه المسألة قد سبقت الإشارة إليها والاختلاف فيها.

وأكثر العلماء على تداخل الوضوء والغسل قي الجملة.

قالَ الحسن: إذا اغتمس في النهر، وهو جنب، أجزأه عن الجنابة والحدث.

فعلى هذا؛ إذا غسل اعضاء الوضوء مرة، لم يحتج إلى إعادة غسلها.

قالَ: أحمد العمل عندي في غسل الجنابة، أن يبدأ الرجل بمواضع الوضوء، ثم يغسل بعد ذَلِكَ سائر جسده.

ولكن على هذا التقدير، ينوي بوضوئه رفع الحدثين عن أعضاء الوضوء.

فإن نوى رفع الحدث الأصغر وحده، احتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل.

ثم إن المشهور عن أحمد - عندَ اصحابه كالخرقي ومن تابعه -: أن الغسل والوضوء لا يتداخلان، إلا بأن ينويهما، كالحج والعمرة في القرآن، وهو وجه
الشافعية.

وعلى هذا؛ فينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، صرح به ابن أبي موسى من أصحابنا.

ويلزم من ذَلِكَ وجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل مرة أخرى.

فإن نوى بالوضوء رفع الحدثين معاً، لم يلزمه إعادة غسلهما مرة أخرى.

والمنصوص عن الشافعي، أنهما يتداخلان بدون نية، نص على ذَلِكَ في
( ( الأم) ) ، وحكاه أبو حفص البرمكي رواية عن احمد، كما لو كانا من جنس واحد عندَ أكثر العلماء.
فعلى هذا، يجزىء الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر خاصة.

وإن نوى بالوضوء رفع الحدث الأصغر، كانَ أفضل -: قاله بعض الشافعية.

ولكن ينبغي أن يقولوا بوجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى في
الغسل.

وعلى هذا التقدير، فإن رفع الحدث الأصغر لا يندرج فيهِ الأكبر، بخلاف عكسه.

وعن أحمد رواية، أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بدون الإتيان بالوضوء، وحكي مثله عن مالك وأبي ثور وداود، وهو وجه الشافعية؛ لأن سببهما مختلف، فلم يتداخلا كحد الزنا وحد السرقة.

وعلى هذا فيجب غسل اعضاء الوضوء مرتين [ ... ] : مرة للوضوء، ومرة في الغسل، وينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، وبالغسل رفع الحدث الأكبر.

وقالت طائف: إن غسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية ارتفع عنهما الحدثان، وإذا نوى رفعهما، فلا يجب عليهِ إلا غسل باقي بدنه للجنابة، وإن لم يغسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية لم يرتفع عنها سوى حدث الجنابة، وعليه ان ياتي بالوضوء على وجهه؛ ليرفع الحدث الأصغر.

وحكي هذا عن إسحاق بن راهويه، وهو قول أبي بكر بن جعفر، ومن اتبعه من أصحابنا.

واعتبروا - أيضاً -: أن يمسح رأسه.

وقد سبق نص أحمد، على أنه لا يحتاج إلى مسح رأسه، بل يكفيه صب الماء
عليهِ.

وهو يدل على أن خصائص الوضوء عنده كلها غير معتبرة في وضوء غسل
الجنابة.

وهو - أيضاً - وجه لأصحاب الشافعي، لكنهم لا يعتبرون الموالاة ولا نية الحدث الأصغر، على الصحيح عندهم.

وعندنا؛ هما معتبران، على الصحيح.

وزعم أبو بكر الخلال: أن هذا القول هوَ مذهب أحمد، ووهم من حكى عنه خلافه فإن حنبلاً نقل عن أحمد، في جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق، لم يحركه، فصلى، ثم ذكر؟ قالَ: يغسل موضعه، ويعيد الصلاة.

قالَ الخلال: هذا وهم من حنبل لا شك فيهِ، لأن أحمد عنده أن من لم يحرك خاتمه الضيق في الوضوء وصلى، أنه يعيد الوضوء والصلاة.

قالَ أبو بكر ابن جعفر في كتاب ( ( الشافي) ) : هذا يدل على أنه لا بد في غسل الجنابة من الوضوء.

قلت: إنما قالَ أحمد: ( ( يعيد الوضوء والصلاة) ) في المحدث حدثا أصغر، فأما الجنب فإن المنصوص عن أحمد، أنه إذا انغمس في ماء وتمضمض، واستنشق، أنه يجزئه، بخلاف من يريد الوضوء، فإنه يلزمه الترتيب والمسح.

ولكن الخلال تأول كلامه، على أن الجنب يجزئه انغماسه في الماء من غسل الجنابة واما عن الوضوء فلا يجزئه حتى يرتب، كالمحدث الحدث الأصغر بانفراده.

ونقول: إن قول أحمد: ( ( إذا انغمس وأراد الوضوء لا يجزئه) ) عام فيمن أراد الوضوء وهو جنب أو محدث.

والذي عليهِ عامة الأصحاب، كالخرقي وابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأصحابه خلاف [ذَلِكَ] ، وأن أحمد إنما أراد المحدث حدثاً أصغر.

ورواية حنبل هذه صريحة في هذا المعنى، وقول الخلال: ( ( إنها وهم بغير شك) ) ، غير مقبول.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.