فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما قيل في الزلازل والآيات

باب ما قيل في الزلازل والآيات
فيه حديثان:
الأول:
[ قــ :1002 ... غــ :1036 ]
- نا أبو اليمان: أنا شعيب: أنا
أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن
أبي هريرة، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر
الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل -،
[حتى يكثر فيكم المال فيفيض] ".

هذا قطعة من حديث طويل، قد خرجه بتمامه في " كتاب الفتن ".

وقبض العلم، قد سبق الكلام عليه بما فيه
كفاية.

وتقارب الزمان، فسر بقصر الأعمار، وفسر بقصر الأيام في زمن الدجال.

وقد روي في ذلك أحاديث
متعددة، الله أعلم بصحتها.

وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث.

والظاهر: أنه
حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض
وتحركها.

ويمكن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة
الفتن المزعجة الموجبة
لارتجاف القلوب.

والأول أظهر؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن.
وكأن البخاري
ذكر هذا الباب استطرادا لذكر الرياح واشتدادها، فذكر بعده
الآيات والزلازل.

وقيل: إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها؛ فإن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذكر ظهورها
وكثرتها، ولم
يأمر بالصلاة لها، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر، وكما
أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل
ونحوها من الآيات.

وقد اختلف العلماء في الصلاة للآيات:
فقالت طائفة: لا يصلى لشيء منها سوى كسوف
الشمس والقمر، وهو قول
مالك والشافعي.

وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه صلى لها
، هو
ولا أحد من الصحابة.

وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، قالت:
زلزلت
الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي، فلم يدر
بها، ولم يوافق أحدا يصلي فدرى بها،
فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم،
لقد عجلتم.
قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين
ظهرانيكم.

خرجه البيهقي.

وخرجه حرب الكرماني، من رواية أيوب، عن نافع - مختصرا.

وروي أيضا من
رواية ليث، عن شهر، قال: زلزلت المدينة على عهد
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " إن الله يستعتبكم فاعتبوه ".

وهذا مرسل ضعيف.

وقالت طائفة، يصلى لجميع الآيات في البيوت فرادى، وهو قول سفيان
وأبي حنيفة وأصحابه.

وكذلك إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد، قال: صلاة الآيات
وصلاة الكسوف
واحد.

كذا نقله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتابه " الشافي " من طريق
الجوزجاني، عن الشالنجي، عن
أحمد.

ونقله - أيضا - من طريق الفضل بن زياد وحبيش بن مبشر، عن أحمد -
أيضا.

والذي نقله
الجوزجاني في كتابه " المترجم "، عن إسماعيل بن سعيد،
قال: سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر
والزلازل؟ قال: تصلى
جماعة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وكذلك الزلزلة.

قال: وبذلك قال أبو أيوب -
يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.

وقال: ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة.

وقد نقل أبو
بكر في " الشافي " هذا - أيضا - من طريق الجوزجاني.

وخرج الجوزجاني من حديث عبد الله بن الحارث بن
نوفل، قال: صلى
بنا ابن عباس في زلزلة كانت، فصلى بنا ست ركعات في ركعتين، فلما انصرف
التفت إلينا
وقال: هذه صلاة الآيات.

فالمنصوص عن أحمد إنما يدل على الصلاة للزلزلة خاصة، وهو الذي عليه
عامة
أصحابنا، وخصوه بالزلزلة الدائمة التي يتمكن من الصلاة لها مع وجودها.

وروي عن ابن عباس، أنه صلى
للزلزلة بعد سكونها وانقضائها.

وحكى بعض أصحاب الشافعي قولا له: أنه يصلى للزلزلة.

ومنهم من حكاه في جميع الآيات.

وحكى ابن عبد
البر، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور: الصلاة للزلزلة
والطامة والريح الشديدة.

وهذا يدل على استحبابها لكل آية،
كالظلمة في النهار، والضياء المشبه
للنهار بالليل، سواء كان في السماء أو انتثار الكواكب، وغير ذلك.

وهو
اختيار ابن أبي موسى من أصحابنا، وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز في
" الشافي " - أيضا.

وممن روي عنه،
أنه يصلي في الآيات: ابن عباس.

وفي " المسند " و" سنن أبي داود "، عنه، أنه سجد لموت بعض أزواج
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وقال: سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا رأيتم آية فاسجدوا ".
وروي عن عائشة، قالت: صلاة الآيات
ست ركعات وأربع سجدات.

وروي عنها - مرفوعا.

خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة،
عن عطاء، عن
عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقوم في صلاة
الآيات، فيركع ثلاث
ركعات، ويسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات،
ثم يسجد سجدتين.

واستدل به على الصلاة للزلزلة.

ولكن رواه وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، فوقفه على عائشة،
وهو
الصواب.

وخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر "، من رواية مكحول، عن أبي صخر
زياد بن صخر، عن
أبي الدرداء، قال: كان النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إذا كانت ليلة ريح كان
مفزعه إلى المسجد، حتى تسكن الريح، وإذا حدث في
السماء حدث من كسوف
شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة، حتى ينجلي.

وهو منقطع، وفي إسناده: نعيم بن
حماد، وله مناكير.

وخرج أبو داود من رواية عبيد الله بن النضر، قال: أخبرني أبي،
قال: كانت ظلمة على
عهد أنس بن مالك.
قال: أتيت أنس بن مالك، فقلت
يا أبا حمزة: هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ؟ فقال
: معاذ الله، إن
كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة.

وبوب عليه: " باب: الصلاة عند الظلمة ".

وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح - أيضا.

وأبو داود، من أجل أصحاب الإمام أحمد.

ثم بوب على
السجود عند الآيات، وذكر فيه حديث ابن عباس المتقدم.

وظاهره: يدل على أن الآيات يسجد عندها سجودا مفردا
، كسجود الشكر
من غير صلاة.

وذكر الشافعي، أنه بلغه عن عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن
علي، أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات: خمس ركعات
وسجدتين في ركعة، [وركعة] وسجدتين
في ركعة.

قال الشافعي: ولو ثبت هذا الحديث عندنا لقلنا به.

قال البيهقي: هو ثابت عن ابن عباس.

ثم ذكر بنحو ما
تقدم.

وله طرق صحيحة، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس.

وروى حرب: نا إسحاق، نا جرير،
عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، قال: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة.
وخرجه
البيهقي من رواية حبيب بن حسان، عن الشعبي، عن علقمة،
قال: قال عبد الله: إذا سمعتم هادا من السماء،
فافزعوا إلى الصلاة.

وخرجه ابن عدي من رواية حبيب بن حسان، عن إبراهيم والشعبي،
عن علقمة، عن عبد
الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إذا فزعتم من أفق من آفاق
السماء، فافزعوا إلى الصلاة ".

وقال: حبيب بن حسان
، قد اتهم في دينه، ولا بأس برواياته.

قلت: الصحيح: رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة - من قوله.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروى حرب بإسناده، عن أبي الجبر، قال: أظلمت يوما نهارا، حتى
رأينا الكواكب
، فقام تميم بن حذلم، فصلى، فأتاه هني بن نويرة، فسأله ما
صنع؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي.

واعلم؛ أن الشغل بالصلاة في البيوت فرادى عند الآيات أكثر الناس
على
استحبابه، وقد نص عليه الشافعي وأصحابه.

كما يشرع الدعاء والتضرع عند ذلك؛ لئلا يكون عند ذلك
غافلا.

وإنما محل الاختلاف: هل تصلى جماعة، أم لا؟ وهل تصلى ركعة
بركوعين كصلاة الكسوف، أم لا؟
وظاهر كلام مالك وأكثر أصحابنا: أنه لا تسن الصلاة للآيات جماعة ولا
فرادى.

وفي " تهذيب المدونة ":
أنكر مالك السجود للزلزلة.

ولا وجه لكراهة ذلك، إلا إذا نوى به الصلاة لأجل تلك الآية الحادثة دون
ما إذا نوى
به التطوع المطلق.

وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة
بالتوبة والاستغفار
، ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم
ونهاهم، واستحسن ذلك الإمام.

وروي عن عمر بن عبد
العزيز، أنه كتب إلى أهل الأمصار: إن هذه الرجفة
شيء يعاتب الله به العباد، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا
أن يخرجوا يوم
كذا وكذا، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول: ( قد أفلح من
تزكى)
[الأعلى: 14] ، وقولوا كما قال أبوكم آدم: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23] ، وقولوا كما قال نوح: ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) [هود، 47] ،
وقولوا كما قال موسى:
( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) [القصص: 16] ، وقولوا كما قال ذو النون:
( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء: 87] .

وقال أبو بكر الخلال في " كتاب العلل "
: نا أبو بكر المروذي، قال:
سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يقول: سألني إنسان عن الرجفة، فكتبت
له هذا
الحديث - وقال: ما أحسنه -: أنا أبو المغيرة، قال: أصاب الناس
رجفة بحمص، سنة أربع وتسعين، ففزع
الناس إلى المسجد، فلما صلى أيفع
بن عبد الكلاعي صلاة الغداة، قام في الناس، فأمرهم بتقوى الله، وحذرهم
وأنذرهم، ونزع القوارع من القرآن، وذكر الذين أهلكوا بالرجفة قبلنا، ثم
قال: والله، ما أصابت قوما قط قبلكم إلا
أصبحوا في دارهم جاثمين،
فاحمدوا الله الذي عافاكم ودفع عنكم، ولم يهلكم بما أهلك به الظالمين قبلكم،
وكان أكثر
دعائه: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحانه الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفروا الله، ويقول:
يا أيها الناس، عليكم
بهؤلاء الكلمات؛ فإنهن القرآن، وهي الباقيات الصالحات.

ثم إن أيفع قال لأبي ضمرة
القاضي: قم في الناس، فقام فصنع كما صنع،
أيفع، فلما قضى موعظته انصرف، ثم صنع ذلك دبر الصلوات
ثلاثة أيام،
فاستحسن ذلك المسلمون.

ومما يتعلق بالزلزلة: هل يجوز الخروج منها والهرب إلى الصحراء؟
قال الأوزاعي: لا بأس به؛ كل يعلم أنه ليس يسبق قدر الله من فر ومن
جلس، قال: والجلوس أحب إلي.

خرجه حرب، من رواية الوليد بن مسلم، عنه.

قال حرب: وسألت إسحاق بن راهويه، عن الرجل يكون في
بيته،
فتصيبه الزلزلة: هل يقوم فيخرج من البيت؟ قال: إن فعل فهو أحسن.

وقد صنف في هذه المسألة أبو
القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي مصنفا،
ولم يذكر في ذلك أثرا عمن تقدم من العلماء، لكنه حكى عن بعض من في
زمانه، أنه استحب الفرار منها.

واستدل بحديث مرور النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بحائط مائل، فأسرع، وقال: " أكره موت
الفوات ".

وهذا حديث مرسل،
خرجه أبو داود في " مراسيله ".

وقد روي مسندا، ولا يصح.

ورد أبو القاسم على هذا القائل قوله، وألحق
الفرار منها بالفرار من
الطاعون.

وفي ذلك نظر؛ لأن الفرار من الطاعون لا يتيقن به النجاة، بل الغالب فيه
عدم النجاة، وأما الخروج من المساكن التي يخشى وقوعها بالرجفة فيغلب على
الظن منه السلامة، فهو كالهرب من
النار والسيل ونحوهما.

والحديث المرسل الذي ذكرناه يشهد له.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

وإنما جاء النهي عن
الخروج من الرجفة إلى الدجال، إذا حاصر المدينة،
فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.




[ قــ :1003 ... غــ :1037 ]
- نا محمد بن المثنى: نا حسين بن الحسن: نا ابن عون، عن نافع،
عن ابن عمر
، قال: اللهم، بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا: وفي نجدنا.
قال:
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا.
وقالوا:
وفي نجدنا.
قال: هناك الزلازل والفتن،
وبها يطلع قرن الشيطان.

هكذا خرجه البخاري هاهنا موقوفا.

وحسين بن الحسن بصري، من آل مالك بن يسار، أثنى عليه الإمام أحمد،
وقال: كان يحفظ عن ابن عون.

وخرجه البخاري في " الفتن " من رواية أزهر السمان - مرفوعا.

وكذا رواه
عبد الرحمن بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -
أيضا.

خرج حديثه الإمام أحمد.

وكذا رواه أبو
فروة الرهاوي يزيد بن سنان - على ضعفه -: نا أبو رزين،
عن أبي عبيد - صاحب سليمان -، عن نافع، عن
ابن عمر - مرفوعا.

وقد روي - أيضا - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .

ذكره
الترمذي في آخر " كتابه " - تعليقا.

ورواه - أيضا - بشر بن حرب، عن ابن عمر، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .


خرجه
الإمام أحمد - أيضا.

والاستدلال بهذا الحديث على أن لا صلاة للزلزلة بعيد، والاستدلال
بالحديث الذي قبله -
أيضا -؛ لأن هذا إنما سيق لذم نجد وما يحدث فيه، كما
أن الذي قبله سيق لذم آخر الزمان، وما يحدث فيه، دون
أحكام ما ذكر من
قبض العلم وتقارب الزمان وكثرة الهرج.

وأحكام هذه الحوادث مذكورة في مواضع أخر.

فلا يدل السكوت
عنه هاهنا على شيء من أحكامها بنفي ولا إثبات، فكذلك
يقال في أحكام الزلازل.
والله أعلم.