فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس

فيه حديث عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة: فحديث عمر: قال فيه:
[ قــ :565 ... غــ :581 ]
حدثنا حفص بن عمر: ثنا هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون – وأرضاهم عندي عمر -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس، قال: حدثني ناس بهذا.
إنما أعاده من طريق شعبة لتصريح قتادة فيه بالسماع من أبي العالية.
وقد قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء: هذا الحديث، وحديث ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متي) ، وحديث علي: ( القضاة ثلاثة) .
ذكره أبو داود والترمذي في ( كتأبيهما) عن شعبة – تعليقاً.
وقد خرج في ( الصحيحين) لقتادة عن أبي العالية، حديث ابن عباس في ( دعاء الكرب) ، وحديثه: في رؤية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الإسراء الأنبياء.
وقد روي هذا الحديث من حديث الحسن، عن أبي العالية، وليس بمحفوظ -: ذكره العقيلي.
وقول ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، معناه: أخبرني بذلك وحدثني به، ولم يرد أنهم أخبروه به بلفظ الشهادة عنده.
وهذا ما استدل به من يسوي بين لفظ الإخبار والشهادة،وقد نص عليه أحمد في الشهادة بالجنة للصحابة الذين روي أنهم في الجنة؛ فإن من الناس من قال: يقال: إنهم في الجنة، ولا نشهد، فقال أحمد: إذا قال فقد شهد.
وسوى بين القول والشهادة في ذلك.
وأمافي أداء الشهادة عند الحاكم، فاعتبر أكثر أصحابنا لفظ الشهادة، وذكر القاضي أبو يعلي في موضع احتمالاً آخر، بأنه لا يشترط ذلك.
وكان ابن عباس يروي – أحياناً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شهده وسمعه منه، ويقول: أشهد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال ذلك في روايته لخطبة العيد، وقد سبق حديثه بهذا في ( كتاب العلم) في ( باب: عظة الإمام النساء وتعليمهن) .
وقوله: ( نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس) ، أول هذا الوقت المنهي عن الصلاة فيه إذا طلع الفجر، وهو المراد بقوله في هذه الرواية: ( بعد الصبح) ؛ فإن الصبح هو الفجر، كما قال تعالى: { وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] ، وقال: { إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وهذا قول جمهور العلماء: أن أول وقت النهي عن الصلاة إذا طلع الفجر.
وروي معنى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة.
وقال النخعي: كانوا يكرهون ذلك.
وكرهه سعيد بن المسيب، قال: هو خلاف السنة.
وعطاء والحسن – [قال] : وما سمعت فيه بشيء -، والعلاء بن زياد وحميد ابن عبد الرحمن.
وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه.
وذكر أبو نصر بن الصباغ من الشافعية: أنه ظاهر مذهب الشافعي.
وحكى الترمذي في ( جامعه) أن أهل العلم أجمعوا عليه، وكرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) .
وله طرق متعددة عن ابن عمر.
وخرج الطبراني والدارقطني والبزار نحوه من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الطبراني نحوه من حديث ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وله عنه طرق.
وروي عن ابن المسيب مرسلاً، وهو أصح.
ومراسيل ابن المسيب أصح المراسيل.
وفي ( صحيح مسلم) ، عن حفصة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين.
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أي الساعات أفضل؟ قال: ( جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مكتوبة مشهودة حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا صلاة، إلا الركعتين حتى تصلي الفجر) .
وخرجه ابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه، وقال فيه: ( فصل ما بدا لك حتى يطلع الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس) .
وخرجه النسائي، وعنده: ( حتى تصلي الصبح) .
فقد تعارضت الروايتان في حديث عمرو بن عبسة.
ومما يدل على أن وقت النهي يدخل بطلوع الفجر: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( إن بلالاً يؤذن بليل حتى يرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) .
وقد خرجاه في ( الصحيحين) من حديث ابن مسعود.
فإن معنى: ( يرجع قائمكم) : أن المصلي بالليل يمسك عن الصلاة ويكف عنها.
وقد رخص طائفة من العلماء في بعض الصلوات بعد طلوع الفجر، قبل صلاة الفجر، كالوتر وصلاة الليل.
روي عن عمر وعائشة في صلاة الليل.
وإلى ذلك ذهب مالك في الوتر وقضاء صلاة الليل.
وروي عن عطاء.
ونص أحمد عليه في الوتر، وحكى ابن أبي موسى مذهب أحمد جواز قضاء صلاة الليل فيه بغير خلاف حكاه في المذهب، وحكى الخلاف في بقية ذوات الأسباب، كتحية المسجد وغيرها.
وقال آخرون: لا يدخل وقت النهي حتى يصلي الفجر.
ورويت الرخصة في الصلاة قبل صلاة الفجر عن الحسن وطاوس.
والمشهور عند عامة أصحاب الشافعي من مذهبه: الرخصة في ذلك، حتى يصلي الفجر.
وحكي رواية عن أحمد.
وفي ( صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة، أنه قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ فقال: ( صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحيئذ يسجد لها الكفار) – وذكر الحديث.
وهذا إنما يدل بمفهومه، وقد عارض مفهومه منطوق الروايات الأولى، فيقدم المنطوق عليه.
وقوله: ( حتى تشرق الشمس) هكذا الرواية: ( تشرق) بضم التاء وكسر الراء، من قولهم: أشرقت الشمس.
وزعم بعضهم: أن الصواب: ( تشرق) بفتح التاء، وضم الراء، من قولهم: شرقت الشمس، إذا طلعت.
قال: ومعنى أشرقت: أضاءت وصفت.
قال: والمناسب هنا ذكر طلوعها، لا ذكر إضاءتها وصفائها.
وهذا ليس بشيء، والصواب: ( تشرق) ، والمعنى: حتى ترتفع الشمس، كما بوب عليه البخاري.
والنهي يمتد إلى أن ترتفع وتضيء ويصفو لونها، كما في حديث أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس) .
وسيأتي – إن شاء الله.
مع أن كلا الحديثين قد روي فيه: ( حتى تطلع الشمس) ، وهو من رواية بعض رواته بالمعنى الذي فهمه منه.
والله أعلم.


وحديث ابن عمر: قال البخاري:
[ قــ :566 ... غــ :58 ]
حدثنا مسدد: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) .


[ قــ :567 ... غــ :583 ]
قال: وحدثني ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصالة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فاخروا الصلاة، حتى تغيب) .
تابعه: عبدة.
وحديث عبدة الذي أشار إلى متابعته: قد خرجه في ( كتاب بدء الخلق) : أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان) – أو ( الشيطان) ، لا أدري أي ذلك قال هشام؟ وخرجه مسلم من رواية وكيع وابن نمير ومحمد بن بشر، كلهم عن هشام – بنحوه.
وفي رواية له: ( فإنها تطلع بقرني الشيطان) .
وإنما احتاج البخاري إلى ذكر المتابعة في هذا الإسناد؛ لأن عروة قد اختلف عليه فيه: وهما حديثان: حديث: ( لا تحروا بصلاتكم) ، وحديث: ( إذا طلع حاجب الشمس) .
وقد روى ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: حديث: ( إذا طلع حاجب الشمس) - الحديث، ووهم في قوله: ( عن عائشة) .
ورواهما عن مالك وعروة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.
وروى مسلمة بن قعنب، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر – أو: ابن عمرو -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حديث: ( لا تحروا) .
والصحيح: قول القطان ومن تابعه -: [رواه] الدارقطني.
وذكر ابن عبد البر أن أيوب بن صالح رواه، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
قال: وأيوب هذا ليس ممن يحتج به، وليس بالمشهور بحمل العلم.
وروى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حديث: النهي عن الصلاة عند الطلوع والغروب.
خرجه الإمام أحمد.
وروى ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة – موقوفاً -: إذا طلع حاجب الشمس.
والصواب: حديث عروة، عن ابن عمر.
ومن قال: ( عن عائشة) فقد وهم: ذكره الدارقطني وغيره.
فإن عروة عن عائشة سلسلة معروفة يسبق إليها لسان من لا يضبط ووهمه، بخلاف: عروة،عن ابن عمر، فإنه غريب، لا يقوله إلا حافظ متقن.
ورواه الدراوردي، عن هشام، عن أبيه، عن سالم، عن أبيه.
ووهم في قوله: ( عن سالم) ، ولم يتابع عليه -: قاله الدارقطني – أيضا.
واختلف في معنى قوله: ( تطلع بين قرني الشيطان) على قولين: أحدهما: أنه على ظاهره وحقيقته.
وفي حديث الصنابحي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارنها فإذا دلكت) – أو قال: ( زالت – فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فلا تصلوا هذه الساعات الثلاث) .
خرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه.
وروى أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن الشمس إذا طلعت أتاها ملك عن الله يأمرها بالطلوع، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه الله فيها، وما غربت الشمس قط إلا خرت لله ساجدة، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الغروب، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تحتها، وذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ما طلعت إلا بين قرني شيطان، ولا غربت إلا بين قرني شيطان) .
خرجه ابن عبد البر.
والهذلي، متروك الحديث.
وأهل هذا القول، منهم من حمل القرن على ظاهره، وقال: يمكن أن يكون للشيطان قرن يظهره عند طلوع الشمس وغروبها.
ومنهم من قال: المراد بقرنيه جانبي رأسه، وإليه ميل ابن قتيبة.
والقول الثاني: أن المراد بطلوعها وغروبها بين قرني الشيطان: من يسجد لها من المشركين، كما في حديث عمرو بن عبسة المتقدم، ( إنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .
والقرن: الأمة.
ونسبه إلى الشيطان؛ لطاعتهم إياه، كما قال: { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] .
ومنه: قول خباب في القصاص للإنكار عليهم: هذا قرن [قد] طلع.
ورجح هذا القول كثير من المتأخرين أو أكثرهم، وفيه نظر؛ فإن حديث عمرو بن عبسة يدل على أن طلوعها بين قرني الشيطان غير سجود الكفار لها؛ ولأن الساجدين للشمس لا ينحصرون في أمتين فقط.
وقالت طائفة: معنى: ( بين قرني الشيطان) : أن الشيطان يتحرك عند طلوعها ويتسلط -: قاله إبراهيم الحربي، ورجحه بعضهم بأنه يقال: أنا مقرن لهذا الأمر، أي: مطيق له.
وهذا بعيد جداً.
والله أعلم.


وحديث أبي هريرة:
قال البخاري:
[ قــ :568 ... غــ :584 ]
- حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين، وعن لبستين، وعن صلاتين: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن اشتمال الصماء، وعن الاحتباء في ثوب واحد، يفضي فرجه إلى السماء، وعن المنابذة والملامسة.

النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء سبق الكلام عليه.

والنهي عن المنابذة والملامسة موضعه البيع.

وأماالنهي عن الصلاتين، فهو موافق لحديث عمر المتقدم.