فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب السترة بمكة وغيرها

باب
السترة بمكة وغيرها
[ قــ :488 ... غــ :501 ]
- حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونصب بين يديه عنزة، وتوضأ، فجعل الناس يتمسحون بوضوئه.

مراد البخاري: أن السترة تشرع بمكة وغيرها، واستدل بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالبطحاء - وهو أبطح مكة - في حجته إلى عنزة.

وقد اختلف العلماء في حكم مكة في السترة: هل حكمها كحكم سائر
البلدان، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن حكمها في سترة الصلاة حكم سائر البلدان، وهو اختيار البخاري وقول [........] والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.

وروي نحوه عن ابن عمر:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة) ) : ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد الفقير، قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلا اكره أن يمر بين يديه منه.

ثنا عبد العزيز الماجشون، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحدا يمر بين يديه، يبادره - قال: يرده.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: رأيت انس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها.

القول الثاني: أن مكة تجوز الصلاة فيها إلى غير سترة، والمرور بين يدي المصلي من غير كراهة في ذلك، وهو قول طاوس وعطاء وأحمد، نص عليه في رواية ابن الحكم وغيره.

وكان محمد بن الحنفية يصلي بمسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه.

وروى ابن جريج، عن ابن أبي عمار، قال: رأيت ابن الزبير طاف بالبيت، ثم جاء فصلى، والطواف بينه وبين القبلة.

قال: تمر بين يديه المرأة فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدميها.

واستدل الإمام أحمد بحديث المطلب بن أبي وداعة:
وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فيصلي ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطواف أحد.

وخرجه الإمام أحمد - أيضا - عن ابن عيينة، قال: حدثني كثير بن كثير ابن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث، عن جده، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مما يلي الباب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينهم سترة.

قال ابن عيينة: وكان ابن جريج أخبرنا عنه، فقال: ثنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي، عن جدي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى مما يلي باب بني سهم، ليس بينه وبين الطواف سترة.

وخرجه أبو داود عن الإمام أحمد.

وقد تبين برواية ابن عيينة هذه أنها أصح من رواية ابن جريج، ولكن يصير في إسنادها من لا يعرف.

وقد رواه غير واحد عن كثير بن كثير كما رواه عنه ابن جريج.

وصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح إلى العنزة لا يعارض حديث المطلب؛ لأن حديث المطلب دل على جواز الصلاة بمكة إلى غير سترة، وحديث أبي جحيفة دل على جواز الصلاة بمكة إلى سترة.

وقد نص أحمد على أن مكة مخصوصة من بين البلدان بذلك ومن أصحابنا من قال: إن حكم الحرم كله كذلك، ولو قيل: إن الصلاة إلى غير سترة مختص بالمسجد الحرام وحده دون بقاع مكة والحرم لكان جمعا بين الحديثين متوجها، وكلام القاضي أبي يعلى في كتابه ( ( الجامع الكبير) ) يدل عليه، وصرح به غيره من أصحابنا.

وحمل الشافعي حديث المطلب بن أبي وداعة على أن الأمر بالصلاة إلى السترة على الاستحباب دون الوجوب، كما حمل عليه حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار.

وحديث أبي جحيفة قد يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالهاجرة الظهر والعصر، فجمع بينهما في أول وقتهما وهو مقيم بمكة، ولم يستدل به أحد - فيما نعلم - على الجمع بين الصلاتين.

وقد جاء في رواية للإمام أحمد: ( ( فصلى الظهر أو العصر) ) - بالشك.

ولكن رواية من قال: ( ( بالهاجرة) ) يدل على أنه صلى الظهر بغير شك.

وقد خرجه مسلم، ولفظه: فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.

وهذا يدل على أنه إنما صلى العصر في وقتها.

وقد رواه حجاج بين أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين.

خرجه من طريقه ابن سعد.
وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين.

وحجاج بن أرطاة، وإن كان متكلما فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني.